يدخل اليوم إضراب الحرية والكرامة يومه التاسع، والمضربون مصممون على مواصلة التحدي لتحقيق مطالبهم التي تشمل تحسين شروط حياتهم في الأسر، واستعادة مكتسبات كانت الحركة الأسيرة قد حققتها خلال كفاحها الطويل، وارتدت عليها إدارة السجون مستفيدة من انعكاسات الحالة الفلسطينية والعربية المتدهورة على الأسرى في المعتقلات الإسرائيلية.
هناك من لا يدعم أسلوب الإضراب عن الطعام ويطالب الأسرى بالصمود والاطمئنان، لأن تحرير فلسطين سيؤدي إلى تحريرهم، متناسيًا أن التحرير لا يدق الأبواب، وأن الأسرى بحاجة إلى تحسين شروط أسرهم إلى حين إطلاق سراحهم، الذي من المفترض أن يتم بالاعتماد على جميع الأشكال: من صفقات تبادل الأسرى، إلى العمل السياسي والديبلوماسي، الذي إذا اعتمد خيارًا وحيدًا سيكون مقابل أي إطلاق سراح للأسرى ثمنًا باهظًا من الحقوق، من خلال تقديم التنازلات بالمفرق والجملة، كما حدث تحديدًا منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن.
وحتى يستطيع العمل السياسي والديبلوماسي أن يحصد فيما يتعلق بإطلاق سراح الأسرى أو غيره من المطالب والحقوق والأهداف لا بد أن يزرع، من خلال الصمود والكفاح والمقاومة المثمرة بكل أشكالها التي يسطرها الشعب الفلسطيني بقواه الحية، وبمختلف طاقاته وأفراده منذ نشوء ما بات يسمى القضية الفلسطينية وحتى الآن.
وهناك من يعتقد أنّ المفاوضات واستئناف العملية السياسية والرهان على الإدارات الأميركية، وحاليًا من خلال الرهان على إدارة دونالد ترامب، هو الكفيل في النهاية بإطلاق سراح الأسرى، وينسى هؤلاء أن اتفاق أوسلو لم يتضمن إطلاق سراح الأسرى، وأن قرابة سبعة آلاف أسير يرزحون الآن وراء القضبان، من بينهم العشرات منذ ما قبل اتفاق أوسلو، الذين كان من المفترض إطلاق سراحهم منذ البداية، وفيما عرف في العام 2014 بالدفعة الرابعة وفق الاتفاق الذي عقده جون كيري عندما استطاع النجاح في استئناف المفاوضات لمدة تسعة أشهر.
وبعض المراهنين الدائمين على المفاوضات والحل السياسي القادم من البيت الأبيض الأميركي يعتقد ويغمز ويلمز إلى أن الإضراب الآن عشية الزيارة المرتقبة للرئيس محمود عباس إلى واشنطن يمكن أن يشوش عليها، ويقلل من فرص نجاحها.
ويخطئ هؤلاء تمامًا، لأن وقوع الزيارة بينما تدق ضربات إضراب الأسرى الذي يشارك فيه أكثر من 1500 أسير ويشهد حركة تضامن فلسطينية وعربية وعالمية -وإن لم تصل إلى المستوى المطلوب لأسباب عديدة لا مجال في هذا المقال للبحث فيها- يمكن أن تقدم رسالة قوية للإدارة الأميركية يظهر فيها الشعب الفلسطيني موحدًا وراء إضراب الأسرى، وما يعنيه ذلك من أن الانقسام والانتظار والتخاذل والتهور والمغامرة ليست المشاهد الوحيدة ولا نهاية المطاف، وأن الشعب الفلسطيني من خلال مختلف أشكال الصمود والتصدي والمقاومه، وبتمسكه بقضيته وتواجده على أرض وطنه، وبما يمثله إضراب الحرية والكرامة من نموذج للفداء والبطولة الجماعية؛ يدل بشكل واضح للجميع بأنه يملك إرادة فولاذية للتمسك بالحياة ومستعد للتضحية والكفاح لإنجاز حقوقه مهما طال الزمن وغلت التضحيات، وهو بمثل هذه الملحمة النضالية يدلل بالملموس على أن لديه البديل عن الإستراتيجيات المعتمدة، ويملك خيارات أخرى، على رأسها المقاومة والانتفاضة والإستراتيجية متعددة الأبعاد القادرة حتمًا على الانتصار.
ويمكن بثقة توظيف كل هذا التاريخ الحافل من النضال الفلسطيني وتجسيداته المختلفة والمتواصلة بلا انقطاع، وآخرها إضراب الحرية والكرامة الذي سبقه إضرابات فردية وجماعية شهدتها السجون الإسرائيلية، وألهبت مشاعر كل أنصار القضية الفلسطينية على امتداد العالم في المباحثات الأميركية الفلسطينية القادمة لتحسين نتائجها، وقطع الطريق على الحملة الأميركية الإسرائيلية الرامية إلى شيطنة المقاومة الفلسطينية المشروعة والشهداء والأسرى والجرحى، التي تتركز الآن على مطالبة السلطة بوقف رواتب وبرامج أسر الشهداء والأسرى والجرحى.
