طبقًا لمعظمِ التحليلات، عكست انتخاباتُ الكنيست الرابعة والعشرين انزياحًا واضحًا للمجتمع الإسرائيليّ تجاهَ أقصى اليمين. حقّقت الأحزابُ الدينيّةُ إنجازًا تاريخيًّا؛ حيث تمكّنت ثلاثةٌ منها بالحصول على 34 مقعدًا (الصهيونيّة الدينيّة، شاس، ويهوديت هتوراه). قفزت الصهيونيّةُ الدينيّةُ من 6 مقاعد في الانتخابات السابقة إلى 14 مقعدًا، ضمَّ تحالفها حزبي "عوتسما يهوديت" الكهاني بزعامة إيتمار بن غفير، و"الصهيونيّة الدينيّة" بزعامة بتسلئيل سموتريتش وحزب "نوعم" المتشدّد.
يتراوحُ حجم الصهيونيّة الدينيّة في الشارع الإسرائيليّ ما بين 11-12%، وتضمُّ ليبراليين متدينين وأصولّيين متشدّدين؛ يجمعون بين التزمّت القوميّ (الراديكالي والمحافظ) والتشدّد الدينيّ (الحريدي). ربّما تكون الانتخاباتُ وضعت حدًّا لالتباس الهُويّة بين الديموقراطيّة واليهوديّة، لصالح دولةٍ يهوديّةٍ عنصريّةٍ وفاشيّة.
ولكن، ماذا يعني صهيونيّة دينيّة؟ ثمّةَ عناصرُ مشتركةٌ بين تياراتها: (a) مشيئة الله تقول ألا ننتظر عودة المسيح بسلبية. (b) الدولة يجب أن تدين بالولاء للتوراة. (c) الاستيطان (واعتباره واجبًا شخصيًّا وتكليفًا دينيًّا، وليس مجرّد حلٍّ تقنيٍّ لأزمة السكن). ليبراليو الصهيونيّة الدينيّة يرون في الهجرة والاستيطان وإقامة الدولة واجبًا مدنيًّا، وليس جزءًا من الخلاص الديني. استعارت الصهيونية من الحقل الديني 3 أفكار تأسيسيّة: السيادة (يهوشع بن نون)، الاستيطان (القضاة)، الدولة (المملكة).
من سمات "الصهيونيّ الدينيّ"، طبقًا لأدبيّاتهم المنشورة: الالتزام الشخصي بالهجرة إلى إسرائيل، والدفاع عن دولة اليهود، التي يعتبر قيامها بداية رحلة الخلاص، الاعتقاد بأنّ الصهيونيّة الدينيّة هي حركة "تحقيق مشيئة الله"، وأنّ الخلاص يظهر في عمليّاتٍ معقّدةٍ مصحوبةٍ بأزمات، يؤمن بأنه مكلّفٌ بمهمّةٍ إلهيّة (قيادة إحياء التوراة وتطوير دولة يهودية). ثمّة يهود موالون للدولة فقط، وآخرون موالون للتوراة، أما الصهيوني الديني فيؤمن بدولة يهودية تعيش وفقا للتوراة.
في تاريخهم الحديث، وبعد سنين من المنفى، واجه اليهود تحديين: علاقة التوراة بكل من الصهيونية والحداثة الغربية. انقسموا إلى 3 جماعات: (1) أرثوذوكس يرفضون الصهيونية، وكذلك الحداثة. (2) صهاينة علمانيون تخلوا عن التوراة واختاروا الحداثة. (3) صهاينة متدينون لا يجدون تناقضا بين التوراة والصهيونية (ليبرالي/محافظ).
خلفية صعود الصهيونية الدينية
كان المؤسّسون الأوائل في حاجة لتبرير مشروعهم الصهيوني في فلسطين من خلال أوهام وأساطير توراتيّة وتحويلها إلى حقائقَ تاريخيّةٍ (علمنة الدين). بذلك، حملت الصهيونية بذرة تحولها إلى أصوليّةٍ دينيّةٍ وقوميّة. منذ البدايات، كان واضحًا أنّ الأشياء تمضي، مع الوقت، في مسار صاعدٍ نحو دولةٍ دينيّةٍ خالصة.
