Menu

اتّفاق أوسلو.. ثلاثة عقودٍ والتراجع مستمرّ

سعاده مصطفى أرشيد

نشر هذا المقال في العدد 54 من مجلة الهدف الإلكترونية

لطالما كانت سياساتُ التسوية والتفاوض قائمةً داخل العقل السياسي لقيادة منظّمة التحرير منذ عام 1969، وكان فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسيّة قد تقدّم منذ ذلك الوقت المبكّر بورقةٍ تتحدّث عن دولةٍ فلسطينيّةٍ في حدود عام 1967، ولكن القيادة قرّرت إخفاءها وعدم طرح الموضوع علنًا، حيث رأت أنّه سيكون سابقًا لأوانه، ورفعت شعارات الكفاح المسلّح باعتباره الطريق الوحيد لتحرير كامل التراب الوطني  الفلسطيني، ولكن كان لا بدَّ لهذا المسار الذي التزمت به قيادة منظّمة التحرير بالتحالف مع جماعة أمريكا في النظام العربي من أن يصل إلى اتفاقية أوسلو أو ما يشابهها وما يلحق بها من تنازلاتٍ في حفرةٍ لا قاع لها.

أخذ العمل يتسارع نحو التسوية منذ عام 1982، وخروج الثورة الفلسطينيّة من بيروت إلى تونس بعد تعهّداتٍ حصل عليها رئيس المنظمة من المبعوث الأمريكي فيليب حبيب عبر الوسيط اللبناني صائب إسلام، وذلك بفتح حوار بين منظمة التحرير والإدارة الأمريكية عبر سفيرها في تونس روبرت بيليترو، ثم في المشاريع المشتركة مع المملكة الأردنية الهاشمية، كل هذا ومنظمة التحرير تنتقل من ضعفٍ إلى ضعف، إلى أن استردت مكانتها عند اندلاع الانتفاضة الأولى التي جاءت بداياتها عفوية، وهذا ما جعل منظمة التحرير تبتعد عن الأردن، ودعا الملك حسين لإعلان فك ارتباطه القانوني والإداري بالضفة الغربية باستثناء القدس ، تسليمًا منه بمسؤولية المنظمة على الضفة الغربية، وبحكم الواقع الذي فرضته الانتفاضة.

لكن دخول العراق للكويت كان إيذانًا بانهيار النظام العربي، الذي تزامن مع انهيار النظام الدولي القائم على القطبية الثنائية، وكانت جائزة الترضية للعرب الذين شاركوا في الحرب ضد العراق، بعقد مؤتمر مدريد للسلام، ودار الخلاف حول التمثيل الفلسطيني بالمؤتمر حيث كانت منظمة التحرير تطالب بوحدانيّتها في تمثيل فلسطين؛ الأمر الذي رفضته إسرائيل إلا بشروطها، وكذلك رفضته كثيرٌ من الدول العربيّة.

يذكر من شارك في تلك الفترة، وكان في دائرة صنع القرار، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، ممدوح نوفل، أنّ أحمد قريع، رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض في أوسلو، كان يطلع أبو مازن على التفاصيل خطوةً بخطوة، وهذا كان بدوره يطلع عليها ياسر عرفات بالتفصيل، وكان الأخير يوافق عليها، ويطالب بالاستعجال لإنهاء التفاوض والتوقيع على الاتّفاق، وعندما انتهى الوفدان من صياغة الاتفاق، أرسله أحمد قريع إلى تونس، وعُرض من فوره على عرفات الذي ما أن اطلع على نصوصه حتى أبدا غضبًا شديدًا، وألقى الأوراق قائلًا: أين القدس...؟ أين حقّ عودة اللاجئين...؟ أين...؟ أين؟ هذه خيانة، وعندما هدأ قليلًا، سأله أبو مازن: ما الذي لم يعجبك؟، فأجاب: أنا فين؟ فما كان من أبو مازن إلا أن اتّصل بوزير خارجية النرويج، الذي قام بدوره باتصالاته التي أسفرت عن الرسالة الشهيرة التي وجهها اسحاق رابين لعرفات معترفًا بزعامته لمنظّمة التحرير. هذه السردية توصلنا إلى مفتاحٍ لفهم أوسلو ووظيفتها لدى قيادة منظمة التحرير، وهو مقايضة المصالح العليا للشعب الفلسطيني بالبقاء السياسي لقيادة منظمة التحرير، وهذا ما حصل؛ إذ كفلت اتفاقية أوسلو البقاء السياسي للقيادة، وإن كانت على حساب المصالح العليا.

