في الواقع، وقبل أن يصل " دونالد ترامب" إلى كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، عملت وسائل الإعلام الأمريكية والغربية على رسم ملامح الرئيس القادم (عنيد، من خارج الحزب الجمهوري، لا يفقه بأمور السياسة، رجل أعمال يميني متطرف، قومي وعنصري من القاع، صديق للكيان الصهيوني، وصهيوني متعصب صديق لبوتن بل أن الروس هم من ساعدوه للوصول للرئاسة، معادي للهجرة غير الشرعية وخاصة لذوي الأصول اللاتينية...إلى آخر المعزوفة).
الآن، وبعد بضعة أشهر على استلامه لزمام البيت الأبيض وتربعه كإمبراطور على رأس الإدارة الأمريكية، تعطى له صورة أخرى شبه مغايرة، يحاول أن يرسم معالمها هو شخصياً، وإن لم يعد قادراً على " الإفلات" كلياً من قبضة المؤسسات وامبراطورية الإعلام.
إن " دونالد ترامب" هو – وسيسجل التاريخ ذلك-استمرار لسياسة الرئيسين السابقين في القرن الماضي " ريتشارد نيكسون ورونالد ريغن"، حيث تبدو ملامح المرحلة المقبلة واضحة، في أصالتها كامبريالية عدوانية، وها هي ترسم أهم مؤشرات معالمها للمستقبل.
بدايات توتر جدي مع روسيا الاتحادية وبوادر للعودة لسباق التسلح، وضع الصين الشعبية على رأس جدول أولويات المواجهة الاقتصادية، ازياد احتمالات الغزو الأمريكي المباشر لبعض مناطق النفوذ الاستراتيجية والحيوية، لما تطلق عليه الإدارة الأمريكية " مجالات الأمن القومي الأمريكي"، وزيادة التواجد العسكري في الخارج وتحصينه، تأجيج للصراعات العربية والعربية الإقليمية بما يخدم المصالح الامبريالية والصهيونية على قاعدة الكل تابعين لها، وإعطاء الضوء الأخضر للصهيونية وكيانها في فلسطين " لتسوية المشكلة مع الطرف الفلسطيني حسب الرؤية والرغبة الإسرائيلية على قاعدة أن حل الدولتين ليس هو الحل الأفضل والوحيد".
الكيان الصهيوني في فلسطين، هذا ما يهمنا في هذه المقالة، حظي وما زال منذ انشائه حتى الآن على الدعم اللامحدود من القوى الامبريالية، لأن هذه القوى هي التي خلقته ولها في وجوده في قلب الوطن العربي مصلحة استعمارية استراتيجية، تدافع عنه، وتمده بكل مكونات القوة والتفوق ولا تسمح، ما دامت تستطيع ذلك، أن يتعرض للخطر الوجودي من أي كان، لهذا لن تتغير طبيعته الاستعمارية ووظيفته الامبريالية إلا بانتهاء وجوده. لهذه الأسباب أيضاً، الإدارات الأمريكية المتعاقبة لم تقدم على أي حل، للصراع العربي الصهيوني وفي القلب منه الفلسطيني الصهيوني، يمكن له أن يشكّل " تهديداً" لأمن تفوق هذا الكيان أو أن يمس الركائز التي شيدوه عليها، وخاصة الأرض.
ولمزيد من الطمأنة التاريخية لكل مستثمر في هذا الكيان من أفراد وشركات احتكارية ومتعددات الجنسية، وكذلك للمسئولين الصهاينة تم الاتفاق بين الإدارة الأمريكية، في عهد الرئيس الأمريكي " ريتشارد نيكسون" وحكومة الغزاة الصهاينة بأن " لا تقدم أي إدارة أمريكية على طرح أي مشروع أو أي مبادرة لحل النزاع في المنطقة دون عرضها على الجانب الإسرائيلي أولاً وموافقته عليها"، وقد التزمت كافة الإدارات الأمريكية بهذا الاتفاق، وخاصة رؤسائها، وها هو " دونالد ترامب" أيضاً يعلن ذلك صراحة، وبكل وضوح.
