Menu

انطلاقةٌ قوميّةٌ عربيّةٌ فلسطينيّةٌ متجدّدة

إلهام الحكيم

نشر في العدد (45) من مجلة الهدف الرقمية

نكبةٌ ولجوءٌ وتشريدٌ للشعبِ الفلسطينيّ في شتى أصقاعِ الأرضِ عام 1948 إثرَ بسطِ الاحتلال الصهيونيّ يدَهُ على جزءٍ من فلسطين التاريخيّة، التي كانت تخضع للانتداب البريطاني آنذاك.

توطين الصهاينة وتهجير الشعب الفلسطيني: 

لم يكن إقامةُ الكيان المحتلّ وليدَ نفس العام، بل جاء نتيجةَ هجراتٍ متتاليةٍ لليهود إلى فلسطين من مختلف أنحاء العالم برعايةٍ غربيّةٍ وزعامةِ حكومة الانتداب البريطانيّة، التي منحت اليهود وعدًا بإقامة وطنٍ قوميٍّ لهم كونهم "شعب بلا أرض وفلسطين أرض بلا شعب"!... اقتحموا فلسطين خلسةً وجهارًا، زوّدهم الغرب بشتى أنواع الأسلحة الحديثة... اعتدوا على أصحابها الشرعيين... ارتكبوا المجازر الوحشيّة بحق الصغار والكبار والشيوخ.. قتلوا الأطفال واستحْيوا النساء.. دمروا البيوت في البلدات والقرى والمدن وهجّروا أهلها.. أحرقوا الزرع وقتلوا الماشية.. مارست المنظمات الإرهابية  "الآرغون وشتيرن والهاجناة وغيرها" كل الفظائع والجرائم لإجبار الأهالي على ترك ممتلكاتهم. 

هام الفلسطينيون من وطنهم حماية للأطفال من القتل.. ودرء الاغتصاب عن النساء والفتيات.. في تلك المرحلة لم تتمكن المقاومة الشعبية الفلسطينية والثورات المستمرة من لجم الإرهاب الصهيوني نتيجة ضعف الامكانيات والتفاوت الكبير بالمعدّات والتسلّح.

واقع مزرٍ ومأساوي اضطر الشعب الفلسطيني للهجرة والاحتماء بدول الجوار واللجوء إليها على أمل العودة القريبة.

ولادة المقاومة من رحم القومية العربية

ما أن استفاق الشعب الفلسطيني من صدمة النكبة واللجوء حتى بدأ بالتوجه نحو استجماع القوى والتفكير بالخطوات اللاحقة بهدف العودة للديار.. شكّلت نخبة من الطلبة الجامعيين في لبنان نواة العمل الوطني يتقدمهم الدكتور جورج حبش ومجموعة من زملائه الفلسطينيين والعرب الذين انتهجوا البعد القومي للقضية الفلسطينية وباشروا العمل تحت مسميات مختلفة بداية من الشباب القومي العربي وغيرها إلى أن استقر الرأي على اسم "حركة القوميين العرب" في المؤتمر الأول الذي عقد في عمان عام 1956 بمشاركة العديد من الحركات القومية العربية التي انعكست النكبة على شعاراتها وبرامجها ومبادئها التنظيمية.. فأخذت على عاتقها المسؤولية التاريخية لرسم آلية الكفاح لاسترداد فلسطين، تلك التحولات والتطورات تزامنت مع تصدي قيادة الثورة المصرية "1952" للمخططات الإمبريالية في مصر ومختلف الدول العربية إضافة لرفضها مشاريع الاحتلال في فلسطين.. كان لكاريزما عبد الناصر والدكتور حبش وزملائه المؤسسين وتقاربهم والتقاء أهدافهم الأثر الكبير على الشعوب العربية وحركاتها القومية التي التفّت حولهم وكوّنت حاضنة عربية واسعة، ثم تبلورت الناصرية كحركة قومية عربية شحذت الهمم واستحوذت على العواطف التي أجمعت على ضرورة الأخذ بمفاهيم "الوحدة والتحرر والاشتراكية واسترداد فلسطين" بزعامة ناصر، تنوعت الشعارات الحماسية من نمط "من المحيط الهادرِ إلى الخليج الثائرِ كلنا عبد الناصرِ".. تنامت علاقة الحركة القومية الفلسطينية، ثم انتقلت إلى مستوى التلاحم حد الاندماج والتماهي مع "القومية العربية الناصرية".

تراجع وانحسار المد القومي

مع مرور السنين حصلت العديد من التطورات الدراماتيكية ومنها مغادرة بعض الضباط الأحرار، وحصول الانفصال بين مصر وسوريا، فتراجع الخط البياني التصاعدي للناصرية وبدأ بالهبوط.. مما دفع الفلسطينيين لإعادة حساباتهم وتطوير خططهم بما يتناسب مع المرحلة، وكانت هزيمة حزيران 1967 هي المحفّز الأكبر لتعزيز القناعة بـ "الكفاح الشعبي المسلح" ومواجهة الاحتلال الصهيوني بهدف "التحرير" اعتماداً على القوى الجماهيرية الفلسطينية المنظمة.

بعد صدور تقرير تموز 1967 الذي تبنى "نظرية الطبقة العاملة" وفنّد وحلل مقدمات ونتائج الهزيمة تم الإعلان عن انطلاقة " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " يوم 11 /12/1967.

