Menu

نحو عالمٍ بلا مركز

حسن شاهين

نشر هذا المقال في العدد 49 من مجلة الهدف الإلكترونية

قبل أشهرٍ كتبت هنا في الهدف مقالًا بعنوان "العرب في عالم ما بعد الغرب" جادلت فيه بأنّ المركزيّة الغربيّة في النظام السياسيّ الدولي دخلت مرحلة الأفول، لكن ذلك لا يعني بالضرورة صعود مركزية شرقية – صينية بديلة. كان التركيز في المقال السابق على وضع الأنظمة العربيّة بعد ارتخاء القبضة الأمريكيّة، وجادل بأنّ عالمًا متعدد الأقطاب سيكون كابوسًا على الدول النامية على عكس ما يعتقد كثيرٌ من المحلّلين. وسيركز هذا المقال على مفهوم "المركزيّة" في النظام الدولي ومستقبلها، ومن ثَمَّ لن يكون هذا المقال استكمالًا للسابق بل تقديمٌ له.

دخلت المركزيّةُ الغربيّةُ للنظام العالميّ في طورها الأمريكيّ منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. والمركزيّة هي غير القطبية، فهذه الأخيرة المرتبطة بطبيعة النظام السياسي الدولي، الذي انتقل من نظام متعدد الأقطاب خلال القرون من السادس عشر حتى الثامن عشر، إلى نظام القطبين الفرنسي والبريطاني خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى صعود الرايخ الثالث في النصف الأول من القرن العشرين، ثم نظام القطبين السوفييتي والأمريكي طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وصولًا إلى نظام القطب الواحد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. كان ينتقل الاستقطاب في النظام السياسي الدولي خلال القرون السابقة بين إمبراطوريات ودول غربية، أي داخل المركزية الغربية. وعليه؛ فالمركزيّة هي تعبيرٌ عن مركز الثقل الحضاري للإنسانيّة لا مجرّد توازنات القوى في النظام السياسي الدولي التي تشير إليها القطبيّة.

تآكل الهيمنة الأمريكيّة:

من المهمّ التأكيد على أنّ زمن الصعود والأفول بالنسبة للأمم قد يستمرّ لعقود أو أكثر، وحين نقول: أنّ هناك تراجعًا في الهيمنة الأمريكية في السنوات الأخيرة هذا لا يعني أنها انتهت أو حتى اقتربت من النهاية، ولكنها تسير في منحنى هابطٍ بشكلٍ واضح. ولتراجع الهيمنة الأمريكية مؤشرات عديدة، ففي الاقتصاد يقترب ناتج الولايات المتحدة الأمريكية من خُمس ناتج دول العالم مجتمعة، لكنه بعد الحرب العالمية الثانية كان يزيد على نصف الناتج العالمي، ليتراجع إلى نحو الربع عشية تفكك الاتحاد السوفييتي، ثم ارتفع ليصل إلى 32 في المئة مطلع الألفية الجديدة ليعود ويهبط إلى الخمس كما أسلفنا. وفي الجانب العسكري ما زالت الولايات المتّحدة تنفق على التسلّح والجيش أكثر مما تنفق الدول العشرة التالية لها في الترتيب مجتمعة، لكن إنفاق كل من العملاقين الآسيويين الصين والهند يزيد بشكل مضطرد، ففي الوقت الذي زاد فيه إنفاق أمريكا على التسلح بنسبة 0.7 في المئة عام 2022، زادت الصين والهند إنفاقهما بـ 4.2 و6 في المئة على التوالي بحسب إحصاءات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام الصادرة أخيرًا. إلى جانب ارتفاع الإنفاق العسكري أصبح هناك تطوّرٌ نوعيٌّ في الصناعات العسكرية في عددٍ من البلدان الناشئة على رأسها الصين والهند والبرازيل و تركيا ؛ صحيحٌ أن الفجوة العسكريّة الكميّة والنوعيّة بين الغرب وباقي العالم ما زالت كبيرة، إلا أنّها آخذة بالتقلّص بشكلٍ ملحوظ.

