Menu

نطافُ الأسرى تنجبُ "سفراء الحريّة".. "ميلاد وليد دقّة" نموذجًا

إلهام الحكيم

نشر هذا المقال في العدد 52 من مجلة الهدف الإلكترونية

عندما نستمعُ لقرارات الحكم على الشباب الفلسطيني بأحكامٍ عاليةٍ يتجاوزُ بعضُها مؤبّداتٍ عدّة، يتبادرُ لذهننا قمّة الظلم والوحشيّة التي يتّسم بها الكيان الصهيوني الغاصب الذي يسعى لحجز حرية الفلسطينيين منعًا لهم من المقاومة الرافضة للاحتلال، هل يمكنُ لأحدنا تصَوّر معنى قرار الأَسْر مئات السنين، حيث يفوّتون على الأسير فرصة التفكير بالحرّية مهما حصل على الإعفاء وتخفيض سني الاعتقال، ومن ثَمَّ لا يكون للأسير أي أملٍ بمغادرة السجن، هذّا أوّلًا، إضافةً لمحاولة منع الآخرين بالتفكير بالمقاومة خوفًا من الاعتقال، ومن ثَمَّ حجب مجرد تفكير الأسير ببناء أسرةٍ من خلال الزواج والإنجاب، فالعدوُّ الصهيونيُّ يرعبُهُ الجانبُ البشريُّ نتيجةَ ارتفاع نسبة الولادات بين أبناء الشعب الفلسطيني، ما يخلُّ بالتوزّع الديمغرافي لصالح الفلسطينيين رغم المحاولات المستميتة لرفع عدد المهاجرين الصهاينة إلى الأراضي المحتلّة، فالأسيرُ الأعزب يبقى عازبًا، كما يفوّتون على المتزوج فرصة الإنجاب، ومن ثَمَّ زرع اليأس عند الزوجات ودفعهن لطلب الطلاق والارتباط بآخر، أو منح الأسير لزوجته أو خطيبته الحرية باختيار مستقبلها، لكن هذه السياسة الصهيونية الممنهجة  باءت بالفشل نتيجة تمسّك الزوجات بأزواجهن، بل والفخر بهم باعتبارهم أسرى حريّة.

تهريبُ نطف الأسرى لإنجاب "سفراء الحرّيّة":

تحدّثنا بدايةً عن خلفيّة الأحكام العالية التي أحد أهدافها قطع نسل الأسرى، ومنعهم من تشكيل أسرةٍ خوفًا من التكاثر، وحصول خللٍ ديمغرافي، لكن إصرار الفلسطيني على استمرار الحياة، واعتبار ذلك جزءًا مهمًّا من نضاله وعقيدته بأنّه سيخرج يومًا، ويعيش بكرامةٍ دفعت العديد من الأسرى أصحاب الأحكام العالية بالتفكير الجدي بالتناسل وهم خلف القضبان عبر تهريب النطف فبدأ تنفيذ الفكرة فترة التسعينات من القرن الماضي، لكنّها فشلت بالأسلوب، إضافةً لتردّد البعض خوفًا من كلام الناس والتداعيات الاجتماعيّة على زوجاتهم، ومع الإصرار الذي لا يعرف المستحيل نجح بعض الأسرى بتهريب نطافهم بأسلوب طبي بالتنسيق مع مراكز لعلاج العقم وأطفال الأنابيب، وتزايدت المحاولات بعد الحصول على فتوى شرعية تجيز تهريب الحيوانات المنوية وتسليمها للمركز بوجود شاهديْن من أهل الأسير وآخريْن من أهل الزوجة للمصداقية بشرعية الموضوع، وصولًا للإلقاح الصناعي في الوقت المحدّد، وقد وصل عدد الأطفال المولودين جراء التهريب 122 طفلًا وطفلةً من 78 أسيرًا - حتى الشهر السادس من عام 2023 -  آخرهم أربعة توائم للأسير أحمد الشمالي من غزة، والطفل براء ابن الأسير سامر محمد أبو كويك من الضفة الغربيّة.. أما باكورة هؤلاء السفراء، فهو الطفل مهند ابن الأسير عمار الزبن الذي تمَّ إنجابه عام 2012، وهذا يعني إصرار الفلسطيني على الإنجاب وتثبيت وجوده حتى وهو في غياهب السجون، لهذا نجحت عمليات تهريب النطاف والإنجاب، ويعدّ الأسير وليد دقة نموذجًا مشرقًا للفلسطيني المقاوم، الذي تسانده الزوجة ومختلف أفراد العائلة رغم حكم المؤبد وعدم الثقة بالسجان الصهيوني بأنه سيخرج ذات يوم:

