Menu

مصير الكيانات العربية

عبد الإله بلقزيز

وقائع التفكك والتفتت، التي تصيب قسماً كبيراً من المجتمعات العربية، منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن، هي ثمرة انفراط الرابطة الوطنية الجامعة، وتعرضها للتمزيق بعملية مزدوجة تداخل فيها فعل الهندسة النيوكولونيالية الصهيونية، وفعل الأداء التدميري لقوى داخلية ائتلفت من مجموعات ميليشياوية، غُذيت من خارج وتلقت الدعم اللوجستي منه، ومن عصائب أهلية هشة الاندماج، ومنفلتة الغرائز الأهلية، وفرت للمجموعات المسلحة تلك حواضنها الاجتماعية.

ان استراتيجية التفكيك تلك كما في كل استراتيجية تفكيك عبرت معبراً اضطرارياً لإحرازها النجاح، هو إضعاف الدولة المركزية، بضرب مراكز قوتها: الأمنية والعسكرية والاقتصادية، واستنزاف قواها وشل قدرتها على أداء وظائفها في حفظ السيادة، ونشر الأمن، وإدارة الشؤون العامة. وما من تفكيك أو تفتيت يلقى نجاحاً، في أي بلد من بلدان العالم، من دون إصابة الدولة في مقتل؛ فالدولة مبدأ التنظيم الاجتماعي، وإسمنت الاجتماع السياسي، وراعية الروابط الوطنية الجامعة، وأداة الصهر والدمج، والكيان الذي يولد ولاء جامعاً على حساب الولاءات العصبوية الفرعية هو نفسه الشعور الجمعي المشترك بالانتماء إلى الشعب الواحد والوطن الواحد. لذلك يكون إسقاط الدولة في كل مشروع للتفكيك إسقاطاً للمجتمع والوطن وتمزيقاً لهما.

يختلف النظر إلى سيناريو التفكيك الجاري بين القوى السياسية والاجتماعية والفكرية المتضررة منه، بين تلك التي تتمسك بالفكرة الوطنية والرابطة الوطنية، وتنظر إلى الكيان الوطني بوصفه كياناً نهائياً، وتلك التي تتمسك بالفكرة العروبية الوحدوية، وتعترف بالكيانات الوطنية ولكنها تدعو إلى الوحدة بينها. ولكن، بينما يصاب الأولون بالذهول وهم يرون الكيان الوطني يتشظى ويتذرر، وقد اعتقدوا طويلاً بأن مصدر مشروعيته هو الشعب الموحد المنصهر المختلف عن غيره من الشعوب التي تقاسمه الانتماء العربي، يكاد الأخيرون (الوحدويون) أن يسلموا في قرارة نفوسهم أن ما يشاهدونه من تفكيك لكيان الدولة الوطنية ليس أكثر من طور جديد من أطوار التجزئة الكولونيالية، التي بدأت فصولها منذ مئة عام، هو طور التجزئة ال قطر ية؛ أي تجزئة القطر نفسه، وتقسيم الشعب الواحد بعد تقسيم الأمة.

ولقد يوجد من يعتقد أن المسار التفكيكي الامبريالي الصهيوني، الذي بدأ بتقسيم الأمة إلى شعوب، واستؤنف بتقسيم الشعب إلى طوائف وقبائل، سينتهي غداً إن هو نجح في الاستمرار إلى تقسيم الطائفة إلى مذاهب والقبيلة إلى عشائر، و هذا هو الأخطر إقامة دويلات أو كانتونات على حدود تلك العصبيات! إنه السيناريو المثالي الذي تسعى دويلة «إسرائيل» إلى تحقيقه، بما هو السبيل الأمثل إلى شرعنة وجودها كدولة طائفية من جهة، وإلى إحاطة وجودها ذاك بضمان البقاء قوية في محيط من الدويلات المكروسكوبية من جهة ثانية! غير أن الوحدويين لا يجدون في انفراط كيان الدولة الوطنية ما يدعوهم إلى التشفي من خصومهم المتمسكين بها، والمعادين للوحدة؛ إذ ليس في انفراط الكيانات القطرية ما يصب في رصيدهم، بل أكثر من ذلك، إنه يرفع من معدل المعاناة، معاناة التجزئة، ويجعل قضية التوحيد القومي أصعب، وخاصة لدى الوحدويين الذين انتهوا إلى القول إن الدولة الوطنية ليست لغماً للوحدة العربية، بل مادة منها تصنع تلك الوحدة.

وغني عن البيان أن وجه الصعوبة المضاعفة في المسألة ليس في أن التجزئة القطرية ستولد كيانات جديدة، وإنما في أن الشروخ التي أصابت الرابطة الوطنية في هذه الحروب والفتن الأهلية والانفجار الهائل للهويات الفرعية، الذي أخرجته تلك الفتن إلى السطح، سوف يصعب رأبها، وسيضع ذلك أكبر العقبات أمام أي مشروع توحيدي في المستقبل.

وعليه، لا مناص من القول إن التفكيك الجاري اليوم، يصيب في مقتل كلاً من دعاة الفكرة الوطنية والفكرة الوحدوية، ويفرض عليهما معاً نظرة جديدة إلى مسألتي التوحيد الوطني والقومي، ورؤية جديدة إلى كيفيات إنجازهما.

إن المطلوب اليوم، وقف هذه الحروب التي تمزق الأوطان، وإنجاز التسويات السياسية الضرورية التي تحمي الأوطان من التقسيم والتفتت، إما باسم الانفصال و«حق تقرير المصير» أو باسم الفدْرلة (الفئوية)، وتصون وحدتها.

وليس خافياً أن إلحاق الهزيمة بقوى الحرب تلك، من ميليشيات وجماعات إرهابية، لا يكفي وحده لصون وحدة الدولة والوطن وبسط الاستقرار والأمن والسلم، وإنما يحتاج في ذلك إلى إعادة بناء المجال السياسي بناء جديداً، يوفر المشاركة السياسية الواسعة، والتمثيل الصحيح للقوى الاجتماعية، ويوفر الضمانات الدستورية والقانونية للحريات وحقوق الإنسان، ويؤمن الحقوق الاجتماعية للقوى العاملة والسواد الأعظم من الفئات المهمشة.