Menu

الزعتر الأخير والذاكرة الفلسطينية

غلاف رواية الزعتر الأخير

صحيفة الوطن _ كاظم الموسوي

لغة السرد تنتقل بين وضوح الصورة وهذيان الوصف ودوران المضمون، بشكل حلزوني، أي انطلاق ثم عودة إلى الرئيس في السرد، أو الهدف منها، وثمة استرجاع لحكايات أو مشاهد من ما رواه في روايته السابقة عن هذه، وتكرار المعنى له دلالته ويضيف رغم ذلك مأساوية للتغريبة الفلسطينية، أينما حل الفلسطيني أو هجر أو ارتحل.

وضع الكاتب الكولومبي العالمي جابرييل جارثيا ماركيز، في إصداره سيرته الذاتية، تحت عنوان، أن تعيش لتحكي، كلمة أولى قبل التقديم: “الحياة ليست ما عاشها الواحد منا، بل ما يتذكرها، وكيف يتذكرها، ليحكيها..”.

هذه المقولة الماركيزية يستعيدها الروائي الفلسطيني العربي مروان عبدالعال في روايته الجديدة، الزعتر الأخير، (295 ص، دار الفارابي، بيروت،2017) ويأخذ من أسلوبه الروائي سبيله في سردها، ويشير إليه في ثناياها. حيث يذكر أنه “لاحظت أن أسلوب ماركيز شبيه بأسلوب كافكا، وأنه لا يربط الحوادث لتسلسل الصفحات، بل إنه قد يربط أول القصة بآخرها أو منتصفها دون التقيد لتسلسل الزمان”، (ص 286) وهو ما أخذ به في هذه الرواية أو طوره عن ما تم له في بناء رواياته الأخيرة. وسبق أن أصدر العديد من النصوص الأدبية والسياسية، من بينها سبع روايات: سفر أيوب، دار كنعان، دمشق 2002، وعن دار الفارابي، بيروت: زهرة الطين 2006، حاسة هاربة 2008، وجفرا لغاية في نفسها 2010، وإيفان الفلسطيني2011، وشيرديل الثاني 2013. وستون مليون زهرة، 2016 . وأغلبها يدور في دائرة المقولة، فماذا يفعل الفلسطيني ذو الموهبة الأدبية؟ وهو كاتب وفنان وناشط سياسي وقائد فلسطيني ملتزم. استفاد من كل هذه الصفات أو الألقاب ليحكي قصة شعبه وتاريخ قضيته و”توثيق وأرشفة” مسيرة التحرر الوطني للكفاح الفلسطيني…فجاءت “الزعتر الأخير” عنوانا متمما لمراحل عذاب الشعب الفلسطيني في وطنه أو ملاجئه ومنافيه البعيدة عنه.

الرواية في ثلاثة فصول، وكل فصل يضم عشرة مشاهد أو سرديات متلاحقة من الطفولة في وادي الحنداج في فلسطين إلى أو عبر طريق الآلام الذي انتهى عند مخيم سمي بتل الزعتر. وفيها يروي القاص رؤيته لما حصل واقعيا ولكن بعين روائي، وبسرد فني إبداعي تميزت به نصوصه الأخيرة. فهو كما قال في مقابلة صحفية معه: “أنا لا أتوخَّى كتابة أو توثيق التاريخ، فكتابتي لا تتوخّى ذلك، بقدر ما هي محاولة لرؤية التاريخ مِن زاوية أخرى. فدائما أنّ الحياة إذا ما أردت أن تفهمها بطريقة أفضل، حوِّلها إلى قصّة. والحياة الفلسطينية هي حياة مليئة، بهذه الحكايات، (التي نكتبها) بل أستطيع أن أقول، إن رواياتي هي سرديّة متواصلة وخصبة، لأن المنفى نفسه الذي عشته أنا، قد شكّلني، سواء أكان من الناحية الأدبية أو من الناحية النضالية. لذلك كان كتاب “الزّعتر الأخير”، هو عبارة عن حلقة في سلسلة روائية”. وهذه الرواية اعتمدت بشكل رئيس على الذاكرة، يفتح أبوابها وامتحانها وتتابع فائضها الفلسطيني، “ذاكرة جارحة وحادة كمثل السيف تلامس وريد العنق” (ص13)، ويبحر في عمق الجراح والمحنة والصراعات المتعددة، الداخلية والخارجية، بين أبناء الشعب وجيرانه، بين الماعز زعتر وأهله والتيوس البيزنطية ومحرضيهم، في دوامة حروب عبثية تخدم مشاريع صهيو ـ غربية وتستهدف تدمير الشعوب والآمال والأوطان، وقتل الإنسان على هويته وطريقة تلفظه لمفردة عامة.