إذاً، "ترامب" لم يأتِ بجديد بل يعلن، بجدية وحزم غير مسبوقتين، بأن الحل الوحيد المطروح هو الحل الإسرائيلي، بما لا يدع مجالاً " للمناورة والمراوغة والتردد" للأطراف العربية وخاصة الفلسطيني.
لهذا السبب تلح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيان لجنتها المركزية " على ضرورة القطع مع نهج أوسلو وإفرازاته السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية" ووقف المفاوضات العبثية، والإقلاع عن " وهم أن تلعب الولايات المتحدة أي دور نزيه فيها".
إن ما يتم من حرب إعلامية و"قصف" يومي لشائعات وأخبار يصيغها طاقم "ترامب" وقسم الترويج والدعاية في البيت الأبيض، والتي تظهر على شكل تسريبات مهمة "سرية" وأكيدة، تصور "ترامب" بالمصمم على اتخاذ القرارات الصعبة وأنه صاحب الربط والحل، يقوم بترديدها رئيس الحكم الذاتي " محمود عباس " وطاقم روابطه، وكذلك العديد من الحكام العرب التابعين للإمبريالية والصهيونية، بالإضافة لجوقته من الصحافيين المأجورين، بهدف غزو " وعي وإرادة" من تبقى من المترددين والانتهازيين والإصلاحيين الذين ما زالوا ينتظرون على حدود " أوسلو ووادي عربي وكامب ديفيد"، كما تهدف أيضاً إلى زرع الوهم والاتكالية، والانتظارية عند بعض القطاعات الشعبية غير الواعية لتضليلها، وسلخها عن م عسكر الثورة ولنقلها – إن أمكن – إلى معسكر الثورة المضادة لاستخدامها كسياج لأصحاب سلطة الحكم الذاتي ونفوذهم وشرعيتهم.
لهذا يصبح من الضروري أن نخوض معركة المعرفة العلمية والمعلومات الصحيحة لمراكمة الوعي، وفضح ما يجب فضحه بلا هوادة وبلا مجاملة.
إن الجماهير تحتاج للمواقف الثورية في حينها، وهي لا ترحم من يستفيق متأخراً، كالحداد عندما يحمي الحديد إلى درجة الاحمرار ينهال عليه بالضرب لأن الفرصة تصبح متاحة لتحويل شكله كما يشاء، وإن لم يستغل هذه الفرصة تنتهي مصادر النيران، ويذهب جهده في مهب الريح.
هذه هي الامبريالية وإدارتها، والحركة الصهيونية وكيانها كما هما في الواقع – أي لا تبديل لأهدافهم الاستراتيجية ومواقفهم ولوسائل تنفيذهم – إن الذي "باع" روحه وغير جلده وقبل أن يقصقص له عدوه " مخالباً"، كانت يوماً ما تزين يديه، هم من يدعون قيادة الشعب الفلسطيني، من ما قبل مرحلة أوسلو حتى الآن.
الوضع الفلسطيني والعربي بقدر ما هو خطير ومأساوي إلا أنه واضح، وهذا الوضوح في الاصطفافات الطبقية والتقاء المصالح بين المركز والمحيط، وزوال حدود العداء الوهمي التي سادت عقوداً بين البرجوازية الريعية والكمبرادورية العربية من جهة، والامبريالية والصهيونية من جهة أخرى، هي في الوقت ذاته إزالة وتحطيم لقيود الوهم والمراهنة على هذه البرجوازيات وأنظمتها، مما يسمح باندفاع قوى طبقية أخرى جديدة، صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة والتحرير، لتصدر قيادة الأمة في نضالها للتحرر التام بين الاستعمار وتحقيق الاستقلال الحقيقي الناجز على طريق بناء المجتمع البديل.
إن الرأسمال عدواني بطبيعته والامبريالية توسعية احتلالية جشعة، كذئب متوحش لن يتحوّل لآكل الأعشاب حتى لو قضى نحبه، لنقاومها بكل الوسائل، وأن لا نثق بوعودها الكاذبة، وأن لا نسمح لأنفسنا ولا للوطنيين الحقيقيين تسويق بضاعتها الفاسدة أو تلميع وجهها القبيح، فهنالك إمكانية للجم عدوانيتها وهزيمتها، بتشكيل جبهات معادية لها وطنياً وإقليمياً وعالمياً.