الأسير المفكّر وليد دقة، من باقة الغربية في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، اعتقل عام 1986 محكوم بالسجن المؤبد 39 سنة، حاصل على الماجستير في العلوم السياسيّة. له العديد من الكتب والإصدارات ومن أبرز مفكري الحركة الأسيرة، أنهى حكمه في 24 آذار 2023 إلا أن المحكمة مددت اعتقاله لأسبابٍ غير معروفةٍ رغم إصابته الخطيرة بالسرطان في النخاع الشوكي منذ سنوات.. حلم بالإنجاب باعتباره وسيلةً نضاليّة.. وبعد ربع قرنٍ من الاعتقال كتب رسالةً بعنوان: "لطفل لم يولد بعد" أرعب فيها السجان رغم أن ذلك كان بعيد المنال، لكنّه ليس مستحيلًا بالنسبة لوليد الذي التقى بفتاة أحلامه الصحفيّة سناء موسى، واتفقا على الزواج رغم وجوده خلف القضبان، وتمَّ لهما ما أرادا. عقدا القران عام 1999 لكن لم يُسمح لهما بالخلوة والزواج رغم أن قانون الاحتلال يجيز ذلك كونه "يحمل الهويّة الإسرائيليّة" حسب القانون نفسه المتحيّز لليهود!

بقي وزوجته يفكرا بالطريقة المثلى للإنجاب وكسر حاجز السجن وشوكة السجان وكان لهما ما أرادا بعد 20 عامًا من الارتباط، تحقّق الحلم وأثمر تهريب النطاف بوجود الشهود. حملت سناء وعندما علم الاحتلال بذلك حاول محاصرة الزوجين فمنعهم من اللقاء لشهور عديدة لينغّص عليهم الفرحة. اتفق مع إدارة السجون على متابعة لحظة الولادة عبر الهاتف لكن القبح الصهيوني يأبى إلا أن يظهر بخبثٍ وجلاء، فنقل الأسير إلى العزل ومنعه من عيش لحظة ولادة الحياة لابنته البكر في الناصرة. تحوّل ذلك الأمر غير الإنساني إلى وسيلةٍ نضاليّةٍ شارك فيها الأسرى المحررون مع الأهل والأقارب والأصدقاء والإعلام الفلسطيني، فكانت هبّة شعبية عارمة قلبت السحر على الساحر وأطلقت "ميلاد" صرخة الحياة لتقول وهي في المهد "أنا ميلاد وليد دقة. تحررت نطفة وولدت عام 2019 وصرت سفيرة للحريّة "اختار والدي البطل اسمي قبل أعوام حين كتب رسالته الشهيرة وقال "لفكرة أو حلُم بات يرهب السجان دون قصد أو علم، وقبل أن يتحقق.. أكتب لأي طفل كان أو طفلة، أكتب لابني الذي لم يأت إلى الحياة بعد.. أكتب لميلاد المستقبل.. فهكذا نريد أن نسميه / نسميها". منحني اسمه فكنت أنا ميلاد الخير والمحبة.. ميلاد الحرية مع ارتباط اسمي باسم أبي الحر حتى لو كان خلف القضبان.. ارتبط اسمي به رغمًا عن الاحتلال.

