Menu

غيفارا.. لم يُقتل بل اغتيل

7892-1

أحمد بدير - فيسبوك

في أبريل/ نيسان عام 1965 اختفى "شي غيفارا" من كوبا.

ضاع في الزحام وترك وراءه زوجته وأطفاله الثلاثة وصديقه كاسترو ووظيفة مدير بنك هافانا.. ورسالة وداع، وقد نقّب عنه الصحفيون في كل مكان، وطارده المخبرون والجواسيس وعملاء مركز المخابرات الأمريكي ثم أعلنوا أنه مات في حادث سيارة.

وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام وصلت أول رسالة من الرجل الميت إلى صديقه فيديل كاسترو، وكانت خطاب استقالته مكتوباً بلغة شعرية عميقة الإيقاع لا يخطئها السمع.. وكان غيفارا يقول:

(أنا أدّيت واجبي تجاه ثورة كوبا، وبات عليّ أن أودعك الآن وداع الرفاق والشعب الذي اعتبرته على الدوام شعبي الأصلي، وأعلن هنا رسمياً أنني أتنازل عن مهامي الحزبية ووظيفتي كوزير ورتبتي العسكرية.. وأتنازل أيضاً عن جنسيتي الكوبية، فثمة أمم أخرى تدعوني لأن أحمل سلامي في خدمتها.. وقد حان وقت فراقنا).

وقرأ كاسترو هذه الرسالة على الشعب. ولكن أحداً لم يصدقه.. وقد اتفق العارفون ببواطن الأمور في صحف العالم على أن الرسالة مزوَّرة، وأن كاسترو اغتال صديقه في هافانا وطفق يبني جثته من الأساطير.

رجل واحد صدَّق ما قاله كاسترو.. رجل أصلع مشلول اليد يحمل جواز سفر إسباني وحقيبة جلدية مليئة بالجرائد القديمة وينتظر دوره لعبور فحص الجوازات في مطار بوليفيا الدولي.. ويصلّي.

هذا الرجل كان اسمه "شي غيفارا". وكان يدخل بوليفيا بجواز سفر مزور لكي يكتب فوق تلالها القاحلة أسطورة حقيقية نادرة المثال في تاريخ أمريكا اللاتينية بأسرها.. وكان يعرف على وجه الضبط أن كاسترو لم يغتله في هافانا.

ولكنه لم يهتم بتبرئة صديقه إلا في شهر أبريل/ نيسان هذا العام 1967 عندما أرسل بيانه الشهير إلى كوبا معلناً للعالم (أن الحرب المقدسة قد بدأت في بوليفيا.. وأنها ستكبر وتنمو لكي تصبح ثورة عالمية في بنادق الغوريلا والرجال الشجعان اللذين لن يكفوا عن بذل تضحياتهم حتى يغسلوا العالم من فضائحه الإمبريالية المنتنة).

وكان غيفارا يقف إذ ذاك على التلال المحاذية لأدغال (ريو جراندي) وراء ضفة نهر (ابندن) الشرقية محملاً بالخطط الجريئة والأحلام.. كان يريد أن يعيد ثورة كوبا في بوليفيا، ويحتل باقي القارة ويطرد الولايات المتحدة من المنطقة، ويجمع دول أمريكا اللاتينية في اتحاد شيوعي واحد، ويصلح حال العالم يقدر الإمكان، ولكنه لم يكن يملك إلى جانبه سوى حفنه من محاربي الغوريلا وعشر بنادق قديمة وصندوقين من القنابل اليدوية.

أما باقي العالم فقد كان يقف ضده:

روسيا تعتبره مجرد خارج عن القانون وتدعوه (الطبيب نصف الشاعر البطيء الفهم)، ودول أمريكا اللاتينية تعتبره سرطاناً خبيثاً لا بد من قتله قبل أن يصل إلى القلب، والولايات المتحدة تبحث عنه بالطائرات، وبوليفيا تطارده بنصف جيشها، وشعب بوليفيا نفسه يلهث في طلب رأسه الذي أعلنت الدولة أنها ستشتريه بمبلغ خمسين ألف بيزا.

وطوال الشهور الستة التالية من العام 1967، رأى غيفارا رأي العين أن المرء لا يستطيع أن يحقق أحلامه بالنوايا الطيبة وحدها.. وقد أرهقته المطاردة وفقد معظم رجاله في غارات طائرات الهليوكبتر، وأتعبه الجري أمام المقاتلين الهنود اللذين تم تدريبهم في الولايات المتحدة خاصةً لاصطياده، وضاق عالمه حتى أصبح مجرد تلة صغيرة عند حافة الأدغال في قرية (ميوبامبا) محاطة بالصيادين.

ولكن غيفارا لم يغادر بوليفيا.. ولم يكف عن القتال والتبشير بالثورة وشحن المواطنين بأفكاره الشديدة الوضوح والحدة حتى فاجأته إحدى فرق الجيش البوليفي بقيادة ضابط اسمه (أريني برادو) فوق تلته الصغيرة عن الساعة الواحدة ظهراً من اليوم التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول هذا العام.

