Menu

أبو علي مصطفى سيبقى في قلوب أبناء فلسطين وعقولهم جيلًا بعد جيل

د. ماهر الطاهر

نشر هذا المقال في العدد 53 من مجلة الهدف الإلكترونية

 في يومٍ استثنائي في تاريخ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتاريخ الشعب الفلسطيني والأمة العربية وأحرار العالم ارتقى القائد الكبير أبو علي مصطفى شهيدًا على أرض فلسطين، وكان أول أمين عام يستشهد على أرض الوطن.

تمزّق جسده بقرارٍ من المجرم شارون، وتناثرت أجزاء هذا الجسد الطاهر في جبال فلسطين ووديانها وسهولها وغاباتها، تناثرت في كل بقعة من أرضنا وبلادنا.

السؤال: لماذا تم اتخاذ قرار الاغتيال وعلى أعلى مستوى في الكيان الإسرائيلي ولهذا القائد بالذات؟

الجواب باعتقادي هو: أن هذه الشخصية المتميزة ذات التاريخ الكفاحي العريق عندما عادت إلى أرض الوطن ومنذ لحظة وصولها الأولى تم وضعها تحت الرصد والمتابعة الدقيقة لأسباب عديدة.

منذ دخوله إلى أرض فلسطين قال: عدنا لنقاوم وعلى المبادئ لن نساوم.

لماذا نستذكر هذه العبارة اليوم؟ نستذكرها لأن البعض من أصحاب النوايا غير الطيبة فلسطينيين وعرب قالوا: بنوع من التشكيك أن عودة هذا القائد خاصّةً بعد أن أصبح أمينًا عامًّا يحمل في طيّاته نوعًا من الاستدارة والتراجع عن المواقف المبدئية والجذرية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، خاصّةً بعد التنحّي الطوعي للقائد المؤسس الدكتور جورج حبش عن موقعه أمينًا عامًّا والمعروف بمواقفه الجذرية إزاء الكيان الاسرائيلي ورؤيته الفكرية والسياسية بأن لا تعايش مع المشروع الصهيوني وأن لا شرعيّة لوجود هذا الكيان على أرض فلسطين.

البعض طرح تساؤلاتٍ غير بريئة قائلًا: إنّ عودة أبو علي مصطفى تحمل في طياتها بداية تغيير في المواقف والرؤية السياسية للجبهة، وإن نوعًا من التكيف سيحصل مع الواقع الجديد بعد أسلو. لكن الوقائع الملموسة والمواقف والدور الذي أداه الشهيد الكبير على أرض الوطن أعطت عكس ما قاله البعض وما طرحه من تشكيك، وأذكر أن إحدى الشخصيات العربية من بلدٍ عربي كتب كلامًا سلبيًّا عن أبو علي، وكذلك بعض الفلسطينيين، ولكن بعد استشهاده بعمليّةٍ وحشيّةٍ اتصلت هذه الشخصيّة بنا معبّرةً عن أسفها واعتذارها قائلة: إنّها لم تكن تعرف حقيقة هذا الرجل ومعدنه وصلابته ومواقفه الجذرية التي تعبّر عن رؤية الجبهة الشعبية وخطّها السياسي غير القابل لأي مساوماتٍ مهما كانت المصاعب والتحدّيات.

بعد دخوله إلى فلسطين استطاع شهيدنا الكبير أن يخلق حالة نهوضٍ تدريجيّةٍ في أوضاع الجبهة الشعبيّة على أرض الوطن على الأصعدة السياسيّة والتنظيميّة والجماهيريّة والكفاحيّة كافةً.

واستقبلته جماهير شعبنا بكل التقدير والمحبة في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، حيث زار كل المواقع والمدن والقرى والمخيمات، وقال لنا في لقاءٍ معه بعد أول زيارةٍ له إلى دمشق بعد عودته للوطن لقد وجدت الجبهة الشعبية وكوادرها وقواعدها وأنصارها في كل قرية وبلدة ومدينة ومخيم، لذلك أمامنا عملٌ شاق وكبير لتطوير عملنا والارتقاء به إلى الأمام مضيفًا أنك عندما ترى الواقع وأنت موجود على الأرض، فالأمر يختلف بشكلٍ كبيرٍ عن قراءة التقارير والرسائل عن الأوضاع في الداخل.

كان في غاية السعادة وكان يرى أن أمامه مهام جسام سيقوم بها على أرض فلسطين، كذلك أدّى دورًا على الصعيد الوطني في اللقاءات مع القوى والفصائل الفلسطينيّة، وبدأ في برنامج عملٍ جادّ لتلاقي وتعاون هذه القوى.

