Menu

في الذكرى الـ (22) لاستشهاده: نحو تأريخ تجربة القائد الرمز أبو علي مصطفى في المقاومة المسلّحة والتزامه الفكري والتنظيمي

عليان عليان

نشر هذا المقال في العدد 53 من مجلة الهدف الإلكترونية

بدايةً لا بدّ من التأكيد على أنّ التعامل مع ذكرى استشهاد القائد الرمز أبو علي مصطفى ليس مجرّد إحياءٍ لمناسبة ذكرى استشهاده، بل مناسبةٌ لاستحضار تجربته الكفاحية الغنية بتفاصيلها العسكرية والسياسية والتنظيمية والفكرية، في سياق ربطه بين الخاص الوطني والعام القومي والأممي، على أرضية التزامه بأيديولوجيّة الماركسيّة – ال لينين يّة.

واستحضار هذه التجربة مهمّةٌ نضاليّةٌ تقع على عاتق رفاقه الذين عايشوه في حركة القوميين العرب، وفي إقليم فلسطين للحركة، وفي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عندما باشر باختراق الحواجز وقيادته للدوريات العسكرية تجاه الوطن لخلق البنى التحتية للمقاومة المسلحة، ما مكّن الجبهة عندما شرعت في الكفاح المسلّح، بعد أن تجاوزت شعار الحركة "فوق الصفر وتحت التوريط" ارتباطًا بتنسيقها مع خالد الذكر جمال عبد الناصر.

البعد العسكري المقاوم:

وفي إطار التأريخ لتجربة أبو علي في العمل العسكري المقاوم، نشير من واقع مقابلاته ومما جاء في مخطوطته "دفاعًا عن الحقيقة... في الردّ على ما جاء في كتاب" نايف حواتمة يتحدّث" إلى ما يأتي:

1- أوكلت قيادة "إقليم الحركة الأردني الفلسطيني، بعد عقد مؤتمر الإقليم في مطلع عام 1965 في غور الأردن (الجفتلك)، إلى لجنةٍ خاصّةٍ للتحضير للعمل الفدائي بمسؤوليّة د. توفيق رمضان وعضويّة كل من أبو علي مصطفى، أحمد محمود إبراهيم (أبو عيسى)، كامل هادي، فايز جابر، مهمتها آنذاك: الاستطلاع في مناطق 1948 - تنظيم خلايا عسكريّة في الضفة والمحتل من فلسطين عام 1948 - تدريب الخلايا السرية وتهريب السلاح وتخزينه. وفي هذه السنة ذهبتْ سرًّا أوّل مجموعة قيادية من الأردن للتدريب الخاص، في معسكر أنشاص في مصر".

2- وبعد نكسة 1967 التقى من تعاهدوا على الصمود والتواصل، وكانوا قدوة في السجون وأقبية التحقيق مع الدكتور جورج حبش وهم: (أبو علي مصطفى، حمدي مطر، أحمد محمود إبراهيم "أبو عيسى" والمهندس الزراعي)، حيث وضع المذكورون تصورهم لإحياء العمل وإعلان البداية، وإعداد الذات لمرحلة الكفاح المسلح.

3- تم تكليف "أبو علي مصطفى" في أول تموز 1967، لعبور النهر إلى الضفة  للبناء على ما تم إنجازه  قبل عام 1967 على صعيد البنية التحتية للمقاومة، ولاستجلاء إمكانية عمل ترتيباتٍ تنظيميّةٍ جماهيريّةٍ عسكريّة، وعاد بحصيلة محددة بعد اللقاءات التي عقدها في المدن من شمال الضفة إلى جنوبها، مع توسّم فيهم إمكانية العمل، وعلى إثر ذلك اتخذت القيادة في عمان ثلاث قرارات وهي: (تشكيل قيادة للداخل بمسؤولية أبو علي مصطفى وعضوية عزمي الخواجا وأحمد خليفة وعادل سمارة وعبد الله العجرمي/ تشكيل لجنة عسكرية بمسؤولية أحد الضباط الأحرار( أحمد زعرور)/ وتشكيل لجنة تنظيمية في الخارج بمسؤولية أحمد محمود إبراهيم (أبو عيسى).

ويسجل لأبو علي مصطفى، في إطار التأريخ لتجربته في المقاومة موقفان هما:

1- أنه سجّل نقدًا على الحركة بشأن تخلّفها عن التقاط اللحظة السياسيّة المناسبة في إعلاء راية الكفاح المسلّح على أرض فلسطين، في الوقت الذي كانت تمتلك فيه الأسباب السياسيّة والإمكانات البشرية والتنظيمية والمادية، التي تؤهّلها لبداية جيدة، إلا أنها غلبت تحالفها مع عبد الناصر على المهمة الوطنية المباشرة، وأخضعت كل الجهود القائمة لمقولة "فوق الصفر وتحت التوريط".

