فنتازيا (بمعنى مخيلة أو توق) الأيديولوجيا الصهيونيّة تَطْلب نفي الوجود الفلسطيني. ودولة إسرائيل هي آلية تجسيد هذه الفنتازيا. لذلك، فإن كل صراع بين الفئات الاجتماعيّة الإسرائيليّة للسيطرة على الدولة، يبدأ فعلياً من السيطرة على أدوات قمع ونفي الفلسطينيين. ولذلك أيضاً فإن "قانون القوميّة" يعبّر عن انتقال إدارة القمع من عقلانيّة الجهاز القضائي الأرستقراطي المتمثّل بالمحكمة العليا، إلى عقلانيّة الأغلبيّة الشعبيّة المتمثّلة بالبرلمان.
لا يزيد "قانون القوميّة" الإسرائيليّ مثقال ذرّة لا في جوهر الصهيونيّة وأهدافها، ولا في واقع ممارساتها الإجراميّة. لكنّه يفسح المجال والإمكانيّة لتأسيس آليّة قمع جديدة تستبدل آليّة القمع القديمة، من حيث الأدوات والديناميكيّة والخطاب. لا نعرف إلى أي عمقٍ سيصل النظام الصهيوني في تغيير آليّة قمعه، لكننا نعرف أنه تغيير ناتج تلقائياً عن تحوّلات داخليّة في المجتمع الإسرائيلي، وتحوّلات خارجيّة، فلسطينيّة وعربيّة ودوليّة. ونعرف أن "قانون القوميّة" لا يخلق بنفسه هذا التغيير في آلية القمع، إنما يُفسح الإمكانيّة القانونيّة لتجسيده.
تحتاج آلية القمع إلى ضابط عقلاني – مُرشدٌ يُعنى بضبط الفنتازيا الأيديولوجيّة خلال عمل القوّة التنفيذيّة على تحويلها إلى واقعٍ سياسي. ليست وظيفة هذا "الضابط العقلاني" أن يحفظ حقوق الإنسان ولا أن يحرس الديمقراطيّة. وظيفته أن يحفظ التوازن بين الفنتازيا وأهدافها الدمويّة من جهة، والظروف الموضوعيّة التي تسمح لها بالتحقق من جهةٍ أخرى. منذ النكبة، أدّت المحكمة الإسرائيليّة العليا وظيفة هذا الضابط العقلانيّ، وقد انطوى هذا الأداء على ميّزات اجتماعيّة وسياسيّة معيّنة، أهمّها انتماء الجهاز القضائيّ إلى نخبة اجتماعيّة أشكنازيّة ترى بنفسها وصيّةً على الأيديولوجية كما ترى بنفسها أباً مؤسِساً للدولة. ويرتبط هذا بالهويّة العرقيّة الأوروبيّة التي أعطت هذه المجموعة "تفوّقاً" استعمارياً نابعاً من قيم وتقاليد "التنوّر" الأوروبيّة، بمعاداة محيط مشرقيّ "متخلّف". وهكذا أدت المحكمة العليا وظيفتها في أن تُدير الجريمة من خلال صياغات وتسويغات تحافظ على طابعها "المتنوّر".
أما المجال الذي يُفسحه "قانون القوميّة" فهو انعكاس لتغيّر في حاجة الاستعمار الإسرائيلي إلى "ضابط عقلانيّة" يكتسب قوّته من نخبويّته وتفوّقه الأوروبيّ وقدرته على تبرير الجريمة للعالم بمسوّغات قضائيّة، مقابل "ضابط عقلانيّة" يكتسب شرعيّته من "الأغلبيّة" المتمثّلة في البرلمان، وهي أغلبيّة من الأجيال والفئات التي انتفت هويّتها ومصالحها تحت هيمنة النخبة الأوروبيّة، وهذه الاخيرة حاولت فرض قيمها "العلمانيّة" وميزاتها الثقافيّة على كل "الإسرائيليين".
كل ما يتيحه "قانون القوميّة" أتاحته المحكمة العليا سابقاً
لا يُمكن أن نجد أي فعلٍ عنصري وقمعي عجزت إسرائيل عن تنفيذه قبل قانون القوميّة وصار ممكناً من بعد سنّ القانون في منتصف شهر تمّوز/ يوليو الأخير. كلّ محتوى القانون الجديد – بالمطلق - مُشرّع ومنصوص في القرارات المرجعيّة للمحكمة العليا، علاوةً على سياسات وقرارات الحكومات الإسرائيليّة كلّها دون استثناء.
