Menu

الفقعاوي يعلق الجرس ‎غسان كنفاني المعضلة التنظيمية والرؤية السياسية (٢)

غسان أبو نجم

‎استكمالًا لما نشره الرفيق الدكتور وسام الفقعاوي حول دراسة الشهيد غسان كنفاني ولما أورده الشهيد غسان كنفاني في الجزء الأول من الدراسة، يطرق غسان مسألة نشأة وتطور الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي جاءت في ظروف عربية وفلسطينية غاية في التعقيد؛ فهزيمة حزيران أثبتت ١٩٦٧ بما لا يدع مجالًا للشك أن الأنظمة العربية الرسمية؛ تجرعت هزيمة برامجها وأنها لا تمتلك رؤية واضحة لمواجهة الاحتلال الصهيوني للضفة والقطاع وباقي أجزاء فلسطين؛ بحكم ارتباطها بالإمبريالية العالمية وعجزها عن تحقيق الأهداف العربية المشروعة للجماهير العربية، وعلى الصعيد الفلسطيني لم تمتلك القوى المتواجدة رؤية واضحة لكيفية دحر الاحتلال واستمرت بتبعيتها بشكل أو بآخر بأنظمة البرجوازية الصغيرة، التي حاولت تبرير هزيمتها، عبر التمسح بالنضال الوطني الفلسطيني والبندقية الفلسطينية، مما أفقد الطرف الفلسطيني استقلالية قراره.

‎في ظل هذه التعقيدات والتشابكات السياسية أصبح من الضروري وجود تنظيم فلسطيني يمتلك رؤية سياسية واضحة وبرنامج نضالي ثوري ونظرية ثورية يسترشد بها؛ فكانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي أفرزتها الضرورة الموضوعية، رغم كل محاولات التضيق والتشويه والملاحقة ووسمها بالإرهاب وافتعال الانشقاقات، إلا أنها شقت طريقها معلنة هويتها السياسية في مؤتمرها الثاني عام ١٩٦٩، وتم وضع الاستراتيجية السياسية للجبهة؛ المستندة للنظرية الماركسية ال لينين ية، - ومستلهمًا "غسان" تجارب الثورات العالمية وقادتها ومفكريها التاريخين" لينين، وماو تسي تونغ، وهوشي منه، ولوكاش - محددة رؤيتها ضمن ثلاث مفاصل أساسية:

‎- الفكر السياسي والممارسة القتالية والمسألة التنظيمية أو المثلث الذهبي كما اسماه ماو تسي تونغ، ورغم تعرضها لحالات من التفسخ والانشقاق (جبهة التحرير الفلسطينية "الجبهة الشعبية: القيادة العامة حاليًا" والجبهة الديموقراطية)؛ استمرت في عملها النضالي الذي استلهم تجارب الثورات العالمية ووضعت برنامجها السياسي المستند إلى النظرية الماركسية في تشخيص الواقع الفلسطيني والعربي، ووضع آليات تغييره؛ لتكون الحزب الفلسطيني الأوحد الذي دعا لتوطين النظرية الثورية، متجاوزًا بذلك حالة الفهم الميكانيكي للثورة، حيث أدركت الجبهة أهمية النضال الوطني والطبقي؛ لتحقيق دحر الاحتلال بعد هزيمة حزيران 1967، التي كانت هزيمة لبرامج الأنظمة العربية، بما فيها الأنظمة البرجوازية الصغيرة، ذات الصبغة الوطنية، وأن الصراع الوطني الفلسطيني، يرتبط ارتباطًا جدليًا مع الصراع العربي الصهيوني، وهذا الشعار السياسي كان بدايةً لوضع برنامج سياسي، يربط بين الوطني الطبقي الفلسطيني مع القومي الطبقي العربي، مما يحتم تشكيل أوسع جبهة عربية تقدمية، مهمتها النضال ضد الاستغلال الطبقي للبرجوازيات العربية، والنضال ضد الرأسمالية العالمية، وقاعدتها المتقدمة الكيان الصهيوني، التي تهيمن وتستغل مقدرات الأمة العربية وتحتل بشكل مباشر فلسطين بوصفها جزءًا من هذا الوطن العربي الكبير.

‎إن هذه الرؤية السياسية كانت بتقديري؛ أدق فهم لطبيعة الصراع مع الاحتلال الصهيوني بوصفه يشكل تهديدًا مباشرًا للأمة العربية، وليس لفلسطين وحدها، مما ميز الجبهة الشعبية عن باقي الفصائل الفلسطينية الأخرى الغارقة بالإقليمية، أو التي شكلت مشروعًا للبرجوازية الفلسطينية، ومتميزة عن اليسار الفلسطيني الطفولي، أو البراغماتي الغارق بالتنظير، أو الناسخ الميكانيكي للتجربة السوفييتية.

