Menu

كيف يتبلور العدو أيدلوجيا

عقيدة المحاصر الصهيوني: عن عقدة الحصار وأيدلوجية الخوف

بوابة الهدف/ أحمد.م.جابر

عندما أقيمت "إسرائيل" على أنقاض الشعب الفلسطيني وعذابه، في عام 1948، دعت الدولة الناشئة جميع اليهود إلى "العودة" إلى الدولة اليهودية، لأنهم كما زعمت وما زالت تزعم لن يكونوا آمنين في أي مكان آخر، رغم أن الكثيرين جاؤوا إلى فلسطين المحتلة سعيا وراء الفرص الاقتصادية إلا أن التخويف والتحريض على الخوف وهندسة الوعي اليهودي بعناصر الحصار ورعب الابادة قد دفع بالمكثيرين إلى القدوم إلى فلسطين.

نعلم أن هذه العقلية الصهيونية ليست شيئا عارضا، لم تكن مجرد أداة تكتيكية، بل منهج جوهري، لتكديس القوة البشرية الملائمة، ووضعها في المكان المطلوب لتكون سلاحا وجيشا، في مواجهة الفلسطينيين والعرب.

لذلك فإن هذه العقلية لم تتغير على الإطلاق. نذكر جميعا كيف خرج بنيامين نتنياهو على وسائل الإعلام داعيا يهود فرنسا للقدوم إلى "إسرائيل" باعتبارها "ملاذا" عندما شن مسلحون هجمات في باريس في كانون الثاني / يناير 2015، قال نتنياهو في حينه: "نحن نقول لليهود، لإخواننا وأخواتنا، إسرائيل هي منزلك ومن كل يهودي. وقال نتانياهو إن إسرائيل تنتظرك بذراعين مفتوحين".

التخويف، وصناعة الخوف وتجذيره ودمجه في بوتقة الحصار ورهاب الإبادة تطور كثيرا في الممارسة الصهيونية وصار ليس مجرد منهج للحركة الصهيونية بل جزء لايتجزأ من العلاقة المركبة بين الدولة والمستوطنين اليهود في "إسرائيل". وقد تم استيعابها لدرجة أن "إسرائيل" كدولة وكأفراد في الدولة أصابهم العجز المطلق عن رؤية ما الذي يخيف الفلسطينيين حقا وأصبحوا عبيدا لمخاوفهم الذاتية ورهابهم الذاتي.

مم يخاف المستوطنون الصهاينة ودولتهم: من الديمغرافيا الفلسطينية وقد كتب جوناثان كوك: "نصف التلاميذ اليهود يعتقدون أن هؤلاء الفلسطينيين، واحد من كل خمسة من السكان، لا ينبغي السماح لهم بالتصويت في الانتخابات".

في الشهر الماضي  وصف وزير الحرب أفيغدور ليبرمان النواب العرب بأنهم"نازيون" مقترحا أن يلقوا مصيرا مشابها. وهذه الكلمة-الوصف ليست زلة لسان، بل أسلوب أيضا للتذكير بالماضي واثارة مخاوف اليهود من جديد وابقائها على نار حامية.

يخافون أيضا من اللغة العربية، يحاربون وجودها في كل مكان، وكان من الطبيعي أن تخسر مكانته كلغة رسمية في تشريع جديد، ينتمي أيضا إلى عقلية الغيتو، فقانون "الجنسية" الغرض منه منح اليهود وهم أن لهم دولة خاصة بهم، وهذا يتطلب أيضا تطهير هذه الدولة من أي شيء آخر، العرب ولغتهم.

يخافون من احياء ذكرى النكبة، لأنهم لايريدون مواجهة الحقيقة خارج الدائرة التي رسموها، لأن النكبة هي النقيض للـ"استقلال" الذي يحتفلون به، انها الدليل القطعي على تفاهة كل شعاراتهم وقصص"البطولة" في الحرب التي يتغنون بها كما يتغنى قاتل متسلسل بقصص ضحاياه.