وأدّى دورًا مهمًّا في اجتماعات مؤسسات منظمه التحرير الفلسطينية، وخاصة في اجتماعات المجلس المركزي ونتذكر غضبه الشديد عندما اطّلع على أحد الكتب في الداخل، التي تتحدث عن المدن الفلسطينية متجاهلة مدن فلسطين التاريخية في حيفا ويافا وعكا والناصرة قائلا: كيف تتجاهلون ذلك؟ وكيف سنعلم ونربي أجيالنا وأطفالنا وتهرب من فعل ذلك من المسؤولية؟

لقد جسد أبو علي مصطفى نموذجًا يحتذى للقائد المتواضع والزاهد فكان يرفض التمتع بأية امتيازات لا مبرر لها ولا يقبل ركوب السيارات الفارهة متواضعًا في لباسه وطعامه ومسكنه يذهب إلى السوق بنفسه لشراء حاجات منزله، وعندما كان مسؤولًا عسكريًّا للجبهة الشعبية في أواخر الستينات كان يعيش مع المقاتلين وينام في القواعد العسكرية ويأكل نفس طعام المقاتلين، وأتذكر عندما كنت بزيارة عمل إلى تونس وكان حينها نائبًا للأمين العام وعضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا للجبهة، ويعيش قسمًا من وقته في تونس، استضافني في منزله وقضيت ليلتي هناك فقال لي سأقوم بإعداد العشاء فقلت له دعني أساعدك قال لا يحتاج الأمر إلى مساعدة سأقوم بإعداد "قلاية بندورة" لم تأكل في حياتك مثلها، وكان يحب هذه الأكلة.

نعم كان إنسانًا متواضعًا وزاهدًا إلى أبعد الحدود يكره المظاهر والبذخ ويعيش حياته كأي مواطن فلسطيني بسيط، وهنا نتذكر ما قاله أحد كبار أبطال الثورة الفيتنامية الجنرال جياب عندما زار عاصمة عربية توجد فيها فصائل فلسطينية في سبعينات القرن الماضي فلما شاهد حياة البذخ والرفاهية التي يعيشها بعض القادة والسيارات الألمانيّة الفارهة والعطور باهظة الثمن مقارنة بحياته مع الثوار الفيتناميين في الغابات قال لتلك القيادات مباشرة ودون مواربة (إن الثورة والثروة لا يلتقيان وإذا رأيت أحدًا يدعي الثورة يسكن بقصر أو فيلا ويأكل أشهى الأطباق ويعيش في رفاهية وترف وبقية الشعب يسكن في مخيمات ويتلقى المساعدات الدولية للبقاء على قيد الحياة فاعلم أن القيادة لا ترغب في تغيير الواقع فكيف تنتصر ثورة قيادتها لا تريدها أن تنتصر).

إن النموذج الذي جسده الشهيد أبو علي مصطفى والدور البارز الذي أداه على أرض الوطن جعله موضع استهداف من أعلى مستوى في القيادة الصهيونية، ولذلك تم اتخاذ قرار اغتياله، وكما قال القائد المؤسس الراحل الكبير الدكتور جورج حبش متحدّثًا عن استشهاد القائد الكبير أبو علي واستشهاد القادة غسان ووديع "إنهم مناضلون وقاده غير عاديين أصبحوا رماحًا تقاتل وأرواحًا تحلق في سماء الوطن تطلق نيرانًا على العدو بالرصاصة والموقف المقاوم والكلمة الثورية. إنهم يقاتلون بكل كيانهم بكل أرواحهم لذلك فهم يخيفون العدو ويقضون مضاجعه فيسرع لتصفية الحساب معهم عبر إسكاتهم إلى الأبد. إن طيور الظلام القاتلة وطائرات الأباتشي التي استهدفت الشهيد أبا علي قصدت قتل كل ما يمثله وهدفت لاغتيال الحلم النبيل بالغد واغتيال الموقف الصادق والكلمة الشفافة والساطعة سطوع الشمس في وطننا الحبيب".

لقد توهّم شارون والقيادة الإسرائيلية أنّهم باغتيال أبو علي مصطفى سوف يضعفون الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأنها سوف تتراجع ويبهت دورها، لكنهم لم يدركوا أن الجبهة التي أنجبت غيفارا غزة الذي قض مضاجعهم واعترفوا علنًا وعلى لسان كبار قادتهم بأنهم كانوا يحكمون قطاع غزة في النهار وتحكمه الجبهة الشعبية وأبطالها في الليل، هذه الجبهة لا تنحني مهما كانت الضربات مؤلمة قاسية.