ووقف غيفارا في وسط التلة وطفق يدافع عن عالمه بأظافره.. وقد أصيب أول الأمر برصاصة في ساقه اليسرى ثم أصيب بشظية قنبلة مزقت ساقيه معاً، وركع على الأرض وطفق يزحف تحت حماية بنادق أصدقائه ملتجئاً إلى صخرة منخفضة عند حافة الدغل، وقد لزم مكانه مشاركاً في المعركة حتى وضع (أريني برادو) مسدسه في ظهره عند الساعة الخامسة والدقيقة الثانية والعشرين من ذلك اليوم المدهش.

ولم يضع (برادو) مسدسه في ظهر رجل ميت، ولم يقل قط إنه قتل غيفارا في المعركة، بل إن طبيب القرية في منطقة –هيجورس- أعلن بنفسه أن غيفارا كان ما يزال حياً عندما وصل المستشفى في المساء. وأنه تحدث معه، وسأله عن فصيلة دمه وسمع منه قصة المعركة كاملة.

ثم أكد الطبيب أنه كان مصاباً بجراح غائرة في ساقيه وكتفه اليسرى، وفي اليوم التالي مات غيفارا، وعرضت حكومة بوليفيا جثته للجمهور، وكانت تلك الجثة تحمل جرحاً جديداً في منطقة القلب.. جرح لم يكن هناك عندما وصل غيفارا إلى المستشفى.

فماذا حدث في تلك الليلة؟

هذا هو السؤال الذي قرر الصحفي الإيطالي (فرانكو بيرني) أن يجد إجابته.. وقد وصل إلى المستشفى (هيجورس) قبل أن تتمكن السلطات من إيقافه وتحدث مع جندي اسمه (بينيتو جيمنز) كان قد جُرح في المعركة وقضى الليل في نفس الغرفة مع أرنست شي غيفارا.

وقال الجندي بالحرف: (خلال الليل جاء الميجور –زيلتك- قائد الفرقة الثالثة وتحدث مع غيفارا. كان يجلس بجانب النقالة فوق مقعد منخفض وقد تناقشا طويلاً معاً، ولم أميِّز شيئاً مما قاله غيفارا فقد كان صوته واهناً وخافتاً، أما الميجور فقد ظل يتحدث بصوت عالٍ قائلاً للأسير أنه خارج على القانون وإنه قتل الليوتنانت صديق الميجور الذي أحبه مثل ولده. ثم تحدثا عن أمريكا وتشاجرا ساعتين كاملتين.. ويبدو أن الميجور كان يريد أن يعرف شيئاً ما وأن غيفارا يرفض أن يجيبه وفجأة انحنى غيفارا إلى الأمام ونظر الميجور في وجهه، ونهض الميجور وغادر الغرفة صامتاً، وبعد ذلك حملوا غيفارا إلى الخارج).

هنا سأل الصحفي الإيطالي الجندي (بينيتو) عما إذا كان قد سمع صوت الطلق الناري، فقال الجندي بتردد: (لا أدري. إن المرء يسمع الطلقات النارية في هيجورس طوال الليل، فالحراس مصابون بالذعر، والمنطقة حافلة بالخارجين على القانون ثم إنني كنت متعباً جداً.. وقد نمت على الفور. هل تفهمني يا سيدي؟). وحمل الصحفي أقوال الجندي إلى (يوكين زنيتو) قائد اللواء الثامن واكتشف أن القائد حاول أن يقلع خلال الليل لكي يتسلم غيفارا من الميجور (زيلنك) ولكن الميجور المذكور ألّح في تأجيل ذلك إلى الصباح بحجة أن الأحوال الجوية في (هيجورس) لا تسمح بهبوط طائرة الهيلوكبتر التي يستقلها قائد اللواء.

في الصباح كان غيفارا قد مات.

مات متأثراً بجرح لم يصب به في المعركة، ولم يره الطبيب الذي أشرف على علاجه، ولم يره أحد على الإطلاق إلا بعد أربع عشرة ساعة من وصول الجريح إلى المستشفى. وقد أحرقت حكومة بوليفيا الجثة قبل أن تسمح للصحفي الإيطالي بمغادرة البلاد.

وضاعت معالم الحادثة إلى الأبد، ولكن العالم بأسره أصبح يعرف الآن أن الجيش البوليفي لم يقتل شي غيفارا بل أقام له نصباً تذكارياً بالمجان.

أعطاه منحة الأسطورة، وأعطاه الصليب الذي سوف يحمل مسيح الثورة إلى كل قلب في أمريكا اللاتينية. ولم يكن شي غيفارا يريد شيئاً آخر عندما جاء إلى هناك.

-----

أعدت طباعته من أرشيف الصادق النيهوم.