Menu

دلالاتٌ ومخاطر وتساؤلات في قرار «ترامب»

ترامب ونتنياهو

د. سليمان عبد المنعم

يوماً ما سيتوقف التاريخ عند لحظة إعلان الرئيس الأمريكي «ترامب» قراره الخطير الطائش بالاعتراف ب القدس عاصمة لإسرائيل الموصوفة حتى اللحظة في قرارات الأمم المتحدة بأنها «قوة احتلال».

الدلالات

أول دلالة حقيقية وراء القرار إياه أصبح يدركها العالم كله وأولهم الأمريكيون أنفسهم وهى الأزمات القانونية التي تحاصر «ترامب» و «نتنياهو» ».في ظل هذه الأزمات وبسببها بدا هذا القرار هروباً إلى الأمام ومحاولة لتشتيت انتباه الرأي العام في أمريكا وإسرائيل عن القضايا التي تلاحق الرجلين. «ترامب» تراوده كوابيس مساءلته السياسية على الأقل بعد تعاون «مايكل فلين» مستشاره السابق للأمن القومي مع جهات التحقيق لكشف ما لديه بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية السابقة، وهو ما ينذر ببدء العد التنازلي لمساءلته. أما «نتنياهو» فتحاصره تهم الفساد. ثاني الدلالات/ الحقائق تتعلق بالواقع العربي الذى لم يصل من قبل إلى هذا الدرك من الضعف والتشتت في تاريخ الصراع الذى يبدو أنه لم يعد صراعاً مع إسرائيل. ما كان لترامب ونتنياهو أن يهدرا مثل هذه الفرصة السانحة فبدت خطوتهما تحصيلاً لحاصل واكتشافاً لكشف الاستهانة بالموقف العربي. ربما لا تخلو هذه الدلالات السلبية والحقائق المحبطة من قوى كامنة مجهولة لم تقل كلمتها بعد. لأن أسوأ ما تخشاه إسرائيل وأمريكا هو رد فعل الشعوب لا الحكومات العربية إذا ما تقطعت فجأة حبال اللامبالاة والخوف والمعاناة المعيشية التي أوثقت إرادتها وكتمت طاقة غضبها. أما داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة فالاحتمالات كلها تبدو مفتوحة على مصراعيها ليصبح احتمال الانتفاضة الثالثة أمراً غير مستبعد. أفصح «ترامب» علناً في حفلة إعلان قراره أنه يتوقع احتجاجاً سرعان ما يزول، ما لم يدركه «ترامب» جيداً هو أن قرار نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل لن يغيّر من واقع القدس على الأرض شيئاً.  لن تُرفع القدس من على الخريطة.. ولن تُهدم طوبة من أرض القدس الشرقية.. ولن تزول حقائق الجغرافيا..

المخاطر

مخاطر القرار إياه عديدة ومخيفة بما يقترن بها من نتائج وتبعات وكوارث محتملة. لم تمض دقائق على الإعلان إلا وانتقده وتبرأ منه رؤساء دول وحكومات والأمين العام للأمم المتحدة. هذا يعنى أن الدول الحليفة لأمريكا نفسها تسرع بالابتعاد عن دائرة النار التي سيتسبب قرار «ترامب» في إشعالها مما يُعرّض أمريكا لأن تبقى وحدها المسؤولة والمستهدفة من كل قوى العنف والتطرف في المنطقة. قدّم الرئيس الأمريكي مبررين متهافتين لإعلان قراره الطائش غير المدروس هما تحقيق المصالح الأمريكية ودعم السلام العالمي، وهما مبرران نموذجان للاستخفاف في معالجة قضايا دولية معقدة وملتهبة. هنا يبدو إصرار «ترامب» على إعلان قراره الأخرق من قبيل تهديد السلم والأمن الدوليين بالمفهوم القانوني الدقيق وبلا أي مبالغة سياسية. فإذا وضعنا في جانب أول قراره بإعلان القدس كل القدس عاصمة لإسرائيل بلا سند تاريخي أو سياسي أو قانوني، ووضعنا في جانب ثان اعتراض كثير من الإسرائيليين أنفسهم المفترض أنهم أصحاب المصلحة على الأقل من منظور التوقيت، وتفنيده بأشد العبارات والحجج من قبل سياسي إسرائيلي مثل «زمارك لوفيفر» المتحدث باسم جماعة السلام الآن، ووضعنا في جانب ثالث أكثر من مائة قرار دولي يدين محاولات إسرائيل لتغيير وضع القدس، ووضعنا في جانب رابع كل ردود الفعل (الرسمية) المعترضة والمندّدة لزعماء الدول الحليفة لأمريكا مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا واستراليا فإن الحاصل القانوني لهذه الوقائع والوثائق، يؤكد أن ما صدر عن «ترامب» عمل يرقى إلى حد تهديد السلم والأمن الدوليين. أما القول إن القرار يحقق المصالح الأمريكية فهو زعم بلا مضمون تدحضه تصريحات رسمية لكبار المسئولين في العالم بأن القرار سيشجع قوى التطرف والعنف في المنطقة من الجانبين ليعيش العالم حقبة جديدة ومخيفة ومجهولة يرتع فيها الإرهاب ويخرج من كل فج عميق، وستمارس اسرائيل نفسها إرهاب الدولة بموجات مماثلة أو أشد.