2- إنصافه لدور الحركة في قطاع غزة بقوله: "لا يمكن لأحد إذا أراد إنصاف التاريخ أن يتجاهل تجربة حركة القوميين العرب في قطاع غزة، وهي التي كانت ذات بعد شعبي وتنظيمي ونضالي مميز في إقليم فلسطين، وهي التجربة التي لم يتم التطرق إليها، مع أنها كانت خارج ما أشير له من ترتيبات الفرع الفلسطيني - الأردني، بالمعنى التنظيمي لخاصيّة وضع القطاع.

 وفي سياق التأريخ لتجربته لا بدّ من التأكيد على ثلاث مسائل هي:

1- أنّه كان لأبو علي مصطفى مع رفاقه البصمة الرئيسيّة في توفير البنية اللوجستيّة العسكريّة للجبهة، قبل تأسيس الجبهة الشعبيّة " ائتلافًا بين كل من (شباب الثأر وأبطال العودة وجبهة التحرير الفلسطينية) في 11-12- 1967، بعد حرب 1967 ـوبعد أن تراجعت حركة فتح عن موقفها بشأن تأسيس جبهةٍ وطنيّةٍ تضمّ كل الفصائل لمزاولة الكفاح المسلّح ضدّ العدو الصهيوني.

2- أنّه كان لأبو علي مصطفى اليد الطولى في بناء قاعدة الإسناد للثورة في منطقة الأغوار؛ ما مكّن مقاتلي الجبهة الشعبيّة من شنّ عمليّاتٍ عسكريّةٍ نوعيّةٍ في الداخل الفلسطيني، بعيدًا عن عمليات القشرة، التي استخدمت من قبل البعض للتوظيف الإعلامي في إطار المنافسة الفصائليّة.

3- أنّه كان لأبو علي مصطفى دورًا مركزيًّا إلى جانب الدكتور جورج حبش وبقية قيادات الجبهة وكوادرها في استمرار نهجها الكفاحي في السياق الاستراتيجي لتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، بعيدًا عن المساومات التي وظّف فيها البعض البندقية الفلسطينية، آليةً لمشاريع تسوية بعيدًا كل البعد عن الهدف الاستراتيجي للنضال الفلسطيني.

وما أعطى أهميةً لتجربته العسكرية قائدًا استثنائيًّا، بعيدًا عن الرتب العسكرية الجوفاء والنجوم التي تعلق على الأكتاف، أنّه كان قائدًا فعليًّا للعمل العسكري المقاوم في الجبهة لا يشقّ له بنان، لم يقم بقيادة الفعل المقاوم العسكري من مكاتب أو مواقع خلفية، بعيدًا عن مواقع الاشتباك مع مواقع العدو الصهيوني، بل إنّه وبشهادة رفاقه من مقاتلي وكوادر الجبهة العسكرية، وكوادر ومقاتلي بقية الفصائل، كان يقود الدوريات العسكرية وينفذ العمليات الفدائية، ما أكسبه قوة المثال، وزاد من حافزيّة النضال لفدائيي الجبهة الشعبية وهم يرون قائدهم في مقدمة الصفوف.

 ولم يركز أبو علي على الكفاح المسلح فقط، بل أكد على أشكال النضال كافة، سواءً بشكلِها السياسي أو الجماهيري؛ لأنّ أصل المعركة سياسي، والعنف أساسًا ترجمةٌ سياسيّة، وأن شكل النضال الجماهيري ينطوي على الجانب الثقافي والأيديولوجي والاقتصادي، ومؤكّدًا أنّ صراعنا مع العدوّ مفتوحٌ على كلّ أشكال النضال.

ثباتٌ على المواقف المبدئيّة:

وفي إطار ممارسته النضالية، من موقع نائب الأمين العام، ومن ثمّ موقع الأمين العام لم يحد عن مواقفه الثابتة والمبدئيّة، وقرن الموقف النظري بالتطبيق العملي، وأكد على الدوام حقائق موقفه السياسي قبل اتفاقيات أوسلو - التي رفضها بقوة - وبعدها، وهي:

أوّلًا: أنّه لا يمكن أن يكون تعايش مع العدوّ الصهيوني، ومشروعه الإمبرياليّ في أرض فلسطين، مهما كانت الصعوبات والظروف، التي ما تزال تحول دون التخلّص من هذا الكيان ومشروعه.

