Menu

القاهرة مرة أخرى...

وديع ابو هاني

حوارات القاهرة المرتقبة نهاية شهر تموز الحالي، ماذا تحمل من جديد؟ وهل ستكون مزيد من خيبات الأمل المتكررة لشعبنا؟ أم أن هناك بارقة أمل على وقع دماء شهداء وصمود جنين وفي عموم الضفة المحتلة؟

تتردد صدى الدعوات للحوار الوطني الفلسطيني مجددًا في القاهرة بمبادرة مصرية ودعم ومساعي جزائرية حميدة ومشكورة، لكن هذه الدعوات ما زالت تلقى الشك بمدى نجاحها وبنتائجها، على ضوء مسيرة ومآل كل اللقاءات والحوارات التي بدأت منذ عام ٢٠٠٥ في القاهرة، وليس أخيرها اللقاءات التي احتضنتها الجزائر في الأشهر السابقة قبل وبعد القمة العربية الأخيرة في السعودية.

ولعل اتفاق وثيقة الوفاق الوطني التي أنجزها الأسرى عام ٢٠٠6 والتي لم تحترم، كما لم يحترم وينفذ اتفاق الشاطئ ومكة وموسكو، خير دليل. كل تلك البروفات لإنجاز المصالحة والوحدة فشلت بسبب غياب الإرادة السياسية وعدم القدرة على دفع كلفة الوحدة من قبل السلطة الفلسطينية بالأساس، وما دام الرهان قائم على ما تبقى من أوسلو، فسيبقى التهرب من تطبيق كافة الاتفاقات السابقة والتي رسمت بقرارات المجلس المركزي والوطني السابقين، وعلى رأس تلك القرارات الانسحاب من مجرى أوسلو وباريس الاقتصادي ووقف التعاون الأمني وسحب الاعتراف بإسرائيل، فإن المثل الفلسطيني سينطبق على أي جولة قادمة للمصالحة والحوار الوطني الفلسطيني (حبك منديلك)..

فما الجديد لإضفاء نوع من الأمل والتفاؤل على الجولة القادمة للحوار في القاهرة نهاية تموز الحالي؟ فهل وصلت السلطة الفلسطينية وحزبها الرئيس حركة فتح بأن الخيارات ضاقت للمناورة وبأن إسرائيل لم تبقِ شيئًا يحفظ ماء وجه السلطة مع حكومة وإجراءات يقودها نتنياهو وبن غفير؟ الحكومة الإسرائيلية التي أعادت الأمور لنقطة الصفر من تغول للاستيطان وارتفاع وتيرة القمع واستباحة متكررة للمسجد الأقصى وتطاول على المقدسات والتفنن السادي الدموي من قتل وإجراءات عقابية شملت الأسرى والأطفال والنساء ولم تسلم هيبة السلطة من عنف الاجراءات التي تطبقها الحكومة العنصرية الصهيونية. هل وصلت السلطة الفلسطينية للجدار الأخير، مما دفعها ويدفعها للمراجعة الوطنية؟ أم هي جولة جديدة من خض المي وهو مي كما يقول مثلنا الشعبي؟

لا أحد ولا أي إنسان وطني فلسطيني لا يتمنى تجاوز حالة الانقسام الجغرافي والسياسي في الحالة الفلسطينية السائدة والتي يمكن أن تؤدي للمصالحة والوحدة الكفاحية... لكن الاكتفاء بالنوايا والمجاملات المعتادة فقط لا تخلق سوى المزيد من الاحباط إذا لم تكن مسلحة بإرادة سياسية ضامنة تمنع الفشل المتكرر، فما هي العناصر الضامنة والمستجدة للرهان على مصالحة ممكنة؟

ربما الظروف الدولية المتمثلة بالدور الصيني في المنطقة وتوسع حلف البريكس وصمود إيران وكذلك التصدي الذي تبديه روسيا لمخطط الناتو الأمريكي في أوكرانيا، ما يؤشر إلى أننا أمام تحولات دولية يجب أن نستثمرها كعرب وكفلسطينيين أولاً. والتحولات في المواقف العربية والإقليمية تؤشر لتحسن في بيئة التضامن العربية والإقليمية مع النضال الوطني الفلسطيني، رغم حالة التطبيع المستشرية من قبل بعض الأنظمة العربية. ولعل الموقف الجزائري الداعم للوحدة الوطنية والنتائج المتوخاة من القمة العربية التي جرت في السعودية مؤخرًا، لا شك أنها ستشكل بمفاعيلها عوامل وعناصر صمود ودعم لفلسطين، وخاصة الموقف الشعبي العربي الذي يعبر يوميًا عن رفضه للتطبيع وتأييده للمقاومة والأعمال الفدائية التي أفشلت محاولات العدو بتصفية بؤر وكتائب المقاومة، كما جرى في جنين وفي مناطق أخرى في عموم الضفة من نابلس إلى طولكرم والخليل والدهيشة وأريحا. وكل ما سبق يؤسس إلى انتشار بيئة للمقاومة المساندة للعمل الفدائي الفلسطيني، وهو بحد ذاته أحد الأسباب التي تركت بصماتها على مواقف السلطة التي ما زالت خجولة ودون المستوى المطلوب.

