Menu

ما بين الثلاثاء الحمراء والاشتباك المقاوم: حقائق الصراع وجدوى المقاومة

وسام رفيدي

وشائج عديدة تربط ما بين ذكرى الثلاثاء الحمراء في 27 ايار 1929 حين أُعدم الأبطال الثلاثة (محمد جمجوم، عطا الزير، وفؤاد حجازي)، والاشتباك اليومي للمقاومة في الضفة، وتحديداً في شمالها.
ليس مصادفة أن تحمل (الثلاثاء الحمراء) تلك الرمزية الوطنية إلى جانب الرموز العديدة، كثورة 36 وحركة عز الدين القسام مثلاً، والتي باتت تساهم في تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية، إذ يمكن اعتبار ثورة البراق، كما أُصطلح على تسميتها، والتصدي للمستوطنين الصهاينة، بدايات النضال الوطني الفلسطيني للمشروع الصهيوني، تبعها حركات وثورات عديدة حتى يومنا هذا.
واليوم سلسلة طويلة من النضالات والانتفاضات والثورات تتساتل منذ العام 1929 حتى وقائع الاشتباك اليومي للمقاومة في جنين، ولاحقاً عند مدخل مستوطنة عيلي، في تأكيد على حقيقتين أساسيتين أراهما جوهريتين:
أولاً: حقيقة الصراع
رغم كل محاولات شرعنة الوجود الصهيوني على كافة المستويات العالمية والعربية والفلسطينية عبر الاعتراف بدولة إسرائيل، ورغم طغيان خطاب (الدولة) على خطاب (التحرير) في الخطاب والممارسة السياسية الفلسطينية الرسمية، بما يعنيه من تسليم بشرعية المشروع الصهيوني على 78% من أرض فلسطين، رغم كل هذا فإن شعبنا يرى في الصراع صراعاً وجودياً اِبتدأ لحظة بناء أول مستوطة يهودية، كجزء من المشروع الصهيوني، وبالتالي ففي الوعي الوطني الجمعي للشعب الفلسطيني، فإن قضية فلسطين لم تبدأ منذ العام 1967 باستكمال احتلال فلسطين، وبالتالي ينحصر (الحل) بدولة في حدود ذلك العام، كما ينص نهج أوسلو وقبله الحل المرحلي، وكما المقترح الأخير للقيادة الصينية، بل إن قضية فلسطين نشأت قبل العام 48، عام النكبة، باعتبارها قضية وجود، يتصدى فيها شعبنا لمحاولات شطب وجوده تماماً عن أرضه، ليس بالمعنى السياسي فقط ككيانية، بل وأيضاً بالمعنى الديموغرافي بالتطهير والترحيل والإبادة، قضية شعب يسعى لتحرير وطنه.