من دون مثل هذا الإضراب سيكون موقف الرئيس أضعف، وهو يستطيع إن أراد التسلح به وتوظيفه من أجل إحباط وسم الشهداء والأسرى بـ"الإرهاب" باعتبارهم أبطال الحرية.
بكل أسف، هناك من يردد الرواية الإسرائيلية بأن هذا الإضراب هو رد مروان البرغوثي على إستبعاده من منصب نائب رئيس حركه «فتح» الذي يستحقه بعد حصوله على أعلى الأصوات في المؤتمر، وكان يمكن تعيينه كنائب رئيس إلى جانب محمود العالول الذي تم اختياره لهذا المنصب، ويأتي ضمن سعيه للخلافة، متناسيًا أن الاستعدادات لهذا الإضراب بدأت منذ شهر آب الماضي، وجرت محاولات لإقناع إدارة السجون الإسرائيلية بالاستجابة لمطالب الحركة الأسيرة من دون الحاجة إلى إضرابات تهدد المضربين بالموت أو المعاناة من الأمراض الناجمة عن الإضراب وقبل عقد مؤتمر "فتح" كما جاء على لسان وصفي قبها الحمساوي، الذي لن يقدم المديح كذبًا ومجانًا لأحد قادة "فتح" خصم "حماس"، والخارج من الأسر حالًا وكان أحد المشاركين في الإعداد لهذا الإضراب.
إضافة لما سبق، ماذا لو كان الإضراب ضمن السباق على الزعامة والخلافة، فهو يأتي في السياق والاتجاه الصحيح، وأفضل مليون مرة من التنافس للحصول على المصالح والمناصب والزعامة والخلافة عن طريق السعي لإرضاء الاحتلال وسادة البيت الأبيض.
وأخيرًا، على الرغم من أن النجاح المبهر الذي تحقق من خلال إضراب الحرية والكرامة حتى الآن، من خلال مشاركة هذا العدد الكبير في إضراب جماعي عن الطعام (الذي وفق معلوماتي غير مسبوق في التاريخ)، وبمشاركة مختلف القوى بما فيهم "فتح" و"حماس" اللتان تعيشان أسوأ مراحل الانقسام والاتهامات المتبادلة، إلا أن الانتصار في تحقيق أهداف الإضراب ممكن رغم استشراس الحكومة الإسرائيلية في محاولاتها لكسر الإضراب، لأن نجاحه يفشل استمرار نجاحها دوليًا بوسم الشهداء والأسرى بـ"الإرهاب"، فهي تخشى من تداعيات استمرار الإضراب، وما يمكن أن يؤدي إليه من تفجر الوضع الفلسطيني إلى درجة قد تندلع فيها انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، وتنهي حالة الاحتلال سبع نجوم، وتساهم بسرعة في القضاء على الانقسام الأسود الذي يسير حثيثًا، خصوصًا في الآونة الأخيرة، ليصبح انفصالًا دائمًا، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من إفشال إقامة حلف الناتو الأميركي الإسرائيلي العربي، وقطع الطريق على الحل الإقليمي الذي دعا إليه نتنياهو منذ سنوات طويلة، ويستعد في الفتره المقبلة لقطف ثماره.
إن الانتصار الكامل بحاجة إلى صبر وإرادة من الخارج توازي إرادة وصبر المضربين، وذلك من تحرك شعبي فلسطيني أكبر وأقوى، وبحاجة إلى اقتناع القيادة بأن المطلوب منها لدعم الإضراب أكثر من المباركة الخجولة العلنية، والتخوف من تداعياته المحتملة، ووضع إمكانيات السلطة والمنظمة والقوى على اختلاف مسمياتها لإنجاح الإضراب، ووضع خطة وتشكيل خلية عمل لتوزيع الأدوار وتنظيم التحرك على جميع المستويات المحلية والعربية والدولية.
وهذا ممكن أن يحدث، خصوصًا إذا تصاعد التحرك الشعبي، وإذا بدأ المضربون ينقلون إلى المستشفيات، ولكن كلما كان التحرك الفاعل أبكر جنّبنا الأبطال الأسرى المضربين المعاناة الرهيبة التي يرزحون تحتها، فالإضراب ليس نزهة ولا تمرينًا رياضيًّا، وعلينا أن نستعد لمعركة قد تطول ويضطر فيها بعض المضربين إلى إيقاف إضرابهم ودخول غيرهم محلهم، لأن طاقة المضربين وصحتهم وأعمارهم ليست واحدة.