Menu

بين الرغبة والواقع.. فلسطين هي الحلم

ثائر أبو عياش

في اللحظات الأولى التي يُعلن فيها عن شهيد في فلسطين تستبد فينا "هدنة ميلونكولية"، وهي بحسب "فيكتور هوغو" ضرب من الحزن النبيل، أي "السعادة التي يحسها المرء في حزنه"، حيث السعادة هنا منبعها العميق في النفس الفلسطينية أن هذه الطريق التي يسلكها الشهداء عبر خيار الدم هي طريق الحق كأن هناك اتفاق ضمني، وأكثر أتفاق سيكولوجي حول هذه السعادة، ولذلك دائماً يتبادر إلى الذهن بعض الأسئلة القلقة في تلك اللحظات مثل: "بماذا كان يفكر الشهيد في أخر لحظاته؟ هل كان يحلم  بشيء ما؟"، والسؤال الأكثر اضطراباً في داخلنا "من أين أستمد كل هذه القوة؟"، أما السؤال الأكثر رعباً "هل كان يشعر أنه سيموت؟".

بين قسمة الشهداء يعيش الشعب الفلسطيني، حيث نصف الفرح ونصف الحزن، فالأخير هنا ليس القصد الحزن فقط على مشاهد الوداع التي يشاهدها الشعب الفلسطيني في بيوت الشهداء، وليس أيضاً على البكاء المجبول بالوجع والحسرة الفلسطينية، بل هناك زاوية أخرى من الحزن عند سماع خبر شهيد تستفز العجز أحياناً، وأحياناً أخرى الجُبن، ولذلك مباشرة يتبادر إلى الذهن سؤال مفصلي إلى أذهان الشعب الفلسطيني "هل نستطيع فعل ذلك؟"، والسؤال الأكثر تعبيراً عن الخوف وباللهجة الفلسطينية والذي يقول: "شو كان جابره على هيك شيء".

ربما أُجزم هنا أن أغلبية الشعب الفلسطيني يعيش حالة من الصراع السيكولوجي بداخله عبر دستة من الأسئلة فيما يخص الصراع مع الاحتلال، كأن يُسأل مثلاً" ماذا قدمت للقضية؟ هل أنا قادر بالفعل؟ هل أنا مستعد لذلك؟ وغيرها من الأسئلة، وفي خضم الحياة يحاول جزء كبير الهروب من البحث عن إجابات مُرضية أخلاقياً وإنسانياً، وهناك من يصل به المطاف إلى حسم هذا الصراع بأن ينخرط في المقاومة بأنواعها المختلفة، وهناك من يبقى تائهاً للأبد دون جدوى، ولكن مع كل شهيد تحديداً تتحرك مياه الصراع الراكدة بشكلٍ قلق، ولذلك يمكن القول هنا: أن البحث عن مبررات للأسئلة واعتبارها إجابات هي مصيدة نُصبت للشعب الفلسطيني علينا الحذر منها في مضمار الوعي، وأهم مصيدة هنا هي الجملة التالية "لا جدوى من المقاومة"، أو بمعنى آخر وتحديداً باللهجة الفلسطينية "أنتو مجانين إسرائيل ما حدا بقدر عليها، ولا عمرنا راح نتحرر".

 يأخذنا سؤال "الجدوى" هذا إلى سؤال آخر "هل نحن حالمون بالفعل، ونعيش رومنسية الثوار؟"، وقبل الإجابة نحتاج إلى سؤال آخر يفرض نفسه في المعادلة "هل الواقع يقول أن التحرير غير ممكن؟"، ولكن يبدو أننا علينا استعارة أسلوب اليهود في الحوار، حيث يستخدمون الرد على السؤال بسؤال آخر للإقناع وأحياناً للهروب من الإجابة، إذاً لنطرح السؤال التالي: "هل الشهداء كانوا يحلمون بالفعل فقط، هل كان تامر الكيلاني حالم، وإبراهيم النابلسي، ووديع الحوح، وعبود صبح، ومحمد الدخيل، وجميل العموري...؟"، تكمن الإجابة هنا في البداية أنهم بالفعل حالمون، ولكن كأننا هنا ننقرأ نصف الآية التي تقول: "ويل للمصلين"، ولكن ينسف الشهداء فكرة الحلم الطوباوي عبر تضحيتهم، أي بمعنى آخر لولا هؤلاء الشهداء وإيمانهم الحتمي بإمكانية تحقيق الحلم إلى واقع لما كانوا على هذا القدر من التضحية، فالتضحية هنا يستحقها الحلم، وأكثر هي طريق الحلم، ومن هنا نقفز بوثبة سريعة إلى كلمة يجب التمسك بها وهي "الأمل"، حيث الأخيرة مع كل شهيد تكبر لذلك نحن نتمسك بصور الشهداء ونتداولها لأننا في قرارة أنفسنا نعلم أن الحلم ممكن تحقيقه.