فكيف إذا يمكن تفسير أن قطاعا واسعا من الإسرائيليين يتعاملون مع الاحتلال للضفة الغربية و القدس والجولان باعتباره "قضية أمنية أو سياسية، ولا علاقة له بالقضية الاقتصادية ـ الاجتماعية"، كما يشير تقرير جديد أصدره، في ذكرى النكسةً، مركز "أدفا ـ

في هذا السياق تخوض الصهيونية حربا ضروسا، للابقاء على حالة التعنيف والرعب المستمر للجيتو، عبر اختراع المزيد من التهديدات والأعداء، لم تكن صدفة حين رسم نتنياهو في الأمم المتحدة خطأ أحمر على رسم تمثيلي  لما قال إنه القنبلة الإيرانية، وإذا تجاوز الإيرانيون ذلك الخط في تقدمهم النووي فتلك ستكون نهاية "إسرائيل".

يصوغ نتنياهو الكلمات بعناية، جامعا بين طرفي نقيض التمسكن الوقح والعنجهية الفظة المتخفية برداء المهدد والخائف. وهكذا يستخدم السرد الصهيوني كل مافي خزانته الأسطورية لخدمة الأيدلوجيا التوسعية، التي تستخدم الخوف كمبرر للعدوان والحصار كدافع للتوسع، من نكتة المسادا الشهيرة التي بنيت على أوهام مؤرخ يهودي خائن لجماعته في الأصل يدعى يوسيفوس، إلى أساطير القوافل التي حاولت اجتياح القدس عام 1948 ثم احتلال القدس عام 1967، إلى تسميات الحملات والفرق وغيرها.  في سعي للاستفادة  من الدعم الدائم لليهود في "إسرائيل" وفي أماكن أخرى. واقناعهم أن بقاءهم يعتمد على اخضاع الفلسطينيين وأن اخضاع الفلسطينيين يتطلب الاستمرار في التسلح وتكديس السلاح، في حلقة مفرغة أصبحت العائق الأساسي أمام إدراكهم لخسارة قضيتهم وعبثية احتلالهم.

والسؤال الذي يطرحه دانيال بار طال أستاذ علم النفس السياسي "لماذا يبقى مواطنو بلد قوي جدا عسكريا خائون جدا عندما يتعلق الأمر بأمنهم؟ وهذا الشعور متأصل في تجربة الحياة في إسرائيل، ولا سيما حياة مواطنيها اليهود. ولتحقيق فهم أفضل لهذه الظاهرة، هناك حاجة إلى الدراسة، ولا سيما الاستخدامات المخادعة الناجمة عن انعدام الأمن من جانب السياسيين وغيرهم من القادة، وعن آثاره البعيدة المدى على المجتمع وعلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني".

وهو يجيب" إن المعتقدات المتعلقة بالأمن وانعدام الأمن ليست من خصائص الأفراد فحسب، وإنما أيضا من جانب الجماعات والمجتمعات والأمم. في مجتمع يعيش تحت تهديد دائم، غارق في صراع مستعصي عنيف، ويبدو أنه لا ينتهي أبدا - مثل ذلك بين إسرائيل والفلسطينيين - المعتقدات حول انعدام الأمن هي جزء لا يتجزأ من روح النزاع."

علينا طبعا ألا نأخذ كلامه كمسلمة، فنحن نبحث عن المجتمه الذي يعيش تحت تهديد دائم حسب زعمه فلانجده، نجد على العكس، "مجتمعا" مسلحا حتى الأسنان يستمر في تهديد جيرانه واحتلال الأرض الفلسطينية، وقمع الفلسطينيين وجعلهم هم يعيشون تحت تحديد دائم بهدف الاخضاع ودفعهم للاستسلام، ولكنه محق بالحديث عن الاستخدامات المخادعة لانعدام الأمن والتي هي فعليا توهيم انعدام الأمن واستخدام الوهم المزروع جماعيا في اطار أيدلوجي سياسي.