(1) جاءت الفكرةُ الصهيونيّةُ في عصر البرجوازيّات الأوروبيّة؛ لكنّها كانت بحاجةٍ إلى مسوّغٍ دينيٍّ وجدته في العهد القديم. مع الوقت، انفلت عقال المسيانية! ومع تشكل التيار التصحيحي أصبح بناء الهيكل الثالث بمثابة التعبير الملموس عن استعادة التاريخ القومي والسيادة الكاملة على الأرض. طبقًا لأقوال ديفيد بن غوريون أقيمت إسرائيل دولةً يهوديّةً "مستمدةً من المخيال الديني حقيقة سياسية، جسدتها قوة عسكرية وإسناد دولي لطائفة مستهدفة من النازي". لعقود تلت، مع ذلك، ظلّ الفصل بين الخلاصين الديني والعلماني قائمًا.
(2) جاء التحوّل الفكريّ الأساس مع صعود قوّة الحاخام أبراهام هكوك، الراب الأشكنازي الأوّل في فترة الانتداب، أسس "مركز الحاخام" عام 1924. اعتبر هكوك الصهيونيّة حتى في صيغتها العلمانيّة جزءًا من الخطّة الربانيّة لتحقيق الخلاص المسياني. حتى 1967 هيمنت على إسرائيل حركة مباي، التي تعكسُ تحقّق الصهيونيّة بصيغتها الغربيّة (علمانيّة استعماريّة)، كانت قادرةً على إقامة الفكرة القوميّة وَفْقَ دينٍ مدنيٍّ يوظّفُ الأسطورة الدينية ويتبعها لمشروعه السياسي، أسهم في قدرتها على الهيمنة تبني حزب المفدال (وريث المزراحي) خط الراب راينس في الفصل بين الخلاصين الديني والعلماني.
(3) استمرَّ كوك الابن في تطوير وتوسيع البعد الديني الخلاصي، وقد تحوّلَ إلى الأب الروحي والقائد الملهم للصهيونيّة الاستيطانيّة. كما تحوّلَ مركز الحاخام بعد 1967 إلى توليد وترويج للقيم الصهيونيّة الاستيطانية. وبتأثير كوك سرعان ما حدثَ تمرّدٌ على قيادات المفدال حليف مباي، ليتحالف مع الليكود ويسهمُ بالانقلابِ عامَ 1977. هذه التغيراتُ الاستراتيجيّةُ (تنظيرات الراب كوك، احتلال الضفة الغربيّة وقطاع غزة، فض تحالف المفدال مع مباي، انقلاب 1977) أدّتْ إلى إعادة تديين القوميّة المعلمنة حولَ الخلاص وقداسة أرض إسرائيل. وبذلك، صعدت الحركاتُ الهامشيّةُ إلى مركز الحقل السياسي الإسرائيلي: صهيونية الراب كوك الدينية، والصهيونية اليمينية التصحيحية والقومية (حيروت/الليكود لاحقًا).
(4) سرعانَ ما انتظمَ الحقلُ السياسيُّ بين معسكرين أساسيين: (a) اليمين القومي والديني الاستيطاني. (b) التيّار المؤسّس والمتبنّي مفاهيم قوميّة أوروبيّة علمانيّة. من بين ظهراني اليمين القومي والديني والاستيطاني، أي من رحم صهيونيّة كوك، خرجت حركة "غوش إيمونيم" التي تمرّدتْ على القيادة التقليدية للمفدال، لتعيد استكمال المشروع الخلاصي ليس مشروعًا سياسيًّا معلمنًا بل مشروعٌ سياسيٌّ دينيٌّ ذو طابعٍ مقدّس. وفي بدايات تبلور هذا التيار، ظلَّ اقتحامُ أو دخول باحات الأقصى محرّمًا، طبقًا لفتاوى دينيّةٍ لكبار حكماء غوش إيمونيم وحكماء الحريديم.