ولتحقيق الأهداف بالتحرر، ترى الجبهة الشعبية أن تكتيك حرب العصابات واستراتيجية حرب التحرير الشعبية هي الوسيلة الأساس في محاربة العدو الصهيوني على مستوى الوطن العربي، ومعركة الكرامة كانت مثالًا حيًا لصحة هذه الرؤية، بعد أن أثبتت عجز الجيوش العربية الرسمية المحكومة بقرار سياسي لهذه الأنظمة في تحقيق هذه الأهداف.

ثم ينتقل غسان إلى أهمية التأهيل والتدريب لعناصر التنظيم وتهيئة المقاتلين لخوض هذه الحرب؛ عبر تدريبهم في قواعد عسكرية تشكل بؤرة ثورية، وأن يجهز كل سياسي ليكون مقاتلًا وكل مقاتل سياسي، وضرورة الحفاظ على درجة عالية من الحس الأمني الذي افتقدته بعض الفصائل؛ عبر فتح قواعدها للإعلاميين – مع نقده للقواعد الثابتة التي أقامتها العديد من التنظيمات في الأردن ولبنان في حينه -، مما سهل نقل المعلومة للعدو، كما ركز غسان على ضرورة عدم الانجرار خلف المناكفات التنظيمية التي تشغل عناصر التنظيم عن الهدف الأساسي للثورة.

وعن المعضلة العسكرية التي واجهت الثورة الفلسطينية في خوضها للحرب الشعبية، يورد غسان أربع إشكالات: الأولى، ضرورة تسلح المقاتل بالرؤية السياسية. الثانية، الاشكالية الجغرافية المتمثلة بصغر الرقعة الجغرافية وتواجد التكتلات الاستيطانية الذي حرم المقاومة من حرية الحركة والمرونة والخطوط الواسعة، التي تسهل حرب التحرير الشعبية، عكس واقع الحال في الصين وفيتنام. والثالثة، تشرذم الفصائل الفلسطينية التي واجهت احتلالًا موحدًا على الأقل في مواجهتها. أما الرابعة، التفوق التكنولوجي والتقني للعدو الصهيوني.

خلاصة القول: يرى غسان كنفاني أن الساحة الفلسطينية، يجب أن تحتضن تنظيمًا حديديًا؛ مدرب ومتمرس ومسلح بنظرية ثورية ويمتلك رؤية سياسية واضحة، تحدد طبيعة الصراع ومعسكر الأعداء ويمتلك برنامجًا سياسيا وطنيًا مرتبطا بعمقه العربي؛ فكانت الجبهة الشعبية التي امتلكت كل هذه الوصفات وشقت طريقها نحو الأهداف الرئيسية السياسية، رغم كل الإعاقات التي واجهتها.

أما السؤال الأهم الذي يجب علينا طرحه: هل يمكن أن يكون هذا البرنامج الذي وضعه غسان كنفاني بوصفه رؤية الجبهة الشعبية صالحًا حتى تاريخنا الحاضر؟ وهل يحق لنا إجراء هذه المقاربة من الناحية النظرية؟

‎من المعلوم أن البرامج والتكتيكات ترتبط بظرفها التاريخي المحدد وتكتسب مشروعيتها ضمن إطارها التاريخي وتحاكم بموجبه، تحديدًا الموقف السياسي؛ لأن السياسة أُم المتغيرات، ولأن الصراع الفلسطيني الصهيوني والعربي الصهيوني أخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا وطرأ العديد من المتغيرات السياسية، إلا أن الهدف الاستراتيجي المتمثل بتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني واستراتيجية حرب التحرير الشعبية، هي الوسيلة الأنجع لدحر الاحتلال، وضرورة وجود تنظيم حديدي متسلح بالنظرية الثورية ويكون ناظمًا بين النظرية والجماهير وقائدًا لها؛ مسألة في غاية الأهمية والضرورة، مما يعني أن هذه الدراسة تشكل دليل عمل للحزب الثوري ومرشدًا له في طريقه النضالي – كما كتب غسان في دراسته هذه عن النظرية كمرشد ودليل عمل –.

ختامًا... أرى أن ما أورده غسان كنفاني في هذه الدراسة يوحي بأننا أمام قائد سياسي فذ؛ أدرك الواقع الفلسطيني وثورته، ونظر إليها بعين الناقد المثقف الماركسي والمطلع على تجارب الثورات العالمية، ورسم ملامح برنامج شامل للحزب والثورة؛ ملتقطًا مجمل المتغيرات التي تحيط بهما، وواضعًا لبرنامج نضالي يصلح؛ لأن يكون مرشدًا لها في مقارعتها للاحتلال الذي لا يزال قائمًا ويجثو على أنفاس شعبنا وأمتنا ويتمدد... والمطلع على واقعنا السياسي العربي والفلسطيني، يدرك أن غسان كنفاني ما يزال حيًا فينا ويلامس واقعنا ويكشف عن معضلاتنا، التي نتعايش معها، وأن طرائق الحل التي طرحها؛ والمتمثلة بضرورة وجود حزب ثوري يقود الجماهير المتعطشة للحرية وضرورة تشكيل جبهة عربية تقدمية، تعتمد استراتيجية حرب التحرير الشعبية ما زال هو الحل الأمثل للخلاص من الاحتلال.