حقّ تقرير المصير الحصري لليهود؟ حتّى في قرار المحكمة العليا الأكثر "إنصافاً" للفلسطينيين في تاريخ القضاء الإسرائيليّ (المعروف بأسم "ملف قعدان")، يؤكّد القضاة على أن المواطنين الفلسطينيين "متساويي الحقوق" لأنّهم "موجودون في هذا البيت"، أما "مفتاح البيت الخاص فهو محفوظ للشعب اليهودي". إقامة بلدات لليهود فقط؟ قانون "لجان القبول" الذي سنّه البرلمان ثم صادقت عليه المحكمة العليا عام 2014، يسمح لأكثر من 430 بلدة يهوديّة بمنع سكن الفلسطينيين فيها. تشجيع بناء البلدات اليهوديّة؟ منذ النكبة بنت الحكومات الإسرائيليّة أكثر من 700 بلدة ومدينة يهوديّة (غالبيّتها ضمن مشاريع معلنة لتهويد النقب والجليل) دون بناء ولو بلدة واحدة للفلسطينيين. على العكس، هجّرت وهدمت بلدات فلسطينيّة، بمصادقة المحكمة العليا، لصالح إقامة بلدات يهوديّة. اللغة العربيّة لم تعد "لغةً رسميّة"؟ لم تسن إسرائيل يوماً قانوناً يعتبر العربيّة لغةً رسميّة. للغة العربيّة مكانة رسميّة بموجب قوانين الانتداب البريطانيّ التي انتقلت كما هي لكتاب القوانين الإسرائيلي. واضطرّت المحكمة العليا لاحقاً للحسم بشأن مكانة اللغة العربيّة. وعلى الرغم من أن المحاكم وافقت على بند القانون البريطاني، إلا أنها اعتبرت العبريّة "اللغة الأساسيّة، وأن تطويرها وازدهارها وتعزيزها قيمة مركزيّة لدولة إسرائيل"، وهو ما يجعلها اللغة التي تُدار بها كل شؤون الدولة، بعكس اللغة العربيّة. ما يعني أن اللغتين العربيّة والعبريّة لم تكنا أبداً في موضع تساوٍ.
"الثورة الدستوريّة": مساواة فرديّة ضمن التفوّق العرقي
ما يسمّيه البعض "يميناً ويساراً" في إسرائيل هو صراع فئويّ اجتماعي على امتلاك أدوات الهيمنة والقمع. وقد وصل الصراع بين هذه الفئات الاجتماعيّة ذروته في سنوات التسعينيّات من القرن الماضي، وبدأ حسم الصراع نهائياً مع اغتيال رابين. تصاعد هذا الصراع الطبقي والفئوي داخل إسرائيل لاحقاً مع تغيّرات بنيويّة عديدة داخل المجتمع، بُنيت كلها على الهيمنة الأشكنازيّة والإجحاف التاريخي بحقّ سائر الفئات الاجتماعيّة، وأهمها اليهود الشرقيين. ومن هذه التحوّلات الموضوعيّة، دخول اقتصاد إسرائيل آخر مراحل تحوّله نحو النيوليبراليّة التامّة، وانفتاح سوق الإعلام الإسرائيليّ بشكل شبه كاملٍ، ليصبح التنافس على قطاعات المستهلكين دافعاً نحو تعزيز النزعات الهويّاتيّة عوضاً عن منطق "فرن الصهر" الذي سعى لخلق "هويّة ثقافيّة إسرائيليّة" موحّدة. الأكاديميا الخاضعة لهوس التقدّم التكنولوجيّ تتراجع فيها بشكل جذريّ كليّات الآداب والعلوم الاجتماعيّة لصالح العلوم الدقيقة والكليّات التقنيّة. الأجهزة الأمنيّة تراجعت عقائديّتها مع الزمن لتتحوّل إلى مجرّد سوق عملٍ بالنسبة لطبقات إسرائيليّة تُعتبر ضعيفة، علاوةً على الفجوات الطبقيّة داخل الجهاز العسكريّ ذاته. الهيمنة الدينيّة والنخب الصهيونيّة المتديّنة وغيرها... هذه كلّها ميّزات اجتماعيّة واقتصاديّة أضعفت المبنى الاجتماعيّ القديم للصهيونيّة وخلقت واقعاً جديداً.
في بداية التسعينيّات من القرن الماضي، سنّ البرلمان الإسرائيليّ قانون أساس يخص "كرامة الإنسان وحريّته"، وقد استخدمت المحكمة العليا هذا القانون لتُطلق ما يعتبره القانونيّون الإسرائيليّون "ثورةً دستوريّة". كيف عملت هذه "الثورة"؟ في سياق حقوق الفلسطينيين في الداخل، استُخدم هذا القانون لتصدر المحكمة العليا قرارات تصيغ مفهوم المساواة في إطار الأيديولوجيا العنصريّة - تُحوّل التفوّق العرقيّ إلى حالةٍ بديهيّةٍ، وتُؤبّد حالة الغبن التاريخيّ الناتج عن المجازر والتطهير العرقي والحسم في سرقة الأرض وتدمير القرى المهجرة. ثم السماح، من قلب هذه الحالة الكارثيّة جذرياً، بحقوق حياتيّة فرديّة لِما تبقّى من فلسطينيين في إسرائيل.