لغة السرد تنتقل بين وضوح الصورة وهذيان الوصف ودوران المضمون، بشكل حلزوني، أي انطلاق ثم عودة إلى الرئيس في السرد، أو الهدف منها، وثمة استرجاع لحكايات أو مشاهد من ما رواه في روايته السابقة عن هذه، وتكرار المعنى له دلالته ويضيف رغم ذلك مأساوية للتغريبة الفلسطينية، أينما حل الفلسطيني أو هجر أو ارتحل. ولا تخفى مفردة الذاكرة، اسما وفعلا، من الدوران في كل سطور الرواية، بل وتعبر بنفسها أو بما أراد لها الروائي أن تستذكر وتذكّر وترى ما حصل وما سيحصل لأبطال الرواية ومعاناتهم الواقعية والفنية. وحيث يتماهى البطل مع السارد مع الماعز، فهو البطل الرئيسي في الرواية كما هو زعتر الماعز، بل هو زعتر أحيانا والعكس بالعكس، زعتر يصبح هو، الشخصية المركزية، السارد للرواية، المصاب “بالذاكرة المفرطة التي منحته قدرة هائلة على الاستذكار، وأمدته بطاقة قوية تجعل الشخص يتذكر كل تفاصيل حياته بشكل فوتوغرافي، يستعيد تفاصيلها مدى الحياة، أحيانا يؤلمه بعضها، ولكنه وقع في سرد لا يتوقف، لسائر الأحداث اليومية التي مرت بحياته وبمنتهى الدقة”، ويسير بموازاة متقابلة لنهايات مفتوحة لم تكتمل صورتها بعد. فزعتر اسم للماعز، والبطل أو السارد، واسم التل، المخيم، وما حدث فيه أو محنته أو الحبل السري في الرواية كلها، انتهاء باختياره عنوانا أخيرا، وإهداء الرواية لكل من يحمل رائحته.

يختصر الروائي ويكتب “فلسفتي هي زعتر الآخر الذي تعبت ولم أجده أمامي، وظل متخفيا في نفسي تحت ثيابي وخلف تفكيري وبين أروقة دماغي.. لكني حين سقط الزعتر الأخير أدركت.. أن ما في ذاكرتي هو زعتر الآخر الذي هو الأنا بكل ما فيها من إنسانية”(ص(79 وهو إطار السرد وحكايات الشخصيات المتفاعلة في مخيلته والمنعكسة في مشاهد الرواية، والمتواصلة بين الحرمان والاضطهاد والرحيل، والهجرة والمخيم والقتل، والحب والعشق والعمل والصداقات المتنوعة.

تظهر قدرة الكاتب واضحة في لغة الرواية ورصد تطورات تجربته المتعددة الخلفيات الثقافية والسياسية وعيشه اليومي في الهموم الأساسية لشعبه، داخل فلسطين المحتلة أو في مخيمات الجوار المستلبة، وهو من (مواليد مخيم نهر البارد، شمال لبنان عام 1957) مما أضاف لرواية الزعتر الأخير نكهة إبداعية، في المفردات والمشاهد والمعاناة والآلام حتى في أبسط الصور الإنسانية أو الطبيعية في أي بلد ولأي إنسان. وهو يسجل يوميات قتل زعتر في مخيمه، أو في اختفائه عنه، يرصد ما يراه أمامه، من رصاص ودم وحواجز وأكداس جثث وحرق ومنع وكره وظلم، وحيوات تتبادل لعبة الموت والحياة في رقعة مكانية وزمان محدد، يقدم فيه خيوط القضية لتأريخ الأحداث والاعتبار منها، لتبقى في الذاكرة وكي لا تنسى أو تهمل في الوعي اليومي أو الجمعي.

أمام وقائع المآسي والصراعات الوطنية والطبقية يروي الكاتب مشاهد قاسية من العنف والدمار، موثقا فيها ما عاشه أو شاهده أو قرأه ويلونه بسرد ما كان وما حدث، مجازر وموت وحب وغزل وعشق وخرافات وسحر وأمل بتغيير المشهد والبحث عن رائحة الزعتر وأهله وأفق مفتوح. وليرسم في “الزعتر الأخير” خطى من الذاكرة الفلسطينية، أو هو كما قال في المقابلة معه وبوعي واضح لما يكتب وينشر: إن هذا الأدب بذاته، هو “عِلْمُ جمال المقاومة”، لأن أدب المقاومة، لا يجب أن يكون تعبويا، أو منشورا سياسيا، وحسب بل هو يعبّر عن جوهر الإنسان، ونزعته للتحدي والبقاء والتحرّر والحرية. لذلك وكما قال غسان كنفاني : “الثقافة هي الأرض الخصبة التي تنبتُ فيها المقاومة”.