Menu

الدكتور محمد نعيم فرحات "للهدف": غسّان غاب لكن الوعي الذي قدّمه لم يسقط ولم يكنْ من الممكن تغييبُه

محمد نعيم فرحات

أجرى المقابلة: د. وسام الفقعاوي ونشرت في العدد 52 من مجلة الهدف الإلكترونية

(محمد نعيم فرحات، من مواليد فلسطين، أكمل دراسته العليا في علم الاجتماع في جامعة تونس الأولى. بدأ حياته في الكتابة صحافيًّا وكاتبًا في جريدة الخليج الإماراتيّة، وجريدة الرأي العام، وجريدة الشروق التونسيتين، وجريدة العلم في المغرب، وعمل مندوبًا للشؤون الفلسطينيّة لإذاعة الشرق، التي تُبثُّ من باريس، إضافةً لمنابرَ عربيّةٍ أخرى.

منذ سنواتٍ خلت يعمل أستاذًا لعلم الاجتماع في الجامعات الفلسطينيّة، وهو ناشطٌ فكري وسياسي في المشهد الفلسطيني والعربي، ويتولّى حاليًا الأمانةَ العامةَ للجمعيّة العربيّة لعلم الاجتماع، التي أُنشئت في تونس عام ١٩٨٦، وأسهم في إنشائها أبرز وجوه العرب في علم الاجتماع والكتّاب والمفكّرين ممّن عُرفوا في النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت من أنجع المحاولات الأهليّة العربيّة التي سعت لتأطير العمل الفكري والأكاديمي في المجتمعات العربيّة واهتمّت بقضاياها المختلفة. 

كتب مئات المقالات والمقاربات السوسيو ثقافيّة والسياسيّة والدراسات التي نشرها في منابرَ مختلفة، فقد أصدر عام 2014، كتابًا بعنوان: "الفلسطينيّون والمنفى: دراسة في بنية الوعي والثقافة: إنتاج الانكسارات أو المقاومات المحبطة"، وفي شهر تموز المنصرم، صدر له كتابٌ جديد: "كمين غسان - كيف تعقّب النص تاريخه وأدركه").

* د. محمد ما الذي أخذك لاستطلاع "كمين غسان" والكشف عنه؟

** يعودُ الأمرُ لحالة الوعي التي بناها كنفاني وتمايزها وعمقها واختلافها عن مجمل خطاب الأدب الفلسطيني في السنوات الأولى التي تلت النكبة، واشتباكه العميق والضاري مع الواقع الذي وجد نفسه فيه وقراءته العميقة للسياق الموضوعي والذاتي الذي أفضى إلى حالة التشرّد والنفي.

هذه الحالةُ صعدتْ وتشكّلت في وجدانه وعقله من صلب المعاناة التي عاشها وعاينها في نفسه وعند أهله وعند الآخرين. إدوارد سعيد يتحدّث بشجنٍ عن الفلسطينيين المعاصرين "مجتمعًا تاريخيًّا من العذاب" وغسان ابن الطبقة الوسطى والساحل الفلسطيني، كان هناك في صميم العذاب فعليًّا وفكريًّا معًا. غسان لم يتمثّل عذاب الفلسطينيين عن بُعد، أو تخيّله؛ لأنّه كان يعيشه ويتقلّب فيه.

 اقرأ عن زمن الاشتباك في قصته "الصغير يذهب إلى المخيّم" مثلًا، وتابع سياقات وأبطاله خلفياتهم قبل التحوّل تجاهَ المقاومة وبعده، أنّهم يفيضون بالمعاناة والوجع وانعدام القيمة أمام أنفسهم وأمام عدوّهم وأمام الحياة، وهي لحظةٌ استثنائيّةٌ وفارقةٌ في تاريخ الوجع الإنساني الفلسطيني المعاصر.

 في هذا السياق، ولد ونشأ غسان كنفاني ، ومن هناك نصب لوعينا كمينًا دعانا وحثّنا ودفعنا دفعًا كي ننزل فيه، ونحوّله لمعقلٍ فكريٍّ وثقافيٍّ لتعديل التاريخ وظلمه الجبّار؛ تاريخٌ صنعه أعداءُ شعبه، تزوّد بالمقولات والقدرات والأحلاف الكبرى، الذي استفاد أيضًا إلى حدٍّ بعيد، من عجزنا وخيبتنا وضعف تقديرنا من جهة، وتواطؤ البعض منا معه من جهةٍ أخرى.