حالة الصراع مع الاحتلال بين المد والجزر، وهذه الحالة تلازم الشعب الفلسطيني منذ وطأت أقدام الاحتلال على أرض فلسطين، وحتى نبقى في الإطار لنحدد النكبة _1948_ كتاريخ مفصلي للأجيال الجديدة، فمنذ هذا التاريخ حقق الشعب الفلسطيني عبر ثورته انتصارات، ووقع في هزائم، وأرتكب بحقه المجازر، ونكسات، وتهجير وتشريد، واستسلام في بعض المحطات...، وعليه في بعض المراحل يلامس الشعب الفلسطيني أن الحلم _تحرير فلسطين_ ممكن، وأحياناً في بعض المراحل يُسيطر الإحباط ويصبح الحلم "يوتوبيا" من المستحيل تحقيقه، والسجل التاريخي لهذه الشعب حافل ومليء بما نقول.

من زاوية مختلفة لا تتناقض مع كل ما سبق يمكن التعريج عليها، والتي تقول: "نعم، الرغبة تُصادم الواقع أحياناً"، ولكن هذا أمْراً صحياً، خصوصاً إذا كان الحلم بعيداً عن الواقع، أو أنا الحلم جاء قبل قراءة الواقع، وعليه من يعتقد أو أكثر من يؤمن أن تحرير فلسطين هو إخراج إبرة من كومة قش سيصدم بالواقع بالفعل، بمعنى أن تحرير فلسطين لن يتم عبر عملية واحدة هنا أو هناك، أو عبر خطاب سياسي أو مقاوم حماسي، لذلك نحتاج لضبط "الأدرينالين" عند كل عملية، وأن نجعل الفكر الإستراتيجي يسبق العاطفة، حيث العمل التراكمي للفعل المقاوم هو الجدوى، بمعنى أن استمرار أكثر للفعل التراكمي للعمل المقاوم والذي يحقق انتصارات هنا وهناك سيوصلنا بطبيعة الحال إلى النصر النوعي وهو تحرير فلسطين، لأن هذا التراكم هو الذي يقوم ببناء الخبرة وهي "الخميرة" في الصراع بطبيعة الحال.

يحتاج الأمر إذاً إلى دراسة الواقع بشكلٍ عميق وفهم متطلباته، وتقلباته، وفيما يخص القضية الفلسطينية علينا إدراك أن الصراع، ليس مع "دولة إسرائيل" فقط، حيث هنا وبشكلٍ موجز علينا فهم أن القضية تحتاج إلى ربط إقليمي ودولي، وأول خطأ يتم ارتكابه هنا هو قطع الحبل عند الحلم، لأن "إسرائيل" هي مشروع استعماري كأحد نتائج النظام الرأسمالي الإمبريالي في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية _1939/1945_ ولنقرأ كتاب "الدولة اليهودية" لثيودر هرتسل" حتى نُمسك طرف الخيط الأول لفهم هذا المشروع، وفي نفس السياق علينا أيضاً دراسة الحلم ومتطلباته عبر الربط العلمي والعملي القائم على البعد الإستراتيجي، وهذا يحتاج لقلم وورقة وبناء دراسة جدوى لخطة الحلم، دون تغييب الواقع عند كتابة الخطة، لأن الصراع هنا ليس بين جارين بينهم خلاف على "سنسله" قام أحد الجيران بإزاحتها متراً واحداً في أرض جاره، حيث هنا بالحوار يمكن الانتهاء من هذا الخلاف.

