Menu

الكتابة وفن الاستبعاد!

نصّار إبراهيم

 خلال تجربتي في الكتابة، كان أكثر ما يزعجني ولا يزال هو أن استبعد بعض ما كتبت أو ربما كله والبدء من جديد ، فدائما أعتقد أن كل ما أكتبه مهم ويستحق البقاء، ولكني أيضا ومن التجربة اكتشفت أمرا آخر اكثر إدهاشا، وهو أنني حين أقوم بشطب واستبعاد بعض ما كتبت أو كله، وإعادة الكتابة من جديد مرة ومرتين وثلاث وربما عشر مرات، أن ذلك ينتهي في الغالب إلى نص أكثر جمالا من النص الذي اعتقدت في لحظتها أنه الأجمل والأفضل. 
لهذا تعلمت في التجربة شيئا مهما وهو: أنه لا يوجد نص لا يمكن اختصاره وفق الشروط والمطلوب.
 هذه القاعدة أو المبدأ أساسي وحاسم في الكتابة، لأنه يحدث كثيرا أن يطلب نص أو مقال أو بحث بحدود حجم معين بحكم شروط الوقت والمساحة المتاحة للنشر أو الحديث... ويحدث في العادة أن يتجاوز النص الحجم المحدد، ودائما كنت أصر على أن كل ما كتبته هام وأساسي وأي شطب أو استبعاد أو اختصار هو ظلم للنص وللجهد المبذول... فاراوغ وأحاول.. ولكن في النهاية كنت أقوم بالاختصار لأكتشف دائما أن ذلك ممكن.
يحدث ذات الشئ حين يطلب مني تقديم راي او مداخلة  محكومة بوقت محدد، دائما أحتج وأتبرم من أن الوقت غير كاف... بالطبع الوقت لن يكون كاف لأي حديث إذا تركناه على راحته... ولكن يحدث أن يطلب رأي بحدود دقيقة.. حينها من غير المجدي استنزاف الجهد في المراوغة ومحاولة مد الوقت... بل يجب الذهاب للتعامل فورا مع السؤال الأكثر تحديا: ما هي الفكرة التي تستحق هذه الدقيقة؟
 إذن بحدود الوقت أو المساحة المحددة للقول أو النص ما هي الأفكار التي تستحق هذا الوقت وهذه المساحة!؟ هذا هو السؤال.
 هذا الفن إن جاز التعبير يحتاج إلى شجاعة وإلى معرفة، كما يحتاج إلى حدس نقدي عميق لتحديد ما يجب استبعاده، وهذا غير ممكن بدون امتلاك وجهة نظر قادرة على إبداع البديل الأفضل والأجمل والأعمق.
 ولتسهيل العملية فإنني عادة ألجأ لطرح الأسئلة ومناقشة النص وإخضاعه للتحليل، فإذا لم يصمد إذن فهو يستحق الشطب والاستبعاد... ولكي يتحقق هذا الهدف العميق إذن يجب الارتقاء بالمعايير، ودائما الانطلاق من أن القارئ أو المستمع ذكي جدا، وبالتالي يجب البحث عن ذلك النص الذي يليق بذلك الذكاء.
هذا ما يسميه الكاتب العبقري غابرييل غارسيا ماركيز: فن الأستبعاد! 
[.... يجب أن نتعلم الاستبعاد. فالكاتب الجيد لا يُعرَف بما ينشره بقدر ما يُعرف بما يلقيه في سلة المهملات. الآخرون لا يعرفون ذلك؛ ولكن أحدنا يعرف ما يلقيه إلى القمامة، وما يستبعده وما سيستفيد منه. وإذا كان يستبعد فإن هذا يعني أنه يمضي في الطريق السليم. يجب التطلع عاليا ومحاولة الوصول بعيدا. ويجب امتلاك وجهة نظر، وكذلك شجاعة بالطبع لشطب ما يتوجب شطبه ولسماع الآراء وا لتفكير بجدية. خطوة أخرى وسنكون في ظروف تمكننا من الشك حتى بتلك الأشياء التي تبدو لنا جيدة وإخضاعها للاختبار. بل أكثر من ذلك أيضا، فحتى لو بدت للجميع جيدة، يتوجب على أحدنا أن يكون قادرا على إخضاعها للشك. ليس الأمر سهلا. فردة الفعل الأولى التي تراود أحدنا عندما يبدأ بالشك بوجوب تمزيق شيئ ما، هي رد فعل دفاعي: "كيف أمزق هذا، مع أنه أكثر ما يعجبني؟". 
ولكن احدنا  يمعن في التحليل وينتبه إلى أن ذلك الأمر لا يستقيم ضمن القصة بالفعل، وإنه يشوش البنيان ويتناقض مع طبيعة الشخصية، وأنه يمضي في طريق آخر... يجب تمزيقه. ويؤلمنا ذلك في الروح... في اليوم الأول. وفي اليوم التالي يكون الألم أقل، وبعد يومين يصبح أقل، وبعد ثلاثة أيام، أقل أيضا؛ وبعد أربعة أيام لا يتذكر أحدنا شيئا.
 ولكن حذار حذار من الاعتياد على الاحتفاظ بالأشياء بدل تمزيقها، لأنه في حال بقاء المادة المستبعدة في متناول اليد، يكون هناك خطر أن يعمد أحدنا إلى إخراجها ليرى إذا ما كانت "مناسبة" في لحظة أخرى.
 لا بد من الشطب ومن إلقاء الكثير من الأوراق إلى سلة المهملات. وهذا ما يسمى امتلاك حس نقدي ذاتي، أل (shitdetector) الذي يتحدث عنه هيمنغواي] (ورشة سيناريو - غابرييل غارسيا ماركيز – دار المدى للثقافة والنشر - سورية/دمشق - 2008- ص ص 16 -19 ).