حقيقة الصراع تلك ما زالت قائمة، فمنذ العام 1929، عام الثلاثاء الحمراء، حتى اليوم لم تتغير تلك الحقيقة إلا لدى الخطاب الرسمي الفلسطيني الذي تدحرج منذ العام 1974 ببرنامج النقاط العشر، مروراً بحل الدولة وصولاً لدولتين لشعبين، وما المقاومة اليوم إلا تأكيداً بالممارسة على حقيقة ذلك الصراع، ويزكي هذا حقيقة التحول في الوعي الوطني الفلسطيني داخل منطقة ال 48 حيث قطاعات متزايدة باتت تدير الظهر لسياسات (الأسرلة) والاندماج في المؤسسة الصهيونية الرسمية كالكنيست، وتلتحق أكثر فأكثر بالموقف الوطني القومي القائم على وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة أهدافه بتحرير وطنه، وما المشاركة الفاعلة في الإضراب التاريخي، إضراب الكرامة، في أيار 2021 ، إلا دلالة بارزة على ذلك. واليوم يمكن للمراقب للخطاب المبثوث على شبكات التواصل، وخاصة للمجموعات الشبابية التي انتشرت منذ سنوات، يمكنه ملاحظة تأكد تلك الحقيقة، حقيقة الصراع الوجودي، وغياب مطلق للخطاب الرسمي، الخطاب الدولاني، ليحل محله خطاب التحرير. إننا أمام تناقض صارخ ما بين الخطاب الرسمي لقيادة أوسلو ومنظمة التحرير، والأولى حلت محل الثانية تماماً فانشطبت الثانية أو كادت، وبين الخطاب الشعبي المدعوم بممارسة المقاومة يومياً في مؤشر يتزايد يومياً على عزلة قيادة أوسلو سياسياً وافتراقها عن شعبها.
هل نبالغ لو قلنا: أن كافة مشاريع (تسوية) الصراع الفلسطيني والعربي/ الصهيوني سقطت تماماً، وهي لم تتوقف منذ العام 48 وحتى توقيع اتفاقيات أوسلو؟ 
يمكن قبول الموقف القائل: أن فشل وسقوط مشاريع التسوية سببه اختلال ميزان القوى لصالح الصهاينة، فليس هناك ما يجبرهم، لا في النظام الرسمي العربي ولا في السلوك السياسي لقيادة منظمة التحرير، على قبول تسوية ما، ولكن الأهم من هذا السبب بتقديرنا هو أولاً أن التسوية غير مطروحة على طاولة الصهاينة، فهدفهم ليس التسوية أصلاً، بل شطب شعبنا وقضيته تماماً وابتلاع أرضه، وإخراجه من التاريخ، ليغدو مجموعات سكانية لا هم لها سوى لقمة العيش تبحث عنها عند مستعمريها. أما السبب الثاني فهو الموقف الشعبي الرسمي الرافض لتسوية لا تتناول جوهر وحقيقة الصراع، وهذا ما نعتقده يتأكد باستمرار المقاومة منذ العام 1929 وقبله بقليل وحتى يومنا هذا، إنه استمرار يؤكد حقيقة الصراع.
ثانياً: جدوى المقاومة
لسنا بحاجة للعلم العسكري لنتأكد من تطور وسائل المقاومة التي تجسدت في مخيم جنين قبل أيام، ولا من الفشل العسكري الصهيوني المتجسد في عملية عيلي. حجم الخسائر الإسرائيلية في الآليات والجنود، وما تشير إليه جميع التحليلات، الإسرائيلية خاصة، من حيث نوعية العبوات المستخدمة وتفجيرها عن بعد، ومقارنتها بالعمل المقاوم في جنوب لبنان، فهذا يعني فعلاً، ودون الإفراط في المبالغة، أن تطوراً نوعياً تجسد على الأرض في وسائل المقاومة، لتأتي بعدها عملية عيلي لتؤكد على تصاعد غير مسبوق لعمليات المقاومة.
لم يسجل تاريخ الصراع، في الوعي الشعبي تحديداً، قائمة بسلسلة مشاريع التسوية والحلول للقضية الفلسطينية، بقدر ما يسجل، وبالتفاصيل، قائمة بعمليات وفعاليات وجهود المقاومة الفلسطينية منذ الثلاثاء الحمراء وحتى اليوم، فتاريخ الشعب الفلسطيني هو تاريخ مقاومته، ورموزه الأبرز تلك التي سقطت شهيدة أو أسيرة أو جريحة. مشهد جنازات وتوديع الشهداء بالزغاريد، الأغاني والهتافات تمجيداً للمقاومين، انتشار القصص حول الشهداء بل وأسطرتهم، وصاياهم التي غدت نصوصاً للتداول والبحث العلمي، كل ذلك يؤكد مكانة المقاومة على المستوى الشعبي. منذ انتزاع اعتراف العالمين العالمي والعربي بمنظمة التحرير نتيجة ثقل ومكانة الثورة الفلسطينية وأسلوب الكفاح المسلح، مروراً بالنضال الجماهيري اليومي المقاوم في فلسطين وخاصة في انتفاضة العام 1987، وليس انتهاءً بمقاومة قطاع غزة وتغييرها (لقواعد اللعبة) ومقاومة مخيم جنين، كل ذلك يثبت أن المقاومة هي فقط مَنْ يمكنها تعديل ميزان القوى استراتيجياً وخلق وقائع جديدة وتغيير (قواعد اللعبة) مرحلياً، والأهم خلق قوة ردع كما تأكد في العدوان الصهيوني الأخير وقبل الأخير على قطاع غزة.
والملاحظة الملفتة أنه ورغم كل الحملات العسكرية والاستخبارية الصهيونية ضد المقاومين إلا إنها فشلت في الحد من عمليات المقاومة، لا بل وتطورت تلك العمليات ما يؤكد أن المقاومة فعلا جدوى مستمرة، وبكل اشكالها.
في القدس قاوم الفلسطينيون في العام 1929 محاولات تهويد حائط البراق بتحويله لموقع طقس توراتي، فسقط الشهداء وأُعدم الأبطال الثلاثة يوم الثلاثاء الحمراء، لتتأكد حقيقة الصراع حينها وجدوى المقاومة في رسم طريق التحرر والتحرير، واليوم بعد قرن تقريباً يعيد الفلسطيني تأكيد ذات الحقيقة ورسم ذات الطريق، وهو في هذا لا يؤكد فقط وجوده في التاريخ ضد محاولات الصهاينة إخراجه من التاريخ، بل ويؤكد أنه هو التاريخ الفلسطيني.