كمين غسّان كان يزحمُ ويقاومُ كمائن لا حصر لها، كانت تناهض الفلسطينيين وشعوب المنطقة، وتسعى للإطاحة بهم أكثرَ فأكثر؛ كي يتلاشوا ويذوبوا ولا يبقى لهم: لا قدرة ولا طاقة، وحتى لا عين ولا أثر.

كان الوعي الذي قدّمه غسّان كنفاني لنفسه أوّلًا ولنا أوّلًا أيضًا، عبرَ كلّ أشكال تعبيره ونصوصه المكتوبة وغير المكتوبة، هو الأكثر نضجًا وبسالةً واستقامةً؛ كي ننهض، وهذا أمرٌ يحثُّ ويغري على اقتفاء أثره وتمثّله.

وغسّان لم يطلبْ منا تبنّي وعيه ودعوته وهو جالسٌ في مكانٍ مريح، لقد كان تجسيدًا حيًّا وماجدًا على التطابق بين الفكرة والموقف والاختيار في حدود شخص، وكان في هذا الصدد أمثولة قالت قولها بفعلٍ فصيح. وغسان ليس فردًا، بل حالةٌ وتيّارٌ وامتدادٌ حاضر، ويتواصلُ حتى على أيدي أناسٍ لا يعرفونه على نحوٍ دقيق، وأحيانًا لا يعرفون اسمه، وهذا يؤشّر على قوّة حضوره وحضور نموذج وعيه على نحوٍ يثير الدهشة، رغم انقلاب وتقلّب أوضاع الفلسطينيين السياسيّة على نحوٍ بالغ البؤس.

* قلت في مقدّمة كتابك "كمين غسان": "رغم سقوط غسان مسفوك الدم"، إلا أن صواب الوعي الذي قدمه لم يسقط، بقراءة سوسيو– تاريخيّة، أين ترى الحالة الفلسطينيّة اليوم من هذا الوعي الصواب؟

** هذا صحيحٌ من - وجهة نظري – باعتباري قارئًا للواقع والتاريخ، غسّان غاب لكن الوعي الذي قدّمه لم يسقط، ولم يكن من الممكن تغييبه، بل إنّه يتعزّز، وهنا تكمن أحد مصادر قوّة غسّان ووعيه الباقي دليلًا صالحًا يتأكّد كلّ يومٍ عبر الزمن.

 بعد موت غسان، كان هناك سياقٌ سياسيٌّ موضوعيٌّ وذاتيٌّ أدّى إلى انتكاس الحالة الفلسطينيّة وتدهورها، اليوم نلاحظ أنّ هناك حالتين في المشهد الفلسطيني، هما على طرفي نقيض، حالة التردي والتساوق والتواطؤ على الذات وعلى متطلّبات الحياة الكريمة، وحالة تعبّر عن نفسها على أساس وعي مقاوم، وتعمل في ظروفٍ صعبة، لكنّها على صلةٍ بالوعد، فيها قوى بلغت مرحلةً معقولةً وحاسمةً من التكامل، وفيها قوى تشكو من غياب التكامل في رؤيتها وخياراتها وتعبيراتها. لكن المتوقع في المدى التاريخي المنظور من مجمل ما يحدث في المنطقة يبشّر وسط الصعوبات بزمنٍ من نوعٍ آخر.

كما أنّ هناك عودةً واستعادةً ل فلسطين فكرةً، ودعوةً للتحرّر والانعتاق؛ كي تستقيم أحوال الزمن برمّته، وليس أحوال فلسطين وأهلها فقط، وهذا سرٌّ من أسرار من شاهدَ فلسطين وغيّبها، لتاريخها يقول لنا: إنّ من بين أدوارها أن تعطي هُويّةً للزمن، ما يتعيّن على غالبيّةٍ من الفلسطينيّين (قوى وأفرادًا ومجتمعًا) إعادة قراءة فلسطين وفقهها من جهة، والإجابة عن سؤالها أمام أنفسهم هو: أين هم من الوعي المناسب والملائم الذي يمكّنهم من بلوغ أهدافهم داخل مشقّات التاريخ، وأن يضعوا حدًّا لضلال السعي، بينما يحسبون بأنّهم يحسنون صنعًا، قياسًا على القول العالي الكريم؟