التساؤلات

لعلّ أبرز تساؤلات اللحظة الراهنة يتعلق بأثر القرار إياه على حل الدولتين وثانيهما ينصب على مدى شرعية القرار لمخالفته الشرعية الدولية وأحكام القانون الدولي؟ عن التساؤل الأول فهو يعنى عملياً انتهاء سيناريو حل الدولتين وهنا وجه الخطورة في المسألة، زعم «ترامب» كذباً بأن حل الدولتين مرهون بمفاوضات الطرفين حال قبولهما وهو مدرك وموقن برفض إسرائيل له. وعن مدى شرعية قرار «ترامب» على ضوء مخالفته لكل قرارات الشرعية الدولية المتراكمة عبر سبعين عاماً والتي لم تتوقف عن إدانة إسرائيل في محاولاتها الرامية لتغيير وضع القدس، وهى قرارات لم تكف عن وصف إسرائيل بقوة احتلال لا يحق لها بحكم القانون الدولي اتخاذ أي تصرف انفرادي يغيّر من الوضع القانوني للقدس. لدى الأمم المتحدة منذ 1947 حتى 2017 نحو 185 قراراً صادراً عن مختلف أجهزتها تمثل بكل أدبيات الصيغ المختلفة المتعارف عليها إدانة لإسرائيل تتضمن ذكر «القدس» صراحة. من بين هذه القرارات صدر عن مجلس الأمن وحده 26 قراراً يدعو إلى عدم شرعية تغيير أوضاع مدينة القدس، ومنها قرارات أممية تؤكد أن قرارات إسرائيل بفرض قوانينها على الأرض العربية المحتلة بما فيها القدس أمر ملغى وباطل، وعلى عدم قانونية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس الشرقية بخلاف قرارات اليونسكو، التي طالما أكدت عدم شرعية المساس بمواقع التراث الفلسطيني في القدس. التساؤل الآن هو عن مآلات قرار الرئيس الأمريكي في ظل كل هذه القرارات التي تمثل ما يطلق عليه الشرعية الدولية،. هل يُرتب هذا الوضع مسئولية قانونية دولية ما فى مواجهة الحكومة الأمريكية؟ نعم صدر أكثر من مائة قرار دولي ضد إسرائيل ولصالح الحقوق التاريخية للفلسطينيين في القدس لكن لنعترف أن القانون الدولي اليوم والشرعية الدولية وحدهما لا يضفيان بذاتهما حماية للطرف المستحق ولا يصنع عدالة دولية ما لم توجد قوة سياسية وحقائق على الأرض ووسائل ضغط وإجبار، وهنا تكمن أزمة الشرعية الدولية. تتغيّر الأحوال فقط، فيما لو اقترنت الشرعية الدولية بقوة حاصلها إرادات قوى كبرى، وأدوار فاعلة ومؤثرة لقوى السلام العالمي والمؤسسات الحقوقية الدولية غير الحكومية، وموقف رأى عام دولي واسع. حين تتضافر هذه المعطيات الثلاثة يمكن إجهاض القرار «الترامبوي» بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل (أسقطت عمداً أدوار القوى العربية). هنا، وهنا فقط يمكن للشرعية الدولية أن تفرض منطقها وعدالتها.