Menu

رحلوا لكنهم ما زالوا في الذاكراة

حرب.jpg

ترجمة  ميرنا الرشيد

كان ملقي في الرابعة من عمره، عندما انضم والده إلى ميدان القتال ما تزال ذاكرة ملقي تحتفظ بتفاصيل ذلك اليوم، حين قرر والده ارتداء البزة العسكرية، رغم وضعه الصحي الذي لم يكن يسمح له بذلك.  لطالما سمع من أشقائه الذين يكبرونه سناً حكايات عن والده، فقد كان أول شخص يقتني مذياعاً في القرية.

في العام 1967، يقرر محمود سليمان والد ملقي، أن يكون إلى جانب رفاقه المقاتلين، في حرب الأيام الستة. منذ ذلك الحين، وبعد مرور واحد وخمسين عاماً، لم يعد محمود بعد، رغم أنه وعد أولاده بذلك.

مصير مجهول

في الخامس من حزيران عام 1967، ولما كانت الحرب بين العرب والكيان الإسرائيلي على وشك الاندلاع، أوعزت الجيوش العربية، للفتية والرجال، الانضمام إلى القطع والمواقع العسكرية.

محمود البالغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً آنذاك، العامل في شركة لتحميل البضائع، لبى النداء فوراً. فانضم إلى الجيش الأردني، الذي كانت حكومته تشرف على قطاع الضفة الغربية منذ العام 1948.  يخبرنا ملقي أن والده كان جليس المنزل، عندما سمع نداء النفير العام، ذلك أن معصمه كان قد كُسِر أثناء العمل.وعلى الرغم من محاولات العائلة منع محمود من مغادرة المنزل نظراً لوضعه الصحي، بيد أنه أصر على ذلك. فَهَمّ يرتدي اللباس العسكري، ودّع عائلته، ورحل.

وكما هو حال آلاف العائلات الفلسطينية خلال فترة الحرب، نزحت زوجة محمود وأولاده الستة من قرية تل عور التابعة لرام الله إلى الأردن. وحالما أُعلِنت "هزيمة العرب"، وازداد التوسع الإسرائيلي باتجاه قطاع غزة والضفة الغربية وشرق القدس وجزيرة سيناء ومرتفعات الجولان السورية، بدأت العائلة رحلة البحث المضنية عن محمود.

... بعد مضي أشهر، لم يستطع أحد أن يؤكد لهم فيما إذا كان محمود ميتاً أم أنه لا يزال على قيد الحياة. فيما بعد أعلن الجيش الأردني أن محمود استُشهد في الحرب، سلم العائلة شهادة وفاته، على الرغم من عدم توفر دليل ملموس يقرّ بذلك.

الأمل المفقود:

في نهاية التسعينيات من القرن الماضي،وضع ملقي قضية والده تحت أضواء الإعلام المحلي، تزامناً مع عدة تصاريح من الحكومة الصهيونية، تفيد أنها قضت على حياة عشرات الفلسطينيين، الذين تسللوا من الأردن عائدين إلى قراهم، بعد أن نفذوا عمليات عسكرية  على الحدود.

العديد ممن نجوا من حرب النكسة، أكدوا لعائلة محمود أنه كان قد أُصيب بعدة جروح طفيفة في المعارك الدائرة. وهو ما جعل أولاده يتمسكون ببارقة أمل، ليكملوا مسيرة البحث. ولما كان الفلسطينيونغير معتادين تحقيق الأمنيات، لم يتمكن أولاد محمود من التوصل لأي دليل آخر، يؤكد لهم حقيقة ما حدث.فهم لا يعرفون إذا كان قد استُشهِد والدهم، ودُفن في المقابر الجماعية المتاخمة للمناطق العسكرية الإسرائيلية،المخصصة لدفن جثامين الفلسطينيين والعرب المجهولين، المعروفة باسم "مقبرة الأرقام". يقول ملقي: "كنا نعيش على أمل أن يكون والدنا حياً، لكن بعد مرور هذه السنوات، تسلل اليأس إلى داخلنا، وبات مطلبنا أبسط من ذلك بكثير. جلّ ما نريد أن نعرفه هومكان دفن والدي، لنزور قبره ونتلو له القرآن".

مخاطر الاقتراب من الحدود:

ليس الجنود وحدهم من فُقِدوا على الحدود مع الأردن في حرب 1967، بل المدنيون أيضاً. فكثير منهم حاولوا العودة إلى فلسطين مع عائلاتهم. وهذا ما حدث بالفعل مع والديْعبد المجيد مصطفى حمدان، من قرية " عرورة" شمال رام الله.