على وعيهم أن يرى فلسطين في مدارها الواسع، ويدركون مرّةً واحدة، ولكن إلى الأبد، أنّ تقرير مصيرها عند نقطةٍ معيّنةٍ يكفّ عن أن يكون شأنًا فلسطينيًّا خالصًا، فلسطين في الزمن والتاريخ شأنٌ روحيٌّ وزمنيٌّ للقوى الحيّة في أمّتين معروفتي الاسم والعنوان، وأمة ثالثة منثورة على مساحة العالم. ومن كانت فلسطين هي دليله فلن يضل الطريق أبدًا، وعند فقدانها دليلًا ودعوةً فلن يربح أحد من المهتمين بها، لا نفسه ولا مصيره ولا أي شيء آخر.

* عدَّ البعض الكتابة العربيّة بعد سنة 1948، "عملًا تاريخيًّا" و"عملًا مقاومًا"، في تصدّيها للانقطاع والتمزيق اللذين أحدثتهما النكبةُ في الزمن العربي، ومنه الفلسطيني، في حين قلت إنّ هدف دراستك "كمين غسان"، هو تعقّبُ بنية الوعي، كما بناها نص "كنفاني" في علاقتها مع التاريخ الذي صدرت منه من جهة، وتحكمها في الواقع ومتطلباته من جهةٍ أخرى: هل لك أن تشرح وتوضح لنا الفكرة المرادة أكثر؟

** عندما جرى تجريد الفلسطينيين من كلّ شيءٍ بفعل النكبة وسياقها، لم يبقَ لديهم، وكما قال الراحل محمود درويش، سوى الكلمات، صعود الفلسطينيين من حيز الوجع إلى حيز إدراك ما جرى ثم مقاومته تمّت بقوّة الكلمات أوّلًا.

عبد الكريم الكرمي، نجيب نصار، عبد الرحيم محمود، إبراهيم طوقان، سميح القاسم، محمود درويش، ناجي العلي ، غسان كنفاني، إميل حبيبي، فيصل دراج، يوسف الخطيب، رشاد أبو شاور، خالد أبو خالد، وحشد من الأسماء المتعاقبة، فلسطينيين وعرب كثر أيضًا نهضت من هناك، في حيّز الكلام مقاومةً تؤسّسُ لكل أشكال المقاومات وتشارك فيها.

الكلام أيًّا كان الشكل الذي يرد فيه نصوصًا على تنوعها أو أصواتًا حيّة تقول ليست منعزلةً عن الواقع الذي تصدر منه، وهو ليس نتاجُ فعلٍ فوضوي. الواقع له بنيةٌ وسياقٌ والكلام الأصيل له بنيةٌ وسياقٌ وبين السياقين والبنيتين تقوم علاقاتُ تجادلٍ وتثاقف، ومن هنا تأتي أهمية تعقّب النصوص للتاريخ الذي تصدر منه، والكشف عن الوعي الذي تبنيه.

هذا ما فعله غسان كنفاني، وهذا ما يجب أن تفعله قراءته وقراءة خطابات الآخرين، وباستثناءاتٍ محدودةٍ لدينا تقصيرٌ فادحٌ في قراءة تجاربهم وخطاباتهم، والوعي الذي تشاركوا في تكوينه واستدخاله وتكوين إيمانٍ عميقٍ مستدامٍ يشارك فيه الجميع ويعملون في ظلّه. واقع الحال الراهن يشير إلى أنّنا متفرقون ومتنافرون ومختلفون أكثر من أيدي سبأ.

في ثنايا نص كنفاني البسيط، لكن المتكاتف إلى حدٍّ مدهش، نعثرُ على ملامح بنية الوعي التي بلورها وأبعادها المختلفة التي قامت على فكرة المقاومة بمعناها الوجودي العميق، وليس بالمعنى المشرذم الذي يعطيه الوعي الفلسطيني السائد لها.

والتعقّب هنا هو فعلُ اقتفاء، يجب أن يكون يقظًا، نبيهًا، ومتبصّرًا، يرمي لإدراك مقاربة النص لعالمه وبنية الوعي التي تقوم فيه.