(5) منذ عام 1980 توسّعت القاعدةُ الاجتماعيّةُ للحريديم، بفضل الامتيازات ودعم الليكود، ولدعم وجودها السياسي ومخططاتها الاستيطانية، تشكل حزبان: "ديجل هتوراة" وكان اشكنازيا صرفا. "شاس" وكان شرقيًّا صرفًا. حقّقت هذه الأحزاب نجاحًا ملموسًا في انتخابات 1988، ومن بعدها ظهرت أكثر تنظيميًّا وقدرةً على تنفيذ برامجها. لم تتأخر الأحزاب اليمينية القومية عن مجاراة الحريدية في أطروحاتها الدينية والسياسية. في غضون ذلك، برزت الظاهرةُ الكهانيّةُ في سبعينات وثمانينات القرن 20 على يد مائير كهانا؛ الذي تبنى مواقف عنصرية خطيرة، وخاصة الدعوة الى مضايقة وملاحقة العرب في إسرائيل والدعوة الى تنفيذ الترانسفير. في عام 1996 أصدرت لجنة حاخامات "ييشع" الاستيطانيّة في الضفّة الغربيّة، فتوى تسمح بالدخول إلى الحرم الشريف كما دعت إلى "الصعود إلى جبل الهيكل".
(6) في العقود الثلاثة الأخيرة، صعد أقصى اليمين على ثلاثة مراحل: الأولى: مرحلة أوسلو- التسوية؛ إذ تعمّق الصراعُ حولَ كيفيّةِ مواجهة مشاريع التسوية والانسحاب بين اليمين العقائدي والبراغماتي. الثانية: مرحلةُ انشقاقِ اليمين إثرَ خطّةِ الفصل 2005 ما بين يمين براغماتي ويمثله كديما وأقصى يمين عقائدي ويمثله متمردو الليكود واليمين الاستيطاني الديني. الثالثة، مرحلةُ النجاح في الوصول إلى سدة الحكم في 2009 وفيها بدأت عملية منظمة لوضع الأساس لحسم الصراع على أساس ضمّ ما يمكن ضمُّهُ من الضفّةِ الغربيّة وترسيخ الفوقيّة القوميّة اليهوديّة (قانون القومّية 2018). ومنذ ذلك الحين، تحوّل حزب الليكود إلى حزبٍ شعبويٍّ لافتًا حولَ شخصيّةِ نتنياهو المتسلطة، صعدت الصهيونية الدينية الاستيطانية، بزعامة سموتريتش، وبذلك تحولت الحريدية إلى تيار يميني-قومي، كما شهدت الساحة الإسرائيلية عودة الكهانية من خلال حزب "عوتسما يهوديت" بزعامة بن غفير، إلى ذلك، شهدت نهاية هذا العقد تطبيع التطرف والفاشية، بالإعلان عن إقامة تحالف "الصهيونية الدينية" وفوزه بالانتخابات وبالموقع الثالث في الكنيست، مما سيكون له تأثيرٌ واضحٌ وجلّيٌّ على المجتمع الإسرائيلي ونظامه السياسي، وكذلك على المسألة الفلسطينية.
تقدّرُ بعضُ الأوساط اليسارية والأكاديمية الإسرائيلية أن فوز الصهيونية الدينية واتّفاق أطرافها مع نتنياهو على تشكيل حكومةٍ يمينيّةٍ خالصة، سوف يجلبُ على "إسرائيل" مصائبَ أمنيّة، ومتاعبَ إداريّة. ومن شأن تشكيل وزاراتٍ وهميّةٍ أن يضعف الحكم. سوف يبدأ العالم بالضغط كما سوف تبرز التناقضات الميدانية في العمل الأمني. بيني غانتس عقب على الاتفاق قائلًا: "ما يحدث هو انقلابٌ على المؤسسات وعلى القوانين وعلى الأعراف التي كانت قائمة". بينما صرح بن غفير في أعقاب الاتفاق: بأنّ لديه الآن "القوة والصلاحية لفرض الحكم وإعادة الأمن"، طبعًا وَفْقَ تصوراته وأفكاره الكهانية.
