Menu

الأسير أسامة الأشقر... وزير خارجية في سجون الاحتلال الإسرائيلي

عيسى قراقع

لقد ذهلت من مئات الرسائل التي كتبها الأسير الفلسطيني أسامة الأشقر وعلى مدار ثلاثة عشر عاما أرسلها إلى كل بقاع العالم، وذلك ضمن مبادرة خلاقة لمشروع مراسلات وتواصل بين الأسرى داخل السجون والمبدعين من أبناء الشعب الفلسطيني، مثقفين وكتاب وأساتذة جامعات وطلاب، وتطور المشروع باندفاع شديد إلى مراسلة شخصيات خارج الوطن لتشمل شخصيات عربية وعالمية، شعبية ورسمية وحقوقية، ومن حملة جوائز عالمية، سفارات وقناصل، رؤساء بلديات وفنانين وإعلاميين، جمعيات ومؤسسات ورجال أعمال، لجان وحركات شبابية وغيرهم الكثير الكثير، رسائل تضع قضية الأسرى وحقوقهم أمام الجميع كقضية إنسانية عالمية، ومن مسؤولية المجتمع الدولي وكل الاحرار والشرفاء في العالم.

لن يخطر على بال أحد أن أسيرا محشورا يستطيع ان يقوم بهذا العمل والجهد العظيم من داخل السجن الصهيوني، لا سيما أنه عانى الكثير في البحث عن طريقة لإخراج هذه الرسائل المعرضة للمصادرة والملاحقة والتفتيش، فلجأ إلى وسائل سرية عديدة من أجل أن ترى النور وتصل إلى أصحابها في كل مكان، يسهر طوال الليل يكتب، يجمع الأسماء التي يقرأ عنها أو يشاهدها على شاشة التلفاز من المؤثرين في الحياة السياسية والأدبية والاجتماعية، ليكتب لهم بمشاعره الصادقة مصمما أن يحطم الحواجز والمعازل، وان يكون العالم بأسره متيقظا لقضية الإنسان الأسير ومعاناته مشاركا في القيام بواجبه بالدفاع عن حق الأسرى بالحرية والكرامة والحياة.

الأسبر أسامة الأشقر سكان قرية صيدا قضاء طولكرم، اعتقل عام 2002 خلال انتفاضة الأقصى، وحكم عليه بالسجن ثماني مؤبدات وخمسين عاما، أنهى دراسته الجامعية في السجن وحصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير داخل أكاديمية السجن التي شيدها الأسرى بإرادتهم وتصميمهم على التعلم والتعليم،  وتحدي الإجراءات التعسفية الإسرائيلية بحرمان الأسرى من التعليم، وقد جمع أسامة رسائله في كتاب صدر مؤخرا بعنوان ( رسائل كسرت القيد)، والذي وصفه الأسير المناضل مروان البرغوثي بأنه كتاب يعبر فيه أسامة عن رفض الاستسلام للزمن الاستعماري، والإصرار على تحرير هذا الزمن من القيود، ليؤكد أن الأسير غير قابل للكسر بإرادته الصلبة وبالإيمان العميق بحتمية النصر والحرية، فالكتابة في السجون هي ممارسة الحرية وهو شكل من أشكال مقاومة الاعتقال.

رسائل أسامة التي حشدت وجيشت المجتمع العالمي حول أسمى وأهم قضية وهي قضية الحرية وحق تقرير المصير، حملت أبعادا جمالية وأدبية وفلسفية وفكرية، فلم تكن رسائل نمطية بقدر ما فيها من إدراك ورؤية سياسية واجتماعية ومسؤولية وطنية، وفيها من الخيال والأحلام ما يجعلها رسائل أسطورية خارقة للمألوف ومحلقة في الفضاء والتاريخ ماضيا وحاضرا ومستقبلا وذاكرة، وفيها من المعلومات ما يجعلها رسائل تسجيلية وتوثيقية، وفيها من المشاعر والأحاسيس ما يجعلها رسائل حب وعشق صوفية، وفيها من التحدي ما يجعلها رسائل للمقاومة الثقافية.