وما الذي ينتج عن وهم انعدام الأمن وتذويت الخوف فعليا، إنه يولد تطابقا حسب دانيال طال بين الاحتياج إلى الأمن وتزايد شعبية قادة نموذج "مستر الأمن". هنا ليس مهما أن يعرف المستوطن الصهيوني عدد طائرات الاف 35 التي يمتلكها سلاح الجو الصهيوني، أو عدد القنابل النووية في ديمونا، لأن الخوف يصبح عاملا ظليا، يظلل كل مناحي الحياة، ويجعلها مرتبطة بشدة بالعنجهية العدوانية الصارخة بأعلى صوتها خوفا من الإبادة.

ترتبط عقدة الهولوكوست وفرادة الضحية بوثوق بعقلية الحصار، في إطار هذا النوع من الفكر العدمي، ولتعزيز طروحاتها تسعى الفاشية إلى التمترس خلف أسيجة عالية من المحرمات، وهذا التمترس هو جزء من إرساء وضعية الحصار ومشاعره في الضمير الجمعي، سواء أخذ معنىً أمنياً (أسطورة العرب الذين يريدون رمي اليهود في البحر) أو تلفيقا لتعزيز شرعية معينة (الهولوكوست ومعاداة السامية) أو حضاريا (إسرائيل هي القلعة المتقدمة للحضارة الغربية في وجه الشرق البربري) وذلك ببساطة ما يأخذ تسمية (الإجماع القومي) في دولة مثل إسرائيل.

ينشأ الإجماع القومي ضمن آلية محددة، ويرى بعض الباحثين أن ضياع القيم الملهمة للحياة وسيادة الشك الدى جماعة قومية معينة يدفعها للاعتقاد أنها لايمكن تعويض ما فاتها إلا بادانة الآخر-الخصم-المختلف: العدو، فالعدو يخلق توحدا للجبهة السياسية الداخلية في مواجهة خطر العدو المهدد للوجود، وفي نفس الوقت تلجأ النخب الأيدلوجية والسياسية إلى اضفاء مزيد من المخاطر أو اختراعها لزعزعة الجبهة الداخلية واعادة هندسة مسارها تجاه القيم التي تحددها هذه النخب السياسية والأيدلوجية والعسكرية إلى تضخيم صورته لأنه لن يجدي الشحن الأيدلوجي والتخويفي إذا لم يكن العدو قويا جدا، ولنذكر تضخيم القدرات العسكرية العراقية عشية الغزو، مثلا، في نفس الوقت الذي كان الغرب والكيان الصهيوني يضخمون من القدرات العسكرية غير التقليدية ل سوريا والعراق مثلا كانت "إسرائيل" تواصل ملئ وتحديث ترسانتها الحربية، وتبالغ في ما تسميه التسلح الفلسطيني في غزة، تمهيدا لاجتياحها لاعادة الاعتبار للجيش الصهيوني المهزوم في لبنان في ذلك الوقت.

لقد كتب شاريت في يومياته لجوء المؤسسة السياسية –العسكرية في إسرائيل إلى خلق عقلية الحصار بين المستوطنين ورفد خرافة التهديد العربي بإبادتهم وبالتالي تبرر العنف والعدوان «كنت أتأمل في السلسلة الطويلة من الأحداث المفبركة والأعمال العدائية ضدنا التي اخترعناها والكثير من الصدامات التي افتعلناها، والتي كلفتنا الكثير من الدماء، وفي خروقات القانون الدولي التي قام بها رجالنا وكلها جلبت مصائب خطيرة، بالمحصلة حددت مجرى الأحداث كلها وأسهمت في خلق أزمة الأمن»هذا ما أدخل الاستيطانية الصهيونية في حلقة مفرغة من عقلية الحصار التي تغذي الدوران والعدوان الذي يعمق عقلية الحصار، ووصف موشيه دايان عقلية الحصار هذه بأنها «الحلف الحيوي لنا الذي يساعدنا على الاحتفاظ بدرجة عالية من التوتر بين سكان إسرائيل، كما داخل الجيش ومن أجل حفز الشباب للذهاب إلى النقب، علينا أن نصرح بأنه في خطر».

