عُقدت مئات اللقاءات بين القوى والفصائل الفلسطينية في إطار ما يعرف بالحوار الوطني والحوار لأجل المصالحة، كما نتج عن هذه اللقاءات والحوارات اتفاقيات كثيرة وتفاهمات أكثر، ولكن ما هو مختلف بشأن اللقاء في القاهرة ليس صيغة الدعوة أو الرعاة أو غير ذلك، المختلف حقًا هو أن هناك ما تغير على أرض فلسطين، حيث باتت هناك معركة يومية تدور في شوارع الضفة المحتلة وقراها ومخيماتها في مواجهة العدو، معركة انطلقت في ظل يأس تام من قدرة مسار التسوية والتنسيق مع الاحتلال على وقف الهجمة الاحتلالية الهادفة لضم ما تبقى من أرض الضفة المحتلة، وأيضًا يأس مشابه من انتظار انجاز "استراتيجية وطنية موحدة" لمواجهة العدوان.
من استحدث هذا اللقاء وصنع دواعيه هم المناضلون الفلسطينيون الذين يقاتلون العدو، والجماهير التي احتضنت نضالهم وصمودهم ودفعت ثمنًا لهذه المقاومة، ولولا ذلك، ولنكن صادقين مع أنفسنا لما التفتت السلطة الفلسطينية للدعوة لذلك اللقاء، في وقت تواصل فيه المسار العدمي الذي يجرّد شعبنا من عوامل قوته في مواجهة الاحتلال، بل وتواصل الصمت والتواطؤ في ظل العدوان الصهيوني المتواصل ضد شعبنا.
إن هذا الوضع الذي يقود القوى السياسيّة والفصائل والسلطة إلى الالتقاء والحوار، ينظر له الجمهور الفلسطيني باعتباره المحطة الرسمية التي يجب أن تقدم إجابة على أمرين: الأول وهو العدوان الصهيوني، والثاني وهو المقاومة والموقف الرسمي منها، وهو ما يدفع التفاعلات حول هذا اللقاء غضبًا ورفضًا وحماسةً وقبولًا إلى أقصاها، ولا يخفى أن هناك مطالبات جدية للقواعد الجماهيرية لفصائل المقاومة بمقاطعة هذا اللقاء، وأيضًا تفاؤل مفرط من شرائح أخرى بشأنه.
لا أحد في الشارع الفلسطيني يتوهّم أو يطالب السلطة الفلسطينية بقتال العدو، ولكن الجميع يعلم أن السياسات الرسمية الفلسطينية بكافة جوانبها باتت أسيرة لذات المسار الذي يهيمن فيه الاحتلال على سلوك أجهزة السلطة ومؤسساتها، وهو ما يرفضه شعبنا ويطلب تغيير حقيقي لهذا الوضع، وهنا ليس المهم ما سينتجه لقاء القاهرة بالمعنى المباشر، ولكن تلك المحاكمة المباشرة التي يجريها الجمهور الفلسطيني لأداء الأطراف السياسية الفلسطينية، هل ستذهب هذه السياسة وممثليها لمناقشة القضايا الحقيقية، العدوان، المقاومة، صمود الناس واحتياجاتهم؟ أم ستنتحر هذه السياسة مجددًا في خانات المناكفة والانقسام وأسئلة السلطة وتقاسمها؟
مرة أخرى، إن سياسة لا تستجيب للمتغيرات هي ميتة بالفعل، وأطرافها ستكون على طريق الفشل حتمًا، المتغير هنا أن شعبنا يقاتل الاحتلال بالفعل، فهل ستستمر سياسات الانقسام في إضعاف الجبهة الداخلية؟ وهل ستستمر السلطة في التنسيق الأمني؟ هل سيقوم المستوى السياسي الرسمي بإجراءات تجعله طرفًا لجانب الجماهير التي تقاتل الاحتلال؟
أما أسئلة الحكم والسيطرة، وحتى الإجراءات التنفيذية التي قد تتفق عليها أطراف الاجتماع، فهي تفاصيل يجب أن تجيب على الأسئلة الرئيسية، هل سنذهب لتشكيل قيادة وطنية موحدة تقود مواجهة حقيقية لجرائم الاحتلال؟ أم أن الفصائل الوطنية والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير ستخوض نقاش آخر لا يعني الشارع الفلسطيني في شيء في أيامنا هذه؟
دماء أبناء شعبنا، التي يريقها الاحتلال يوميًا هي ثمن الفشل المستمر، وكذلك أرضنا المسلوبة والتي يمضى العدو في مصادرة وضم بقيتها، وجودنا على جزء كبير من أراضي فلسطين أيضًا، هذا هو محور محاكمة الشعب للقاء القوى السياسية بمستواها الرسمي والفصائلي، والذي يجب أن تعيه هذه القوى جيدًا، وهنا لا نقول: أن الجميع متساو في مواقفه وفي مسؤوليته عمّا وصل إليه الحال أو حتى عن النتائج، فهناك من يذهب لطرح هذا التحدي لأنه يؤمن بالحاجة لحشد الجميع في هذه المواجهة، وهناك من يذهب لكسب الوقت أو إضاعته بالأصح، ولكن شعبنا ليس بغافلٍ عن ذلك.
في كل ما سبق هناك احتياجات واضحة لشعبنا، أولًا قرار بالمواجهة ضد هذا العدو، وثانيًا خطوات تزيح كل العوائق وتوقف السياسات التي تعيق هذه المواجهة وتكبل شعبنا، وثالثًا أدوات واستراتيجيات وآليات للمواجهة تثبت استعداد الكل الفلسطيني الرسمي والفصائلي للنهوض بأعباء هذه المواجهة.