لقد اغتالوا غسان واغتالوا وديع واغتالوا باسل الكبيسي وحاولوا اغتيال واختطاف القائد المؤسس الراحل الدكتور جورج حبش أكثر من مرة، ولكن جبهتنا المظفرة لم تضعف ولم تتراجع ولم تنحنِ وقبلت التحدي وواصلت الكفاح بعزيمة أشد وإرادة أقوى، ونجحت في التحدي وصعّدت عملياتها وقامت بالرد المدوي على اغتيال الشهيد أبو علي بتصفية المجرم رحبعام زئيفي وزير السياحة الصهيوني قائلة للعالم أجمع، بأن دماء قائدها وأمينها العام غالية جدًّا، وأن الرد كان قبل مرور 40 يومًا على استشهاد أمينها العام مترجمة ما قاله أمينها العام الجديد المناضل أحمد سعدات العين بالعين والرأس بالرأس والبادي أظلم.

واليوم، فإنّنا نحيي ذكرى استشهاد أبو علي مصطفى الثانية والعشرين وشعبنا الصامد الصابر على أرض فلسطين يكتب تاريخه بدم أبنائه الصامدين الصابرين.

فها هم شباب فلسطين عدي التميمي وإبراهيم النابلسي وتامر الكيلاني والعشرات والمئات والآلاف من أبطالنا يسطرون صفحات المجد في تاريخ شعبنا العظيم وأمتنا العربية وأحرار العالم كله.

نعم.. إن الجيل الفلسطيني الجديد الذي كان يراهن عليه الشهيد أبو علي مصطفى جيل ما بعد أسلو جيل الشباب الفلسطيني الذي حسم أمره وخياره أعطى أبلغ رد للجنرال الأمريكي دايتون عندما جاء إلى فلسطين قائلًا: نريد جيلًا فلسطينيًّا جديدًا يرفض العنف ويعمل للتعايش مع إسرائيل ويؤمن بالمفاوضات وسيلةً من أجل السلام، فجاءه الرد من جيل فلسطيني جديد يرسم معالم مرحلة جديدة في تاريخ الصراع، ويؤسس لبناء حركةٍ وطنية فلسطينية جذرية تعيد الاعتبار لمعنى فلسطين وتحرير كل ذره من ترابها.

كان أبو علي مصطفى يدرك بعمق ويؤمن إيمانًا راسخًا بقدرة الشعب الفلسطيني وإصراره على المواجهة والمقاومة مهما كانت التضحيات والتحديات والمصاعب واختلال موازين القوى والظروف المجافية المحيطة بالوضع الفلسطيني.

اليوم نقول لشهيدنا الكبير نم قرير العين ولا تقلق، فها هم أبناء شعبك العظيم في قطاع غزه قد خاضوا حروبًا ومواجهات وسجلّوا أروع ملاحم الصمود في مواجهة العدوان والاحتلال وقدّموا قوافل من الشهداء، ولكنّهم أوقعوا خسائر حقيقيّة في صفوف الاحتلال وخلقوا حالة إرباك وقلق حقيقي في قلوب جنوده ومستوطنيه، وغزة اليوم تراكم قوتها وإمكاناتها، وهاهم أبناء شعبك العظيم في الضفة الفلسطينية، في القدس وبيت لحم وأريحا وكل قرية ومدينة يواجهون الاحتلال بعمليات عسكرية نوعية وبأساليب إبداعية وروح كفاحية أذهلت العالم أجمع.

كم كنا نتمنى أن ترى كتيبة جنين ونابلس وعرين الأسود والمواجهات اليومية المتصاعدة والخسائر التي يدفعها جنود الاحتلال ومستوطنيهم، وها هم أبناء شعبك في الأراضي المحتلة عام 1948 يواجهون الاحتلال بكل العنفوان والشموخ ويؤدون دورًا أساسيًّا في معركه الوجود والاشتباك التاريخي مع هذا المشروع الاستعماري على أرض فلسطين، وها هو محور المقاومة يزداد قوّةً ورسوخًا في ظلّ تحوّلات إقليميّة ودوليّة نوعيّة تدفع تجاه بناء نظامٍ عالمي جديد يضع حدًّا لسطوة القوى الإمبرياليّة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي بدأت بالتراجع وضعف هيمنها على العالم، بما يعنيه ذلك من انعكاسات ونتائج على الكيان الإسرائيلي الذي يعيش أزمةً وجوديّة بكلّ معنى الكلمة ويعاني تناقضات حادة على جميع الأصعدة والمستويات تتصاعد يومًا بعد يوم.

وأخيرًا نتذكّر اليوم قائدنا الكبير فارس الشهداء أبو علي مصطفى بمآثره وعطائه غير المحدود، وأتذكّر لقائي الأوّل معه في بيروت قبل 51 عامًا، وتحديدًا عام 1972، عندما كان نائبًا للأمين العام، وأقول بكل صدق: إنّ هذا القائد هو من أطهر وأنقى وأشجع ما أفرزت الثورة الفلسطينيّة المعاصرة من رجال.

نم قرير العين ولا تقلق وعهدًا سنواصل الدرب حتى تحقيق كامل الأهداف النبيلة والسامية التي ناضلت وقضيت في سبيلها.