* يرى إدوارد سعيد أنّ رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" هي من أقوى الأمثلة على الكتابة المقاومة، ويعدّها من أبرع وأقوى الروايات القصيرة في الأدب الحديث، كيف لنا أن نتمثّل مشروعًا وطنيًّا تحرّريًّا إن لم يوازِهِ مشروعًا ثقافيًّا من العيار ذاته؟

** المشروعُ الثقافيُّ لا يقوم في موازاة المشروع الوطني، المشروع الثقافي هو مؤسّسٌ وفاعلٌ دائمٌ لأيّ مشروعٍ مجتمعيٍّ مهما كان وفي أي ظرف كان. قوة الجماعات وتعبيراتها عن نفسها كما ضعفها يعود إلى جوهر ثقافتها ومكوناتها وروحيتها.

النهوض الفلسطيني المعاصر المقاوم هو في الأصل نهوضٌ للروح الثقافية، والتراجع الفلسطيني والارتباك والضمور والانقسام والتشظي والتباين السياسي هو بسبب ابتعاد الخيارات السياسية - عند أغلب، إذا لم يكن كل القوى الفلسطينية - عن الثقافة وروحيتها وقيمها ودليلها الناظم، ولاحقًا نبحث عن عواملَ موضوعيّةٍ أخرى.

الخياراتُ السياسيّةُ السويّةُ تكون تعبيرًا عن الثقافة السويّة، وعندما تنبتُ العلاقة بين السياسة ومرجعياتها الثقافية السوية، تكون النتيجة ضلالًا سياسيًّا وتاريخيًّا مبينًا. الفلسطينيون وقواهم السياسيّة على اختلافها تقيم في حيز الأزمة القائمة بين السياسة والثقافة، كلّ في نحو يخصّه، ولن تصبح لهم جدوى سياسيّة أمام أنفسهم وإزاء التحديات مهما كانت دون حل هذه الإشكالية، وهي إشكالية لا يحلها الجلوس على الموائد، بل في تغيّر ما في نفوس من يجلسون على الموائد، وإعادة الناس لترتيب ما في نفوسهم على أساس القيم والاعتبارات الثقافيّة الإيجابيّة والبناءة. خط المناعة والصمود والقدرة الأول والأهم عند كل الشعوب هو ثقافتها. أمّا ما قاله إدوارد سعيد عن رجال في الشمس فهو وصفٌ حقيقيٌّ وعالٍ ليس بمقدور أحد أن يضيف عليه.

* يذهب د. فضل النقيب إلى أن غسان بدأ بالتعبير عن نفسه سياسيًّا من خلال الرسم قبل الكتابة، ووجد لاحقًا في ناجي العلي الرسام الذي قدّمه من خلال صفحات مجلّة "الحريّة"، تعويضًا عن انشغاله في الكتابة التي أحبها وأعطاها عمره، وهنا هل يمكنُ القول إنّ غسان وناجي مثّلا ظاهرةً واحدة، ومن ثَمَّ لقيا المصير نفسه؟

** ناجي العلي وغسّان كنفاني مثّلا مقاربتين متجانستين في المضمون والأهداف والخيارات، وإن اختلفت أشكال التعبير عندهما، كل واحد منهما فعل ذلك من موقعه وبحساسيّةٍ تخصّه، ولأنّهما كانا أصيلين فقد التقيا في حيز التقاطع العميق والتخاطر عند أصحاب النفوس العالية.

لا نحتاجُ للبحث عمّا يُفضي لإدماجهم مثقفينا وكتابنا للتعامل معهم ظاهرةً واحدة، الذي نحتاج إليه أن نعاين كيف أن دروبهم المختلفة قد أدّت بهم للالتقاء في حيز الأهداف الجماعيّة الموحّدة، وكيف ربطوا جدارة البقاء بالمقاومة.

ناجي وغسان وغيرهما كانوا رايات الوعي الملائم إذا جاز القول، وقادة في جبهات الثقافة التي حاولت صياغة خياراتٍ سياسيّةٍ تتّفق مع منطلقاتها وعواطفها وحاجاتها.