يبلغ عبد المجيد الآن 81 عاماً، ينظر إلى صورة أمه، زبيدة حسن، المرسومة بألوان زيتية، ومن خلفه صورة بالأبيض والأسود، لوالده مصطفى حمدان. هاتان الصورتان هي كل ما يملكمن أثر والديه، بخلاف أشقائه الثلاثة الذين  ما يزالون يحتفظون إلى اليوم بملابس والديهم.

قد تتشابه قصة والديْعبد المجيد مع غيرها من قصص الفلسطينيين الأخرى، إلا أن لكل منها وجعها الفريد. زبيدة والدة عبد المجيد كانت قد سافرت إلى الكويت لزيارة ابنها البكر، قبيل اندلاع الحرب بشهرين، وعندما حل شهر حزيران، أصر زوجها مصطفى أن يلحق بها إلى الكويت ليعيدها إلى فلسطين،خوفاً من أن يحرما من حق العودة، كما حدث مع فلسطينيي عام 1948.

استقر الزوجان خلال أيام الحرب في عمان، في مخيم الكرامة. وفي الثالث عشر من شهر آب، عند الثالثة صباحاً، انطلق الزوجان برفقة خمسة وعشرين شخصاً آخرين، لاجتياز الحدود والعبور إلى فلسطين، على الرغم من كل التحذيرات التي سمعاها عن عمليات قنص الجيش الإسرائيلي على الحدود. ومنذ ذلك الحين، لم يرَ أحد والديْ عبد المجيد، فبدأ هو وإخوتهيقتفيا أثرهما. وبعد مضي فترة من الوقت، تأكدت مخاوفهم، وعرفوا تفاصيل تلك الليلة المشؤومة. فعندما كان والدا عبد المجيد وبقية المجموعة يهمون بعبور نهر الأردن، شعر اثنان منهم بالخوف فقررا العودة. في هذه الأثناء وجه عناصر الجيش الإسرائيلي الأضواء الكاشفة باتجاه المجموعة، وبدأوا يطلقون النار عليهم.

 حتى يومنا هذا، لا يعرف عبد المجيد ما الذي حدث لوالديه، لكنه على يقين تام أنهما لقيا مصرعهما.

صعوبات توثيق المفقودين:

عام2008 تأسستحملة استعادة جثامين المفقودين العرب والفلسطينيين، إذ تتقدم العائلات بتقارير تؤكد فقدانهم لأولادهم أو أقارب لهم ، تكون فيها إسرائيل المسؤولة عن مصير هؤلاء المفقودين.وإلى الآن سُجل ما يقارب 78 حالة فقد، يعود تاريخ أقدمها إلى العام 1951، كما تطلعنا سلوى حمد منسقة الحملة، مضيفة "أن أكثر الحالات المسجلة تعود إلى العام 1967، حيث أبلغت العائلات عن 43  فلسطينياً مفقوداً، بيد أن عدد الأشخاص المفقودين يفوق الأرقام المسجلة، خاصة منذ أن بدأت عملية توثيق التواصل بشكل مباشر مع العائلات التي تزودنا بمعلومات وتفاصيل عمن فقدوا".

ليست مهمة التوثيق سهلة، فالصعوبات التي تعترض الطريق كثيرة. ذلك أن الحملة واجهت مشكلة بدأت مع الحصول على المعلومات من أشخاص عاشوا في القرى الحدودية، وكانوا قد دَفنوا عشرات ممن أزهقت أرواحهم آلة الحرب الإسرائيلية.

إسرائيل كعادتها لا تعترف بقتلالكثير من الفلسطينيين ممن قضوا في "مقبرة الأرقام"، والتي تدفن تحت تربتها ما لا يقل عن 253، كما أنها لا تعترف بفقدان الفلسطينيين منهم والعرب، من سورية، ولبنان ومصر.

في العام 2017، اعترفت إسرائيل باحتجاز 124 جثماناً فقط، ورفضت الاعتراف بما تبقى من الجثامين المفقودةأو تلك التي تحتفظ بها. كما أن الحملة عجزت عنأن تدين إسرائيل عن طريق الإجراءات الشرعية التي تصفها حمد بـ"الصعبة والشائكة".علاوة على أن التمسك بأمل العثور على شخص مفقودما يزال حديث العهد لدى العديد من العائلات الفلسطينية، التي تساورها الشكوك فيما إذا كان من فُقد من أولادهم لا يزال حياً  أو أنه حبيسداخل السجون الإسرائيلية السرية. وبهذا تبقى الأمنية الوحيدة لملقي سليمان وعبد المجيد حمدان أن يعرفا المكان الذي يرقد فيه من يحبون.