في نفس المرحلة انطلقت العديد من الفصائل الفلسطينية التي انتهجت العمل الفدائي والمقاومة من أجل العودة والتحرير.

المستديرة تنعش الروح العربية 

كل ما سبق لم يكن سوى لتنشيط الذاكرة والقول أن الشعوب العربية وإن هدأ ضجيجها لكنها لم ولن تتوقف، بل تنتظر اللحظة المناسبة للانتفاض والتعبير عن تعاطفها وتضامنها وتبنيها للقضية الفلسطينية التي تعتبر قضيتها المركزية مهما حاولت الأنظمة تزييف الأمور والمضي في قطار التقارب بل والتطبيع مع الكيان الصهيوني، رغم مرور عدة سنوات على توقيع بعض الحكومات العربية الاتفاقيات مع العدو، إضافة لتعامل حكومات أخرى مع الصهاينة من تحت الطاولة.. هذه المحاولات التطبيعية للحكومات قابلها رفض قاطع من الشعوب العربية التي أبت إلا أن تكون عربية أصيلة وداعمة للقضية الفلسطينية وحق العودة لشعبها إلى أراضيه التي هُجّر منها، وكما كان لعبد الناصر والحكيم حبش كاريزما جمعت أبناء العروبة قبل عشرات السنين على حب فلسطين والدفاع عنها.. ها هي المستديرة العالمية تتدحرج على "الأرض اللي بتتكلم عربي" وتجمع كافة المشجعين العرب ليكونوا على قلب رجل واحد، يحملون العلم الفلسطيني في كافة المباريات والملاعب في قطر ويصيحون "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين".

رفض مطلق للتطبيع وتواجد الإعلام الصهيوني

يرفرف العلم الفلسطيني ضمن الفعاليات المرافقة للمونديال، يلوّح به العرب أمام الكاميرات وكل وسائل الإعلام العربية والأجنبية بما فيها المحطات المختلفة للإعلام الصهيوني الذي حاول قدر الإمكان الحصول على مقابلة أو حتى تصريح من المشجعين العرب لكنه فشل بذلك، لم يكن العربي يرفض ظهوره عبر الإعلام الصهيوني فحسب، لكنه أيضاً حارب وجود هذا الإعلام بين الناس على الأرض العربية، وقف سداً منيعاً بوجهه مع التأكيد أنه: "لا يوجد شيء اسمه إسرائيل، بل كيان محتل لفلسطين" كما تعرض مراسلوه للشتم والطرد من المطعم والإنزال من التكسي عند معرفة أصحابها بأنهم يمثلون إعلام الصهاينة، مما اضطرهم أحياناً لانتحال شخصية مراسلين غربيين.. علاوة على ذلك فقد تضامنت الجماهير من مختلف الدول الغربية وأعلنت تأييدها للقضية الفلسطينية وصدَحت بشعار "فلسطين حرة وإسرائيل برّا". هذا التفاعل مع قضية فلسطين ومواجهة الإعلام المضلل دفع بعض المراسلين للانسحاب والإقرار بفشلهم وبأنهم منبوذون ومرفوضون من الشعب العربي، وأن التطبيع لا يسري إلا على الحكومات أما شعوبها فهي رافضة لاتفاق إبراهام وكل تقارب.. والإقرار بأن عدد الفِرق المشارِكة بالمونديال لم يكن "32 فريقاً" فقط كما هو مُعلن بل "33 فريقاً" بوجود العلم والكوفية والجمهور الفلسطيني في كل مكان!

لم يرفع علم فلسطين في منشآت المونديال في قطر فقط، بل تعدّاه إلى معظم الساحات والأماكن العربية التي كانت تنقل المباريات على الهواء مباشرة إضافة لترديد أغنية "أنا دمي فلسطيني". ولم يكن العلم الفلسطيني هو الوحيد بل تناقل المشجعون كافة الأعلام العربية بما فيها الفرق الغائبة عن البطولة، مما حدا بالمعلقين للقول: إن المونديال بنسخته الـ 22 في قطر هو مونديال العرب وفلسطين، نتيجة الإجماع الشعبي العربي على تشجيع كافة الفرق العربية المشاركة حتى لو لم تكن حكوماتها متقاربة.

الخلاصة 

هل توحيد الكرة للشعوب العربية صدفة أم له دلالاته؟ وهل تستطيع الحكومات فرض إرادتها ومصالحها الذاتية على شعوبها؟ وهل ستقول الشعوب كلمتها وترفض اتفاقيات التنسيق والإذعان والاستسلام؟ وهل ستتحرك الشوارع العربية وتفرض كلمتها أم أن الحالة الجمعية ولم الشمل العربي كانت موسمية وسوف يهدأ المد القومي العربي بانتهاء المونديال؟!

إن جذوة القومية العربية المتوقّدة لن تنطفئ حتى لو مرّت بفترات من الخمود الذي - يفرضه بعض الزعماء المتخاذلين - لكنها ما تلبث أن تعود للاتقاد ومتابعة مسيرة مقاومة الوجود الصهيوني على الأرض الطاهرة وهي على ثقة بأنه لا بد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر.. وأن تتحرر فلسطين بعاصمتها القدس

المصادر 

  • نشأة حركة القوميين العرب "باسل الكبيسي".
  • القنوات الإخبارية المختلفة "الجزيرة، العربي، فلسطين".