كان من الطبيعي أن تكون إدارة قيادة منظمة التحرير للسلطة الفلسطينية استمرارًا لنهجها وطريقتها في العمل، نظام المياومة في القرارات السياسية والاستراتيجية، اعتماد الشطارة والفهلوة والارتجال، نبذ قيم الشجاعة والتضحية والإخلاص لصالح الولاء الشخصي للقيادة من خلال عقد غير مكتوب، فهم لا يسائلون القيادة عن أدائها وتنازلاتها والقيادة، في المقابل لا تسائلهم عن فسادهم.

تم تسويق اتفاق أوسلو شعبيًّا على أنّه لا بدّ مما ليس منه بد، وأن الشعب الفلسطيني قد أرهقته الحروب والاحتلال، وتحت شعار وحدنا، وأن الأمة قد خذلتنا وليس لنا إلا أن نتفق مع الإسرائيليين، فحينًا تم وصف الاتفاق على أنّه نصرٌ مؤزّرٌ للسياسات الفلسطينيّة الرسمية، وحينًا آخر بمنطق طفولي مفاده لقد (ضحكنا على الإسرائيليين)؛ إذ ما أن نصل إلى الوطن إلا ونبدأ ورشة العمل على تحويل هذا الاتفاق إلى دولةٍ فلسطينيّةٍ وبشروطنا، وما إلى ذلك من تسويقاتٍ كانت للأسف تجد لها سوقًا بين بعض الناس، تشكّلت السلطة وفق طريقة العمل القديمة والمذكورة آنفًا، التي لا يمكن لها إلا أن تنحدر بنا إلى مستوياتٍ أدنى.

ظنّ الفلسطيني الرسمي ومعه بعض المنتفعين من رجال الأعمال، أنّه بعد توقيع هذا الاتفاق سيستطيع أن يصبح حليفًا وشريكًا للإسرائيلي في الإقليم، لا بل أن يكون وسيطًا ما بين الدول العربية وإسرائيل لا سياسيًّا فحسب، إنّما اقتصاديٌّ وأمنيّ. وانتشرت في ذلك الحين قصص عن وكالاتٍ تجاريةٍ استطاع بعض رموز العمل الفلسطيني الفدائي سابقًا أن يحصل عليها وكيلًا حصريًّا لشركاتٍ إسرائيليّةٍ في أسواقٍ عربيّةٍ وإسلاميّة.

الإسرائيليّ بدوره، وكما ورد بنص اتفاقية أوسلو، رأى في هذا الاتفاق أنّه ليس إلا اتفاقًا لإدارة السكان وحفظ الأمن ولا شيء أكثر، فيما رُحلت مسائل الحل النهائي إلى سنواتٍ قادمة، وهي القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه، ولكنّها لم تبق عالقة؛ فالقدس قد تهوّدت حالتها في هذه العقود الثلاثة، والمسجد الأقصى قد قسم مكانيًّا وزمانيًّا أمام أعيننا، وإن لم يتم الإعلان عن ذلك، والمستوطنات توسعت إلى أضعاف أضعاف ما كانت عليه قبل اتفاق أوسلو، وأصبح عدد المستوطنين يقارب المليون مستوطن في الضفة الغربية، لا بل إنّه في بعض المحافظات، كمحافظة سلفيت، أصبح عدد المستوطنين يفوق عدد الفلسطينيين في تلك المحافظة، وهو مرشح للازدياد السريع، اللاجئين أصبحوا ورقةً محترقة؛ فالرمز الأول لمنظمة التحرير وللسلطة الفلسطينية يصرح علنًا بأنه لا يريد العودة إلى بيت أبيه إلا سائحًا، ويؤكد في كل مناسبة على طمأنة الإسرائيليين بأنه لن يغرق إسرائيل باللاجئين أصحاب الحق الشرعي، والمياه ليست لنا، إنما للمستوطنين الذين تبلغ حصة الفرد منهم أكثر من 10 أضعاف حصة الفلسطيني، أما في مسألة الحدود، فالإسرائيلي يرفض أن يرابط على الحدود بينه وبين الأردن حتى الجيش الأمريكي.