* من أهم النتائج التي قد يصلُ إليها قارئ دراسة غسان كنفاني عن ثورة 1936 – 1939، هي ما يتعلّق بطبيعة النخب والقيادات الفلسطينيّة آنذاك التي صنّفها: قيادة مقاومة، وتعرف جوهر المشروع الصهيوني، وقيادة تجيد المقاومة والمساومة في الوقت ذاته، وأخرى ترى أن ضمان مصالحها يتحقق بالتعاون أو التواطؤ مع الاستعمار لا مقاومته، ونتيجة أخرى مهمّة، وهي أن خسارة فلسطين لم تجرِ عام 1948، بل عام 1939، عندما انتهت ثورة 1936 دون أن تحقّق أيًّا من أهدافها... فأي مقاربة تلك التي يمكن أن تقرأها بين ثورتي 1936 ومآلاتها، وبين ما تعارفنا عليه بالثورة الفلسطينية المعاصرة وأُورّخ لها منذ منتصف الستينات في ضوء ما كتب غسان؟

** قراءة التاريخ الفلسطيني المعاصر تقول للمعنيين الكثير من الملامح الأساسية التي يحتاجونها لتكوين فهمٍ وتفسيرٍ مناسبين لما عرفه هذا التاريخ في نزوله وصعوده، في انكساراته ومقاوماته، وخصوصًا تفسير إعادة إنتاجه لشوائبه.

من هذه الملامح أن الجماعة الفلسطينية وأبنيتها تفرز ديناميكيّة مقاومة، لكنّها تعاني من الإحباط في تواصلها واستدامتها وفي تطوّرها وفي تأطير نفسها على نحوٍ مناسب، وفي تحقيق أهدافها أو التأسيس لتحقيق أهدافها على نحوٍ راسخٍ ومتراكمٍ وواعد.

الوعي الفلسطينيّ لا يقومُ على أساس التراكم والاستئناف من حيّز التراكم، وليس محكومًا بنظرةٍ عميقةٍ وشموليّةٍ للواقع وسياقاته، ولا يعرف فضيلة استخلاص العبر، ولم يتعلّم ذلك، رغم قسوة التجربة، لذلك يميلُ الفلسطينيون جيلًا تلو جيلٍ إلى الارتجال المحبط عمومًا أكثر مما يميلون إلى منطق الخطّة والتأطير الفكري والثقافي والتنظيمي المناسب والمتواصل والقابل للتوريث. كلُّ جيلٍ فيهم صعد من ركام تجربة الجيل الذي سبقه أكثر من آخر منجزاته ومشكلاته، وهذا في مكانٍ ما يشيرُ لبعدٍ مأساويٍّ في طريقة تفكير الفلسطينيين.

هناك مشاكلُ بنيويّةٌ عميقةٌ ومشتركةٌ وجماعيّةٌ عند الفلسطينيين نخبًا وقوًى وعامةً، في التحسّب واليقظة والاستشراف والتقدير، لذلك يميلون غريزيًّا لتجريبٍ منهكٍ ومتعبٍ يعطونه صبغةً قدريّةً لا علاقة عمومًا بينها وبين مفهوم القدر السماوي العظيم.

* ثلاثيّة النظريّة والتنظيم والممارسة، كانت هاجس غسان في تناوله لمعضلات الثورة الفلسطينية، من خلال دراسةٍ له بالعنوان ذاته، وهنا يحضر واحدة من المسائل/المعضلات المهمة، وهي ترابط: الطبقي والوطني والقومي؛ كونك أستاذًا متخصّصًا في علم الاجتماع، برأيك لماذا أخفقنا في ذلك؟

أخفقنا لأسبابٍ كثيرة، للخلل في الرؤية عندنا، ولخللٍ في طريقة وعينا وإدراكنا للواقع وسياقاته ومشكلاته وحلولها، وأخضعنا المصير للتجريب، ولم نربِّ أنفسنا ووعينا على متطلبات التحقّق بصورةٍ كافيةٍ وحاسمة، وهذا يشير فيما يشير لهشاشة ما في بنيتنا رغمَ قوّتها اللافتة في مستوياتٍ أخرى.

أسباب إخفاقنا البنيويّة والموضوعيّة كثيرة، لكن ما نحتاج إليه هو تلك القوّة التي تأخذنا من الإخفاق إلى حيّز الوعد والإنجاز.

* بين فعل الكتابة وفجيعة الموت: كيف تعقّب النصّ تاريخه وأدركه؟

** على النصوص أن تتعقّب تاريخها في كلّ حال، على نحوٍ يقظٍ وعميقٍ وشفافٍ وأصيلٍ ومقاومٍ لا أقلّ.