صحيح أن الوحدة الوطنية مطلب شعبي وحاجة وطنية... لكن يبقى السؤال أي وحدة وطنية نريد؟

وما هو المدخل الوطني السليم لإنجاز الوحدة؟

أعتقد أن عنوان منظمة التحرير الجامعة كبيت فلسطيني التي يجب استعادة وحدتها من خلال العودة للينابيع الأولى للميثاق الوطني والقومي الفلسطيني، واستعادة الثقة بها كإطار وطني تحرري جامع من خلال انجاز انتخابات وطنية نزيهة وديمقراطية كعنوان تحدي للاحتلال. إن أي إطار وحدوي وحوار لن يصمد بدون قطع الرهان على سراب التسويات والمفاوضات المذلة مع الاحتلال.

فالوحدة الوطنية المنشودة هي التي تترجم كل الاتفاقات الوطنية المبرمة دون تلكؤ من خلال استراتيجية كفاحية شاملة ومراجعة للمسار السياسي خلال العقود السابقة التي وصلنا إليها من مدريد إلى أوسلو، فهل السلطة الفلسطينية مستعدة لهذا الاستحقاق؟ وهل هي مهيئة لدفع ثمن وكلفة ذلك؟

إن الإرهاصات الشعبية العربية والفلسطينية تعطي الأمل بإمكانية تسعير المواجهة الشاملة مع الاحتلال بانتفاضة شعبية عارمة وعصيان وطني شامل شريطة توفر مرتكزاتها السياسية والتنظيمية والكفاحية ومن خلال اقتصاد وطني مقاوم. وكذلك إن جدية المراهنة على لقاء القاهرة القادم يتوجب استعادة ثقة شعبنا بالأجهزة الأمنية وتركيبتها والقائمين عليها، وذلك باعتماد عقيدة أمنية وطنية  تحررية تحمي المقاومين وتدعمهم وترفض الاعتقال السياسي. أجهزة أمنية وطنية تقطع مع ثقافة دايتون التي باتت تهدد السلم الأهلي.

لقد دلت تجارب الحوارات السابقة أن الرئيس أبو مازن كان أول المرتدين عن هذه الاتفاقات المبرمة وطنيًا استجابة للضغوط الأمريكية والاسرائيلية والرجعية العربية، ولعل غيابه عن الكثير من جولات الحوار أطفت عدم الجدية من قبل قيادة السلطة الفلسطينية وأدارت الظهر للقرارات الوطنية المتخذة  بسبب غياب الإرادة الوطنية الجادة للسير بطريق الوحدة. اليوم السلطة أمام مفترق طرق وامتحان وطني، والإجابة يجب أن تكون واضحة وصريحة إن كانت هي مع مقاومة شعبها أم لا، هل هي مع بقاء رهاناتها وتحالفاتها؟ أم هي أمام استدارة نحو الشرق بالتحالفات بعد أن رهنت كل أوراقها للموقف الأمريكي والاسرائيلي طيلة العقود الثلاثة السابقة؟

المقاومون يسجلون يوميًا أروع صور البطولة والتحدي والصمود مستندين لبيئة شعبية دافئة للمقاومة تنتشر وتمتد على مساحة الوطن، وعلى السلطة عليها أن تحسم خياراتها قبل فوات الأوان، وأن ترفض أي وعود وتسهيلات في بازارات التفاوض تحاول "إسرائيل" أن تقدمها لمنع انهيار السلطة ووظيفتها، وغير ذلك في الحقيقة كمن يهرب من الرمضاء إلى النار.

قد يستغرب البعض المطالبة بضرورة تقديم ضمانات وحسن نوايا من قبل الطرف الذي عرقل تنفيذ الاتفاقات السابقة. أولها حضور أبو مازن ورعايته للحوار الوطني الشامل الذي يزمع عقده بالقاهرة بوضع الاتفاقات السابقة موضع تنفيذ قبل جولة الحوار المرتقبة لإثبات صدقية السلطة، وتغيير ملموس في تركيبة ورأس الأجهزة الأمنية وإنهاء أي تعاون مع الاحتلال وإنهاء التغول الأمني وإطلاق سراح المعتقلين على خلفية الرأي والمعتقد، وترسيخ هيبة القانون ونزاهته واحترام الدستور الفلسطيني ومنع تغول السلطة الأمنية والتنفيذية على السلطة التشريعية والقانون الفلسطيني. كل ذلك يعني الذهاب لمجلس وطني توحيدي جديد، يضم الجميع الذي يشكل المدخل الرئيس لبث مناخات الأمل بإمكانية نجاح أي جولة جديدة للحوار.

دون تقديم هذه الضمانات المسبقة للحوار مجددًا سنكون أمام مضيعة للوقت وإعادة تلميع للسلطة ونهجها الذي ساد طوال العقود الثلاثة السابقة والذي أوصلنا لما نحن عليه، من انقسام سياسي وجغرافي وغياب لدور ومكانة المنظمة وتمثيلها وتآكل شعبيتها.