ويجدر هنا ملاحظة أن الفلسطيني الرسمي، وبعد أكثر من سنتين على توقيع الاتفاق لم يراوده أدنى شعور بالندم، فقد أصبح يرى في العلاقة مع الإسرائيلي طريقًا ذات اتجاهٍ واحد، وعن قناعته بأنّ البندقيّة والثورة لم تكن إلا شعارًا لمرحلةٍ قد انقضت، ومقدّمة للتسوية؛ الأمرُ الذي أوضحته لاحقًا ما عرف باسم اتفاقيّة يوسي بيلين - أبو مازن، التي نشرت على نطاقٍ واسع، وافق الجانب الفلسطيني فيها على دولةٍ شكليّة، منزوعة السلاح، منقوصة السيادة، وعلى بقاء المستوطنات الكبرى وحقّها في التوسّع، وعلى أن تنتقل العاصمة الفلسطينية إلى أبو ديس والعيزرية، وعلى أن يصيح المسجد الأقصى وسواه من المقدّسات تحت السيادة الإسرائيليّة بموجب صيغةٍ شبيهةٍ بالعلاقة بين الفاتيكان والدولة الإيطالية، وإلغاء وكالة الغوث وإنشاء هيئة جديدة لإسكان اللاجئين الفلسطيني حيت يقيمون دون صخب (كما ورد بالنص). لقد صدر على ألسنة المفاوضين والسياسيين الإسرائيليين تصريحات للصحافة تفيد أن مفاوضات أوسلو كانت سهلةً وسلسةً وخاليةً من التعقيد لدرجة أن وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون باريس بالقول: كنا نفاوض أنفسنا، ومؤخّرًا سمحت الرقابة العسكرية الإسرائيليّة بنشر بعض من محاضر اجتماعات الحكومة الإسرائيليّة في فتره الإعداد لاتفاق أوسلو منها الاجتماعات التي عقدت في 30 و31 اب من عام 1993 وهي معروضةٌ ومنشورةٌ لمن أراد الاطلاع عليها.

بناءً على ما ورد في الأجزاء المنشورة من المحاضر؛ فقد بدا جليًّا أن الاتفاق لا يحمل مضامين سياسية، إنما أمنيّة وإدارية فقد كان ينظر إلى قطاع غزه وكأنه كرت نار ملتهبة، يريد أن يلقي بها ولو في البحر، ويريد أن يحول احتلاله للضفة الغربية إلى احتلالٍ مريحٍ؛ احتلالٍ ذي خمسة نجوم، حسب تصنيف الفنادق، وذلك بالتخلص من المسؤولية المدنية للسكان ووضعهم في معازل وتطوير وسائل تحكم وسيطرة لدى السلطة الفلسطينية، بما يجعل منها مقاولًا أمنيًّا يعمل في صالح الاحتلال، وكما وصف رئيس الحكومة في حين اسحاق رابين اتفاق أوسلو بالقول: إنه اتفاق أمني له بعض الهوامش السياسية.

في جردة حساب سريعة نتساءل اليوم بعد 30 عامًا من ذلك الاتفاق المشؤوم، ونحن نرى ما آلت إليه الأمور، وكيف كانت الجغرافيا الفلسطينية قبل 30 عامًا بين غزة والضفة الغربية والقدس؟ وأين أصبحت اليوم القدس عصية على أهل الضفة الغربية وشبه مستحيلة على أهل غزة، فيما هي مستباحة من الإسرائيلي؟ وما هي العقيدة القتالية؟ وكيف أصبحت اليوم لدى أجهزة السلطة...؟ كيف كان الوفاق الفلسطيني – الفلسطيني؟ وكيف كانت تدار حوارات قبل 30 عامًا؟ وكيف أصبح الوضع اليوم لا بما يتعلق بالانقسام الذي حصل بين غزه والضفة فقط، إنما بين الضفة والضفة أيضًا...؟ لم تعد فلسطين مسألة قوميّة تلتف حولها ملايين من أبناء الأمة ومعهم مليارات من المسلمين ومن أنصار الحرية في العالم عندما كانوا يرون في الفلسطيني شعبًا يقوم ويعيش تحت الاحتلال، وكيف أصبحت اليوم بعد أن تحولنا من ثورةٍ تناضل من أجل تحرير وطنها المغتصب إلى مشروع تسوية؟ وكيف أصبحنا سلطةً فلسطينيّةً تعمل مقاولًا أمنيًّا لدى عدوّها الإسرائيلي...؟ كيف كان المجتمع الفلسطيني قبل اتفاق أوسلو؟ وكيف أصبح بعد ثلاثة عقود؟ كيف كانت الزراعة والاهتمام بالأرض قبل الاتفاق؟ وكيف أصبحت بعد ثلاثة عقود؟ كيف كانت الصناعة البسيطة قبل الاتفاق؟ وكيف أصبحت بعد ثلاثة عقود؟

ولكن للصورة وجه آخر، فقبل سنوات انتدبت الإدارة الأمريكية الجنرال المتخصص دايتون ليقيم في الضفة الغربية، ويعيد بناء أجهزه الأمن بما يتناسب مع وظيفتها المرسومة، وبعد انتهاء مهمته ألقى محاضرة في معهد واشنطن تبجح فيها معدّدًا إنجازاته، ومما قاله: لقد استطعت صناعة فلسطيني جديد يؤمن بالسلام مع إسرائيل، ويرى فيمن يريد مقاتلة إسرائيل عدوًّا له، هذا الفلسطيني الجديد الذي تحدث عنه الجنرال الأمريكي، هو وربما أبناؤه من يقاومون الاحتلال في جنين ومخيمها وفي نابلس ومحيطها وطولكرم وطوباس وعلى امتداد الوطن.