Menu

صنعة التضامن وعللها: تقليم النضال الفلسطيني

بوابة الهدف الإخبارية

تعبيرية

خاص بوابة الهدف

لا علة في سعي شعب يخوض معركة للتحرر الوطني لحشد الدعم والتعاطف العالمي وإحداث تعديل في معادلة المواقف الدولية لمصلحته، ولكن تحول هذا السعي لبديل متخيل عن الكفاح الحقيقي على الأرض وفي ساحات المواجهة، هو ضرب من الاستعماء عن الحقيقة، ونشر التضليل، وتقويض أدوات الكفاح القائمة التي يخوض بها الشعب مواجهته..

خلال العقود الماضية، تصاعدت في الحيز الفلسطيني؛ دعاية تبشر بدور التضامن الدولي، وقيمة العمل الدعائي داخل العالم الغربي، وتؤكد على ضرورة عمل الفلسطينيين على تقليم أدوات كفاحهم، وتهذيب صورتهم؛ لتناسب معايير تسويقها كقضية للتضامن في العالم الغربي، وهو ما شمل بدرجات متفاوتة طعن بجدارة وفعالية الكفاح الشعبي والمسلح منه، وجوهريته في مواجهة العدوان، أو حتى إدانة هذا الكفاح، وبالحد الأدنى في بعض سياقات "مدرسة التضامن والواقعية": المساواة بين كفاح شعب وأسره وبيانات متفرقة يستصدرها أنصار فلسطين من بعض المجموعات التضامنية، أو تعديل لفظي بسيط في بيان لحكومة غربية استعمارية..

الإشكال الأساسي في هذا السياق؛ كان يكمن في افتراضه جهل الجميع باستثناء المشتغلين بحشد التضامن أو على وجه الدقة المنشغلين بالدعاية حول صناعة التعاطف، أي أن هذا الخطاب يطلب من الفلسطينيين افتراض جهلهم بالتأثير الحقيقي لكفاحهم وأدوات فعلهم في مواجهة المستعمر، ويدعوهم لقبول تقييمه لهذا الكفاح، وثانيًا يفترض - أو على الأقل يطالب الفلسطينيين بالافتراض- أن موقف الحكومات والنخب الغربية الاستعمارية؛ نابع من نقص في المعلومات عن حقيقة الغزو الاستعماري في فلسطين، وكأن عقود من الدعم السياسي والمالي والتسليحي من قبل هذه الحكومات للغزاة الصهاينة كانت فقط؛ نتاج لسوء فهم للوضع في فلسطين، أو أن هذه الحكومات تبني سياساتها ومواقفها بناء على معايير الحق والعدل وانصافًا لحقوق الشعوب، وكأنها لم تحرث الأرض بأجساد أبناء الشعوب المقهورة في الدول التي استعمرتها، أو أن الكيان الصهيوني قد سقط من السماء على فلسطين؛ ليحتلها ويشرّد شعبها ولم تصنعه هذه الحكومات وتواصل رعايته دفاعًا عن مصالحها.

الأهم من الجدل حول المنطلقات والفرضيات هو ما تنطق به النتائج؛ فخلال العقود الأخيرة، أي منذ تراجع الكفاح الفلسطيني الوطني في حقبة أوسلو، وفقدان الفلسطينيين للكثير من عوامل قوتهم وقدرتهم وقدرة الشعوب العربية على تهديد المصالح الغربية؛ سجل تراجع هائل في معادلة الموقف الدولي لمصلحة العدو الصهيوني، بل إن سقف المطالبات الفلسطينية ذاتها قد انهار لحدود غير مسبوقة؛ ناهيك عن سقف التضامن الذي بات في كثير من خطابه يطالب بخفض منسوب القتل الصهيوني للفلسطينيين أو تخفيف استخدام القوة، أو يكتفي بانتقاد سياسات "التمييز العنصري" وكأن شعب فلسطين هو مجموعة سكانية أو أقلية تعاني تمييز في بلد الصهاينة، وأن أصحاب الأرض والحق مطلوب منهم استجداء تعاطف يطالب بمعاملة أقل سوءًا من قبل محتليهم وغزاتهم وقتلة أولادهم وآبائهم.

يتجاهل السياق آنف الذكر والذي يدور حول  توسل التعاطف: أن معظم المكتسبات التي حققها شعب فلسطين على مستوى الموقف الدولي، وعلى مستوى مواقف الشعوب وتضامنها الجدي معه قد حققها بفضل كفاحه وتضحياته لا بفضل دعاية عبقرية طالبته بالتنازل عن حقوقه ونزع سلاحه أو أظافره التي يذود بها عن نفسه وأرضه، ويمضي باتجاه إعادة تعريف شاملة لكل أدوات الكفاح؛ بما فيها تلك الأدوات الشعبية على غرار أنشطة مقاطعة الكيان الصهيوني؛ فنشاط المقاطعة التي يفترض أنه بالأساس يهدف لحصار الكيان الصهيوني، ومنع التطبيع معه، بات يعاد تقديمه في بعض السياقات كجزء من نضال مواطنة لمنع "التمييز العنصري"، وفصله عن النضال الشعبي الفلسطيني بأدواته المختلفة. صحيح أن هذه ليست السمة الغالبة لحركة المقاطعة بمجموعاتها المختلفة، ولكنه سياق يسعى للهيمنة حتى على حركات المقاطعة وخطابها وسلوكها، وتعميم معايير الدعاية للمقاطعة في مراكز المنظومة الرأسمالية على الجماهير العربية والفلسطينية، وكأن السياسة والنضال الفلسطيني؛ يجب أن تخضع برمتها للمعايير والمقاييس الغربية الاستعمارية، والخطورة في ذلك: أن هذا يشكل ارتدادًا حتى عمّا تقرّه معايير لجان المقاطعة العربية الرسمية أو تلك الشعبية التي تتبنى سقفًا أعلى بكثير؛ فيما يتعلق بالمقاطعة ومناهضة التطبيع ودعم كفاح شعب فلسطين بكافة أشكاله.

ختامًا: هذا ليس هجومًا على النشاط التضامني؛ دعمًا لفلسطين وقضيتها وكفاح شعبها، ولكن محاولة لإثارة أسئلة جدية؛ حول سياق يحاول الهيمنة على هذا النشاط، بل ويحاول الامتداد لإعادة تعريف وتشكيل النضال والعمل الفلسطيني؛ بما يلاءم معاييره التي صنعت بالأساس؛ انصياعًا لمعايير قبول المعسكر المعادي لحقوق الشعب الفلسطيني.