عقلية الحصار هذه تخلق ما يسميه جورج أورويل في روايته 1984 عناصر بنية ثقافة الخوف باعتبارها البنية المؤسسة على التفكير المزدوج وهي تقوم على أن تعرف وأن لا تعرف، أن تعي حقيقة صادقة كل الصدق، وترى بدلا منها كذبات موضوعة بعناية، أن يكون لديك في اللحظة نفسها وجهتي نظر متباينتين وأن تعتقد وتؤمن بكليهما وأن تستدم المنطق ضد المنطق وتنكر الفناء وادعاءه وتؤمن أن الديمقراطية غير ممكنة وفي نفس الوقت تدعي أنك حاميها.

لعل عقلية الحصار المذكورة تتلخص فيما قالته امرأة إسرائيلية لصحيفة نيويورك تايمز «حقا إننا محظوظون لوجود الحرب فهي تساعد شبابنا على الإقلاع عن إثارة المشاكل و الاضطرابات كما هي الحال في فرنسا وأمريكا». تتبدى الحرب كمهرب ملائم من المشاكل والأزمات التي يعاني منها المجتمع فهي تتيح حصانة غير مسبوقة لحفاظ هذا المجتمع على بقائه وتماسكه ويصبح مبررا أنه في الوقت الذي تحارب فيه الأمة من أجل بقائها فلا يحق لأحد أن يخرج عنها حتى لو كان مختلفا مع الذين بدأوا الحرب .

عقلية الحصار تؤمن تأكيد الشعور بالقلق والتوتر لتحقيق استمرارية الإحساس بالاضطهاد عند الأجيال اليهودية المتعاقبة وتكوين –بالتالي- الاستعداد لديها للعنف والاحتلال والتوسع على حساب العرب بحجة إنقاذ الأرض .

ولتعزيز عقلية الحصار تلجأ الفاشية الصهيونية إلى طرق عدة نكتفي بنموذجين واضحين في مجالي الجيش والإعلام.  فلتبرير تضخيم ميزانية الأمن عام 2003 مثلا إلى 43.33 مليار شيكل بزيادة مليارين عما كانت عليه عام 2002 ثمة في الجهاز الأمني من ادعى بأن وجود الدولة سيتعرض للخطر اذا ما نفذ تقليص آخر في ميزانية الأمن، وعندما تقرر وزارة المالية القطع من ميزانية الأمن لا تمر أيام حتى يبدأ جنرالات الجيش من مختلف الأفرع بالنواح والادعاء أن «الأمن سيتأذى وأننا على أبواب حرب» وتتمة الاسطوانة «سنقلص الأنشطة العسكرية اذا ما قلصتم الميزانية وسنتوقف عن التزود بأي عتاد جديد» أما الإعلام الصهيوني فمهمته حماية المجتمع من أي معرفة للسياق الذي ينتح المآسي الفلسطينية فلا يوجد ذكر للاحتلال والإهانات وعمليات الاغتيال والاعتقال الجماعي وهدم البيوت والمجاعة التي ولدت الهجمات "الانتحارية" وهكذا حين يكون العقل العام مغلقا بحذر شديد فانه ليس من الغرابة بمكان أن يتم قبول السياج دون شروط من قبل معظم الإسرائيليين لأنه له معادلة سحرية، هذا الجدار الذي يزيد الإحساس الهائل بالعزلة ويعزز عقلية الحصار التي غذت السياسات العدائية المتصلبة لجميع حكومات إسرائيل.

تلك المحرمات ترهنها الفاشية لصالحها بعد أن تجعل من نفسها الحارسة لها والمدافعة عنها ومن خلالها وباسمها تفرض سلطتها وتمارسها، وقد لا تكتفي بالموروث من المحرمات، بل تبتكر في الغالب محرمات جديدة أخرى مضافة وخاصة بها في لحظة تاريخية معينة وتجعل منها بمرور الوقت وبالاستثمار قوة قمع ورعب وسيطرة.