كيف استطاع الأسير أسامة الأشقر أن يكون حاضرا هنا وهناك؟ نسمعه في كل المنابر والأمكنة، يخاطب الناس والشعوب والأمم، يطرح عليهم أسئلة الانعتاق والخلاص من براثن السجون وقيوده، ومن أنظمة العبودية والسيطرة والمخططات العنصرية، إنها قصة حب متميزة وإعجازية لا تحدث إلا في فلسطين، إنها حبيبته وخطيبته منار خلاوي، المرأة التي ربطت مصيرها بمصير أسامة في الدنيا والآخرة، أصبحت هي صوته ويده وقلبه وقلمه وجناحيه الذي أوصل هذه الرسائل إلى كل الشخوص، فلولا منار لما كانت هذه الرسائل، امرأة فلسطينية جريئة وشجاعة حارسة حلم الحرية، حلم الرجال الأبطال، حررت أسامة ورسائله بحبها واخلاصها وحملته خارج الأسوار والأسلاك والزنازين المعتمة، حطمت منار المؤبدات الثقيلات لتقول له: الحياة كلها لك، حياتك هي الباقية، المناضل لا يغيب ولا يدفن في النسيان، المناضل موجود مع شعبه وأحبائه وأصدقائه، المناضل هو الروح، وروحك يا أسامة معنا أينما تكون.

من يقرأ رسائل أسامة يجد أنه يشتبك بثقافته ووعيه مع السجن وقسوته ويحقق ذاته رافضا أن يمتصه السجن أو يحوله إلى جثة بلا إرادة وقرار، جسدي في السجن ولكن عقلي وروحي في الخارج تشارك أبناء شعبي في معاركه المتواصلة من أجل الحرية والاستقلال، وإن كنا في السجون، و فلسطين سجن كبير، فنحن موجودون ولن يستطيعوا نفينا وتطويعنا وسحق وجودنا الأبدي على هذه الأرض المباركة.

أسامة الأشقر، المناضل والأسير والدبلوماسي، يقوم بكافة الأدوار، يجمع بين الكلمة والمقاومة، السياسي والمقاتل والمثقف، شكل مع خطيبته منار خلاوي وزارة خارجية في سجون الاحتلال، حكومة فلسطينية ذات سيادة خلف القضبان، فوصل جهدهم إلى كل الجهات حتى إلى القضاء والقدر، رسائل مؤثرة في الرأي العام الإقليمي والدولي، تشرح أهمية الوقوف لمساندة ومناصرة قضية الأسرى كقضية إنسانية ووطنية، رسائل فيها خطاب تحرري إنساني وحقوقي، تفضح فاشية الاحتلال وجرائمه وعدوانه المستمر على العدالة والقيم والمبادئ الإنسانية، رسائل تحاكم المحتلين ومجرميه، وتضع العالم أمام مسؤولياته الأخلاقية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني العادلة.

جميع من وصلتهم الرسائل اهتزت مشاعرهم، نهضوا من غرف نومهم ومكاتبهم ومن روتين الحياة المملة، هناك من جاءهم من الأعماق البعيدة، هبط عليهم كالوحي، دق على جدران ضمائرهم وقال لهم: الآن اقرأوا واشتعلوا، أخذهم أسامة إلى الموقع الذي يجب أن يكونوا فيه، بعضهم اضطربت كلماته وردوده بعد أن اكتشف أنه لا يدري أن هناك قبورا تسمى السجون الصهيونية، وأن بعض الأسرى يقضون أكثر من أربعين عاما فيها، وأن كل ما كتبه المثقفون والمنظرون والفقهاء من بلاغة لم تهدم جدارا او تقلع مستوطنة، ولم تعد أسير حيا إلى وطنه وعائلته، ما هذا الحبر الكثير الذي لم يحرر إنسانا ويقوده إلى مساحة من الأمل واليقين؟ فلتكن الرواية والقضية هي فلسطين المشتبكة جسدا وفكرا ومقاومة هي بطلنا الوحيد في فصول أدبنا وخطابنا ولغتنا حتى تكتمل الحرية الشاملة في خاتمة الكلام.