رفض الاحتلال تسجيلها على اسم والدها وحارب الزوجان للحصول على هذا الحق وتسجيلها قانونيًّا باسمه. قالت سناء بعد الولادة بشهور: "هذا الاسم الذي حلم به كثيرًا داخل غياهب السجن وبتحقيقه أصبح لحياته معنى آخر" وتتابع: "اليوم بوجود ميلاد صار في غنى.. أكثر من عشرين عامًا على علاقتي بوليد أما اليوم فالعلاقةُ موجودةٌ لكنّها أجمل بمليون مرّةٍ من قبل، لا يوجدُ كلمات تصف الشعور، فعندما أنظر إلى وجه هذا المخلوق الصغير الذي اسمه ميلاد تتقزم في عينيّ كل الدنيا وكما قال وليد: كأن المعاناة وكل السجن بأعوامه الـ 35 مسحته اليوم، علاقة وليد بميلاد أكثر من رائعة ويعيش الدور جيدًا ويحدثها كأنّها صبية في العشرين ويحلم بلحظة لقائه بها. لقد أصبح السجن أقسى عليه أكثر من قبل كما صار غيابه أشد قسوة عليّ حيث أفتقده في أدق التفاصيل وأبسط الأمور، لكن ما يعزينا أن موعده مع الحرية يكون بعد أربعة أعوام وحينها لن تتسع فلسطين لفرحة الزوجين اللذين حلما بإقامة عرسٍ من جديد، وبوجود ميلاد هذه المرة التي ستعتز بوقوفها أمام قامة أبيها الذي سيحدثها كيف كان أحد أقدم الأسرى الفلسطينيين، وربما تنام على كتفه وهو يروي لها قصة واقع الأسرى المقاومين للاحتلال والمصرّين على عدم الاستكانة للأسر، ويسعون للإنجاب وفتح البيوت العامرة بالأطفال الفاعلين في خدمة القضيّة والشعب والمجتمع.  

مضت السنوات الأربع وانتهت محكوميّة وليد لكن الاحتلال مدّد الاعتقال دون إبداء الأسباب الموجبة لذلك، وهو اليوم يوجد في وحدة العناية المركزة في مستشفى "أساف هاروفيه" في مدينة الرملة، وأكدت عائلته أن وضعه الصحي بالغ الخطورة.. فيما قالت غرفة الفصائل المشتركة في تصريح لها: شعبنا لن يقبل أن يستقبل أسراه شهداء، كما أطلقوا شعار: الحرية لوليد دقة وتحول ذلك إلى "ترند" لكن الاحتلال لم يستجب للنداءات حتى الآن بما فيها نداء ميلاد وليد دقة بقولها: "أنا بانتظارك يا بابا ومشتاقة لعناقك وحنانك يا حبيبي حتى أعيش متل باقي أطفال العالم".

الحرائر ينتظرن حرية الأحرار: 

سناء سلامة نموذج مشرق ومشرّف لزوجة أسير طال أمد اعتقاله، لكنها كما زوجات الأسرى اللاتي آثرن انتظار عودة أزواجهن لبيوتهم ومتابعة الحياة العائليّة التي تحلمن بعيشها في جو أسري بعيدًا عن التضييقات المجتمعيّة والمعاناة الاقتصاديّة التي يمكن أن تتعرّض لها الزوجة الوحيدة أو مع أبنائها، يقُمن بدورهن التربوي ولسان حالهن يقول: سيأتي اليوم الذي سيتحرّر فيه زوجي ويعود  للمنزل ويخفف عني الأعباء ونوزّع المهام بيننا، وغيرهن فضّلْنَ حمل البذرة الزوجيّة في أحشائهن وإنجاب "سفراء الحرية" الذين يستحقون هذا الاسم بكل جدارة، وقد ولدت بعض الزوجات توأمًا أو ثلاثة توائم، ما دفع إدارة مصلحة السجون للتفكير بفرض عقوباتٍ على الأسرى الذين يثبت تهريبهم للنطف كما حصل مع العديد من الزوجات اللاتي حُرمن مع أبنائهن من زيارة الأسرى والتواصل على اعتبارهم عائلة! كما تدرس الإدارة اتخاذ إجراءاتٍ عقابيّةٍ إضافةً لمنع الزيارات، تتعلّق بدفع الغرامات الماليّة الطائلة، وعدم الاعتراف بشهادات ولادة هؤلاء الأطفال! لكن إصرار الأسرى وزوجاتهم على تلك العمليّة التي اتّخذت بعدًا اجتماعيًّا وسياسيًّا ودينيًّا جعلها رمزًا للبطولة الفلسطينيّة التي ستستمرُّ رغم كلّ محاولات المنع الصهيونيّة.

المصادر:

  •  العالم العربي - القدس العربي – قدس برس – الجزيرة نت