في الواقع، حكومة اليمين الكهاني، إذا ما رأت النور، تعتبر تصعيدا عنصريا ضد فلسطيني الداخل المحتل، وتأجيجا للصراع في الضفة الغربية، وتسريعا لنزع الملكية (الاستيلاء والمصادرة والضم). وسوف يواصل نتنياهو ومساعدوه محاولات نزع الشرعية عن نضالنا وممارسة سياسة الاسكات والعنف المعرفي ووسمنا بالإرهاب، مثلما فعلت حكومته طوال عقد وخصوصًا في الساحة الأوروبيّة من خلال وزارة الشؤون الاستراتيجيّة المنحلّة التي شكّلت خصيصًى لملاحقة حملات المقاطعة.
هذه الحكومة، يقول البعض، ستكون مشغولةً بالإكراه الديني وسوف يسعى اليمين الفاشي في ظلّها إلى تحويل الدولة إلى مملكةٍ يهوديّةٍ غير ديمقراطية، بل فاشية. سوف يسعى شركاء نتنياهو للحصول على مزيدٍ من الامتيازات لصالح جمهورهم المتزمت والمتطرف، وسيظلُّ هدفهم السياسي الرئيس الحفاظ على الهوية اليهودية بمعناها الديني وتعزيز الاستيطان. ومع ذلك، سوف تشهدُ الصهيونيّةُ الدينيّةُ دومًا تشقّقات وانقسامات في الهويّة مع تفاقم تناقضاتها وفشلها في مواجهة التحديات والضغوط.
عتاة الصهيونية الدينية لا يرون محالة من القتل والتهجير ما لم نتنازل لهم عن الأرض. وضع سموتريتش خطة تحمل عنوان "خطة الحسم" استنادًا إلى سياسات يهوشع بن نون تجاهَ سكان البلاد بعد أن احتلّها وإلى الخيارات التي وضعها أمامهم.
تنطلق الخطة من الاعتقاد بأنه لا يوجد بين النهر والبحر مكان إلا لدولة واحدة هي "دولة إسرائيل التي تستند شرعيتها على الحق الإلهي وعلى اتفاق شعوب العالم في لحظةٍ تاريخيّةٍ نادرةٍ للمساعدة من أجل تحقيق الرؤيا وإعادة البلاد لشعب إسرائيل".
تضع الخطة أمام الفلسطينيين ثلاث خيارات: (a) الهجرة إلى الخارج، أي الترحيل. (b) العيش في البلاد، ولكن بوصفهم رعايا أقل مكانة، مذلين مهانين. (c) من لا يقبل منهم بأحد الخيارين السابقين يباد ويسحق. من منظور سموتريتش لا بدَّ من حسم الصراع؛ بعد فشل حل الدولتين، وأن على المجتمع الإسرائيلي الاستعداد. في غضون ذلك، يجب فرض "السيادة الإسرائيلية" الكاملة على الضفة الغربية وإقامة مستوطنات وتجمّعات جديدة واستجلاب مئات الآلاف من اليهود للعيش فيها.
في أعقاب فوز الصهيونية الدينية وتوقيع اتفاق شراكة مع الليكود، قال بروفيسور إسرائيلي محذرا: من الانتقال إلى "صورة حياة جامحة وخبيثة وتقدس الأرض وتفرض نفسها بعنف على سكانها بطرق غير عادلة ولا توجد فيها رحمة أو أخلاق".
لمواجهة خطة الحسم، المطلوب فلسطينيا التسريع بتطوير استراتيجية كفاحية على قاعدة الوحدة الوطنية، وفي القلب منها تعزيز البقاء والصمود في مواجهة نزع الملكية (الاقتلاع)، وكذلك تبني سياسة نزع الشرعية عن الاحتلال ومواصلة حملات الضغط والملاحقة الجنائية وكسب المؤيدين وتفنيد الرواية الإسرائيلية، مقابل محاولات الاسكات أو العنف المعرفي، ودائما مطلوب مواصلة الجهد باتجاه كشف الطبيعة الفاشية والعنصرية لدولة الاحتلال.