ثانيًا: إنّ التواصل الاستعماريّ منذ ما قبل 1948، وحتّى اليوم، ملخّصٌ في دور زعيمة الإمبرياليّة العالميّة، هذا التواصلُ مع المشروع الصهيوني، على ترابطٍ جدليٍّ لا فصل بينهما، ومن يريد أن يكون مناهضًا للمشروع الصهيونيّ، لا يستطيعُ إلا أن يكون مناهضًا للمشروع الإمبرياليّ، ومن يريد أن يكون عدوًّا للإمبرياليّة ومشاريعها في المنطقة عليه أن يكون صادقًا مع نفسه في عدائه للمشروع الصهيونيّ.

ثالثًا: إنّ الترابط بين الوطنيّ والقوميّ، وبين الخاصّ والعامّ ترابطٌ مصيريّ، فالخطرُ الذي يهدّد شعب فلسطين، هو خطرٌ يهدّدُ مستقبلَ الأمّة العربيّة، حاضرها ومستقبلها وجغرافيتها وثروتها، وكل ما يعنيها على صعيد التقدّم والحضارة، فلا فكاك بين الترابط بين الوطنيّ والقوميّ في معركة المصير.

هذهِ الحقائقُ الثلاثُ تظلُّ راهنة، ولا يمكن دحضها من قبل فريق أوسلو، ولا من قبل القوى الرجعية، حيث أثبتت حقائق الحياة العنيدة وتطورات الصراع صحتها، فالقيادةُ المتنفّذة في المنظمة وأدواتها، سعت إلى دحض الحقيقة الأولى وإضعافها عبر إشاعة الوعي الزائف بثقافة السلام، حيث جاءت وقائع الحياة العنيدة وقانون المقاومة، لتكشفَ بؤس الرهان على خيار التسوية الأوسلوي، الذي مكّن العدوّ من التمدّد في الضفة بما يزيد عن 400 مستوطنةٍ وبؤرةٍ استيطانيّة، ومن قطع شوطٍ طويلٍ في تهويد القدس على الصعيدين الديمغرافي والاستيطاني، وإقامة دولةٍ للمستوطنين يفوق عدد المقيمين فيها 850 ألف مستوطن، نصفهم في الضفّة والنصف الآخر في القدس.

الالتزام التنظيمي والفكري والنضالي:

لم يكن الالتزام الفكري بنظرية الماركسية الليينينة ترفًا وفذلكة فكريّة بالنسبة لأبو علي مصطفى، كما كانت عند البعض في اليسار الفلسطيني والعربي، بل كانت مرجعيّةً أساسيّةً له ولبقية الرفاق في قيادة الجبهة وكوادرها، يوظّفها في إطار نهج الماديّة الجدليّة في قراءة الوقائع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وفي قراءة الأوضاع الطبقية في الساحتين الفلسطينية والعربية، بغية طرح البرامج النضالية في مواجهة معسكر الأعداء ممثلًا بـ (الصهيونية والإمبرياليّة الغربيّة والرجعيّة العربيّة) ولطرح الموقف السياسي الدقيق والواضح في مختلف محطات النضال الفلسطيني.

وبحكم  انتمائه الفكري الصارم، فقد أولى (أوّلًا) أهميّةً قصوى للطبقة العاملة في إطار أدبيات الجبهة، ليس لأنّ الجبهة فصيلٌ طليعيٌّ من الطبقة العاملة وَفْقَ نظامها الداخلي وحسب، بل لأنّه جاء من صفوفها، كما أبدى (ثانيًا) التزامًا صارمًا بالمركزية الديمقراطية وترجم هذا الالتزام بدقة في الموقف السياسي الصادر من الجبهة، رغم موقفه الخاص، عندما عاد إلى الوطن تنفيذًا لقرار اللجنة المركزيّة للجبهة رافعًا شعار "عدت لأقاوم لا لأساوم"، حيث عمل على إعادة بناء التنظيم، كما أدى دورًا مركزيًّا في تفعيل انتفاضة الأقصى مع القائد الفتحاوي مروان البرغوثي إلى أن ارتقى شهيدًا عبر قصف العدو لمكتبه، الذي أدرك خطورة دوره النضالي على العدو على الصعيد الاستراتيجي، وبعد أن أدرك حقيقة موقفه الذي طبقه على أرض الواقع، بأنه عاد ليقاوم وليس ليساوم.