وفي الجانب السياسي هناك العديد من الشواهد على تآكل الهيمنة الأمريكية، من أبرزها في الفترة الأخيرة تشكيل حكومة من أقصى اليمين في إسرائيل بقيادة نتنياهو بخلاف رغبة الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، كما ظهر في كثيرٍ من التقارير الصحافيّة بهذا الخصوص، وعودة العلاقات الدبلوماسيّة بين السعودية وإيران بوساطة صينيّة، وهي المرة الأولى ربما في التاريخ التي تمارس فيها الصين دورًا دبلوماسيًّا على هذا المستوى في الشرق الأسط، واقتتال جنرالي الخرطوم على غير رغبة الولايات المتحدة التي لا تريد حرائق في العالم تزاحم الحريق الأوكراني بحسب كثير من المراقبين، وأخيرًا الموقف الفرنسي المتمايز عن الأمريكي في مسألة تايوان، وهذا الأخير له أهميّةٌ خاصة، كونه جاء في إطار تأكيد الرئيس الفرنسي على مفهوم الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا عن الولايات المتحدة والصين، صحيح أن موقف ماكرون لم يستقبل بترحاب كبير من شركائه الأوروبيين، إلا أنه حمل دلالات مهمة عن توجهات أكثر استقلالية في السياسة الأوروبية. وأوروبا ما زالت منفتحةً على التعاون الاقتصادي مع الصين رغم العقوبات الأمريكية، خاصةً في مجال التحول نحو الاقتصاد الأخضر، وقد وافقت حكومة المستشار الألماني أولا فشولتس على استحواذ شركة صينية على حصة بلغت 24.9 في المئة من ميناء هامبورغ، ثالث موانئ أوروبا، في أكتوبر الماضي.

كبح الصين:

تحاول الولايات المتحدة جاهدةً أن تكبح صعود الصين بوسائل وأدوات مختلفة من الحرب الاقتصادية التي تأخذ حتى الآن شكل عقوبات تجارية على شركات صينية، ووضع قيود على انتقال التكنولوجيا الغربية المتقدمة إلى الصين، وتعزيز وجودها العسكري في المحيط الهادئ، وزيادة مستوى تعاونها مع جيوش المنطقة، حيث نفذت خلال الشهرين الأخيرين مناورات عسكرية ضخمة مع تايلاند والفلبين بمشاركة عدد من دول المنطقة الأخرى، في الوقت الذي نفذت فيه الصين مناورات تحاكي محاصرة جزيرة تايوان، كذلك إعلاميًّا بالتركيز على الطابع الشمولي للنظام الصيني، وأن صعود الصين يشكل تهديدًا للديمقراطيّة في العالم.

قد تنجح الولايات المتحدة في تأخير صعود الصين لبعض الوقت، لكن هل الصين هي القوة الصاعدة الوحيدة في العالم؟ ماذا عن الهند التي أزاحت المملكة المتحدة عن المركز الخامس في قائمة أكبر اقتصاديات العالم؟ وماذا عن إندونيسيا والبرازيل وتركيا وغيرها من الدول الناشئة التي قطعت شوطًا مهمًّا عن التقدّم الاقتصادي والتكنولوجي خلال العقدين الماضيين؟

عالم غير المركز

إنّ أهمّ ما يميّز عالم اليوم هو الترابط الاقتصادي بين دوله غير المسبوق في التاريخ، وتراجع القيود على انتقال المعرفة العلمية والتقنية نتاجًا لأمر واقع فرضته التجارة الحرة، وحاجة الشركات الغربية للتصنيع في الدول الناشئة والنامية. كذلك زيادة المشترك الثقافي بين الشعوب، وتحول كثير من المعايير الدولية لحقوق الإنسان إلى ثقافةٍ شعبيّة، كرفض العنصرية على سبيل المثال، وحقوق الطفل والمرأة وغيرها. أصبحنا أمام عولمةٍ جديدةٍ مختلفةٍ جوهريًّا عن المضمون الذي عكسه المصطلح في تسعينات القرن الماضي، حين كان يعبر عن الهيمنة الاقتصادية والثقافية العالمية للغرب؛ أما اليوم فهو يعبر أكثر عن تبادل التأثير بين دول العالم، ونشوء ثقافة عالمية لا هوية مناطقية لها.

إنّ مركزية الغرب الحضارية والسياسية تتراجع، ومن الأرجح أن تنتهي في المستقبل غير القريب بعد أن سادت لأكثر من خمسة قرون، لكن هذا لا يعني الانتقال إلى مركزيةٍ شرقيةٍ صينيةٍ أو غيرها؛ فالأرجح أن يكون عالم الغد غير مركزي، تتشارك أطرافه ودوله الإسهام في الحضارة الإنسانية، حيث سيستمر التنافس والصراع فيما بينها، لكن دون هيمنةٍ عالميّةٍ لإحداها.