رسائل الأسير أسامة الأشقر هي جزء من ثقافة وأدب وتجربة وعراقة الحركة الفلسطينية الأسيرة، وجزء نوعي من الأدب الإنساني التحرري العالمي، جنبا إلى جنب مع رسائل وكتابات ومنتوجات المفكرين والمناضلين الأمميين الذين وقفوا في وجه الظلم والاستعمار، من أبو فراس الحمداني إلى غرامشي ودستوفسكي وناظم حكمت وبابلو نيرودا، وأحمد فؤاد نجم ونيلسون مادنيلا ولوركا ومظفر النواب وسهى بشارة ومعين بسيسو ومحمود درويش وتوفيق زياد وحنا أبو حنا وسميج القاسم وخليل بيدس وجيفارا، ويوليوس فوتشيك، وعبد الرحمن منيف، والطاهر بن جلون وصنع الله إبراهيم وغيرهم الكثيرون الذين حرروا الكتابة في السجن من أوجاعها وقهرها لتصير لاهوتا ومنهجا للتحرر من تحت أعواد المقصلة.

رسائل الأسير أسامة الأشقر وصلت الجميع، وتلقى الردود على هذه الرسائل، فمنهم من قال أن الفرح في السجن هو أقوى سلاح في مقاومة العدو، وأنه بمثلكم يتعزز إيماننا بفلسطين واعتزاز بنضال مجاهديها، ومنهم من قال: أسرى فلسطين يحاصرون سجانيهم، ويمدوننا بكل أسباب القوة والصمود، ومن الردود من قال أن رسائل أسامة بقدر ما أسعدتني أوجعتني، فهي لم تحمل فقط كلمات اطراء وتقدير وتشجيع بقدر ما حملت من توجيه مسؤولية لي بأن التفتوا إلينا نحن الأسرى، آخرون قالوا: أنكم الضرورة التي تشحذ أرواحنا، والمعيار الذي نجابه به كل طارئ وغريب، وأن مواقفكم هي التي تحفظ لثوابتنا وهويتنا إطارها وجوهرها في مواجهة كل استراتيجيات الإلغاء والنفي والتصفية، وكتب البعض أن الأسرى الذين هم اكثر شبها بفلسطين قد حولوا السجون إلى معاهد وجامعات ومدرسة نضالية وإبداعية ليكون للسجن مذاقا آخر، يصنع من المرارة أحلاما وردية عن الحرية والوطن والحب، والعلاقة الإنسانية مع الأرض والانسان.

كل من قرأ رسائل أسامة الأشقر تحسس قلبه وعقله ليدرك كيف ينتصر الحب على العدم والموت ويجدد الحياة في النفوس العنيدة، ما هذا القلب الذي يتدفق وينهمر في الكون حبا ونهارا وينتصر على ظلام الطغاة؟ فيصير جيشا وشهيدا وأغنية وبندقية، وقد حرر أسامة برسائله كل المسجونين في الحياة عندما تفتقد الحياة إلى المعنى والقيمة الإنسانية النبيلة، وكما قال الفيلسوف سارتر: الكتابة فعل ينطوي على قدر وافر من الحرية، ومن الصعب تذكر حركة تحرر أو ثورة لم تنطلق شرارتها من مقولات وآراء ضمها كتاب أو مجموعة من الكتّاب، حتى ليمكننا أن نعتبر الكتّاب أنبياء الثورات والمبشرين بمخاضاتها.

شكرا لوزير الخارجية في سجون الاحتلال الصهيوني الأسير أسامة الأشقر ولخطيبته منار خلاوي، ومثلما استطاعت هذه الرسائل أن تفتح أبواب السجون الموصدة، فيا ليتها تفتح أبواب الصمت والسكوت، ويصبح لكل قارئ وصلته رسالة قبضة ومعولا وفأسا وصوتا يدوي وصحوة من غضب.