حتى لا نبقى نهوي باستمرار ونرتطم في قاع البئر، علينا أن نُميز بين الأحلام والأوهام، حيث الأول حق مشروع قابل للتطبيق خصوصاً في بعده الإنساني تحديداً فيما يخص حق الشعب الفلسطيني، أما الثاني فهو ضرب من الهلوسات لا يستند إلى قراءات واقعية، وفي سياق متصل في ظل الصراعات التي يخوضها الشعب الفلسطيني بين تحقيق الطموحات الفردية، وصدمة وجود الاحتلال يمكن القول هنا: لا يمكن زراعة الأرض والتمتع بثمرها دون إزالة الأشواك والأعشاب أولاً، ومن ثم حراثتها، وبعد ذلك الري والاعتناء بها، ومن الممكن وصول الأمر أكثر إلى إشعال النار في الأرض في أوقات معينة لطرد الأمراض، بل وأحيانا السهر على رعايتها حتى يُحقق الموسم هدفهُ.

الحلم يحتاج أحياناً إنجاز أعمال صغيرة، وربما هذا شرط أساسي في الحلم، وفي سياق منفصل لنأخذ معادلة "الحجر والجيب العسكري الصهيوني" عندما يشتبك الشبان بالحجارة مع الاحتلال في المواجهات الشعبية يتم اختيار الحجر المناسب للوصول إلى "الجيب العسكري"، يعني عندما يكون "الجيب" بعيداً يتم انتقاء حجراً صغيراً نسبياً حتى يرتطم "بالجيب" ليشعر الشاب بالفرحة، أما إذا الأداة في قذف الحجر "المقلاع" يتم انتقاء حجر مناسب لقبضة "المقلاع"، أما عندما تكون الأداة "النقيفة أو المغيطة" يتم انتقاء الحجر المناسب أيضاً، وهنا يتم العمل بقاعدة "بدك تصيب ما تكبّر الحجر"، أما إذا كان "الجيب" قريباً، مباشرة يتم انتقاء الحجر الكبير تحت قاعدة "بدك تحرهم كبر حجرك"، هذا يعني أن العملية قائمة على المسافة لتحقيق حلم الحجر، وهذا أيضاً وفي نفس السياق ينطبق على لعبة "القناطر" الشعبية الفلسطينية، حيث هنا الحلم لا يقوم على النصيحة الشعبية القائلة: "لا تكبر حَجَرك"، بل قائم الحلم الفلسطيني على "حين تُريد قذف حجرك عليك أن تُحيط به قبضتك".

في هذا المضمار يطول الحديث، ولكن وبالعودة إلى كتاب "الدولة اليهودية" لثيودور هرتسل"، حيث يناقش "هرتسل" إذا كان إقامة "الدولة اليهودية" ممكنة أم لا؟ ويناقش إذا كانت الفكرة طوباوية أو يوتوبيا؟ ولكنه بالنهاية كان حلم بالنسبة "لهرتسل" وعصبته _ تحقيق الحلم ليس مبرر لارتكاب الجرائم، حيث حلم عن حلم يفرق للشعب الفلسطيني_ وقاموا بتحقيق بؤس اليهود على حساب بؤس الشعب الفلسطيني، وهذا لم يكن يتم دون قراءة للواقع، وللحلم، وللظروف الدولية وغيرها الممكنة لتحقيق هذا الحلم... وما تسمى "دولة إسرائيل" واضحة للجميع وعلى الملأ، هذه "الدولة" التي نحلم أن نستعيد أرضنا التي أُقيمت عليها أحلام هؤلاء الصهاينة، لذلك ليكن تعبُنا على قدر حُلمنا، هذا الحلم الذي أُستشهد في سبيله أطفال كمحمد الدرة، وإيمان حجو، وريان سليمان، ومهدي أبو عياش، وآلاء قدوم، وليان الشاعر، وفارس عودة...، وصدحت لهم حنجرة المطرب "أبو عرب" قائله: "أطفال نزلت على الحارة.. تتحدى العدا بحجارة.. أطفال نزلت على الشارع تتحدى أصوات المدافع.. والعالم أطرش مش سامع.. يا عالم شو هالجسارة".