Menu

قطع الأوردة: الخط 60 والخط 90

حسين الغلبان

الكاتب حسين الغلبان


تخيل معي، جغرافية غزة وقد قرر علماء المفاوضات أن يصوغوها لتبدو كمسدس ماء صغير، يتلاعب به طفل في عيد الفطر، أما الضفة الغربية، فما أدراك ما الضفة، إذ تبدو خريطتها كحبة بطاطا محفورة من المنتصف، تصل في قلبها إلى القدس الشريف، قدسنا العريقة. لكن القصة لا تنتهي هناك، فقد امتد سرطان الاستيطان ليغزو أراضي الضفة من قبل المستوطنين الصهاينة. ولكن، ما الحل؟

لا تقلق، يا صديقي. فاللاوعي الجمعي في تلك الأرض، وفي كل زاوية محيطة بها، يتحمل عبء "قطع الأوردة". ولعلك تذكر عملية معبر الكرامة البطولية، ولكن دعنا أولاً نتوقف قليلاً عند قصة صابر.

صابر، ذاك الطفل الغزاوي، منذ عشرين عاماً، كان يحول صالة منزله إلى شبكة أنفاق من وسائد وكراسي المطبخ، ويغطيها بأغطية السرير. لقد كبر قليلاً وازداد فضوله، فسمع عن نفق قديم تم استكشافه ويعود للكنعانيين. انطلق صابر ويملأه الفضول للبحث عن كنوز مشابهة، مستخدماً ملعقة معدنية قديمة شبيهة بتلك التي استخدمها الأسرى في سجن جلبوع. ومع مرور السنوات، أصبح صابر شاباً جامعياً يدرس الهندسة، لكنه لم يعد يحفر مجرد نفق، بل يبني إمبراطورية تحت الأرض، لا يمكن للأمريكيين ولا حتى المريخيين تدميرها.

IMG-20240914-WA0006.jpg
 

وهكذا، اللاوعي الجمعي هو مصدر مميز من الإلهام مترابط وغير مرئي، هدفه محاربة الظلم الصهيوني. أبناء الضفة يدركون أن قطع الأوردة، تلك الطرق الرئيسية التي تنقل الإمدادات بين الضفة والكيان، هو مفتاح تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. دعنا نأخذ الخط رقم 60 كمثال، الذي يقطع منتصف الضفة باتصال وريدي رئيسي يمتد من بئر السبع وبالمناسبة يبعد 7 كيلومترات فقط عن "نيعوت لون" تلك المنطقة المليئة بالقصور الفخمة، مروراً بالخليل، وصولاً إلى القدس والناصرة. وهناك خط آخر، أخطر، هو الخط رقم 90، الذي يمتد من مدينة المطلة في الشمال إلى أريحا والأغوار، وصولاً إلى إيلات في الجنوب. هذا الخط، إذا قُطع، سيتحول إلى جلطة تاجية تشل قلب الكيان الصهيوني.

تخيل الجلطة القلبية: الدهون تتراكم على جدران الأوردة، ثم يحدث الانسداد، إما أن تتدخل جراحياً أو يتوقف التدفق ويتسبب بفشل القلب. هكذا هو الأمر في فلسطين؛ قطع الأوردة هو المعيار الحربي لتغيير ميزان القوى العالمية عبر التاريخ. خذ مثلاً حصار صلاح الدين في حطين، الذي انتصر بفضل قطع الوريد المؤدي إلى تلال حطين، أو معركة عين جالوت حيث كان المماليك يمتلكون نظاماً لوجستياً جيد التنظيم يضمن تدفق الإمدادات عبر الأوردة بسرعة وكفاءة. 

استلهم الصهاينة، من خلال نبشهم في صفحات التاريخ المشرقي، أن الحصار على غزة أو إغراق الضفة بالحواجز سيقطع الدعم المتدفق ومن ثم يخضعون أهلها. لكنهم نسوا أن من يعيش على هذه الأرض هم زيتونها، وأوردتهم متصلة بجذور الأرض الطيبة، ممتدة في عمقها، لا تنقطع.

لا تنسى تلك الأوردة.