لكن هذه "الثورة الدستوريّة" العنصريّة والمستعلية في جوهرها، والعادلة في طابعها، فشلت في فرضيّتها الأساسيّة: تأبيد الهزيمة الفلسطينيّة وجعلها بديهيّة. نهضت الانتفاضة الثانية واستطاعت (على جميع إشكاليّاتها) كسر هيمنة تيّار فلسطيني اعترف بشرعية الاستعمار الإسرائيلي، وانخرط فلسطينيّو الداخل في بدايتها ليحسموا في الشوارع أولويّة الولاء الوطن. وتلاحقت عدّة مراحل زعزعت بديهيّة الوجود الصهيونيّ التي افترضتها النخبة الصهيونيّة الأوروبيّة، وبالتالي انهيار أسس "الثورة الدستوريّة" للمحكمة العليا. لذلك، يأتي "قانون القوميّة" ليؤكد ويفرض الجانب العنصريّ الذي اعتبرته النخبة الأوروبيّة "بديهياً" في "قانون أساس كرامة الإنسان وحريّته".
وظيفة "قانون القوميّة" الفعليّة أن يقيّد تدخّل المحكمة العليا (بالاعتماد على قانون أساس "كرامة الإنسان") بقرارات البرلمان والحكومة. ليس بالتناقض مع هذا القانون وإنما بالإجهار بفرضيّته الأساسيّة والتأكيد عليها دستورياً، وذلك بعد أن "باحت" بها كل قرارات المحكمة العليا في مئات الصفحات التي انحصرت قراءتها على الأكاديميين، بينما هي تصيغ أسس الحكم الإسرائيلي.
قانون القوميّة: نموذج جنوب أفريقيا 1948
الأحداث المفصليّة في التاريخ لا تكتسب قوّتها من تأثيرها بالمستقبل فقط، إنما من قدرتها على إعادة صياغة رواية الماضي أيضاً. والوظيفة المباشرة التي تؤدّيها القرارات السياسيّة المفصليّة ليست إلا جزءاً من أثرها، بينما يُضاف إليها رد الفعل المضاد ليشكلا معاً (الفعل ورد الفعل) الصورة التاريخيّة الناتجة. وما يفعله الاستعمار، في سعيه للاستدامة، هو محاولة فرض محطّات جديدة تُلغي ما قبلها لتبدأ قراءة التاريخ منها. هكذا يُمكن أن نقرأ هزيمة 1967 مثلاً، والتي ثبتتها إسرائيل لتتحوّل نقطة بداية للصراع والحل بدلاً من قرار التقسيم والنكبة. وهي بذلك تثبّت وجود الكيان الصهيونيّ على أراضي 1948 كوجود بديهيّ لا سؤال فيه، وتحوّل خطوط وقف إطلاق النار عام 1949 إلى "حدود 1967" التي يُطالب العالم إسرائيل بالإنسحاب إليها. وعلى الرغم من أن التغيّر الوحيد الذي شهدته فلسطين في حينه لم يكن في جوهر الأيديولوجيا الاستعماريّة ولا في طبيعة ممارساتها، إنما في حدودها الجغرافيّة وتبدّل ديناميكيّتها بين الداخل والأراضي المحتلّة، فإن "تأبيد ما سبق" لم يكن ممكناً بفعل احتلال سيناء والضفة وغزة والجولان فقط، وإنما أولاً بتحوّل رد الفعل العربيّ أمام العالم إلى ردٍ مطالبٍ بالانسحاب إلى حدود 1967 بدلاً من التمسّك بمعركة قيميّة جذريّة ضد الاستعمار، وثانياً بتقبّل القوى الغربيّة لهذا "المنطلق الجديد" للصراع.
من هذا المنظور، يُذكّر قانون القوميّة بمقاومة الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، والتي تحوّلت في كتاب التاريخ إلى مقاومة لقوانين الفصل العُنصريّ التي سُنّت بعد انتخابات 1948، بمعزلٍ عن التاريخ الاستعماريّ الذي مزّق الهويّات التقليديّة وجذّر تاريخاً من السلب والجريمة الاستعماريّة قبل حقبة الأبارتهايد الرسميّة، لينتهي الأبارتهايد دون عقوبات ومحاسبة للمجرمين، ودون إعادة توزيع للموارد المنهوبة. مثلاً: عشيّة سقوط الأبارتهايد عام 1994 امتلك البيض 87 بالمئة من الأراضي في جنوب أفريقيا (خاصة بفعل قانون المصادرة عام 1913). وبحسب إحصائيّات العام 2012، لم يستعد الأصلانيّون أكثر من 8 بالمئة من الأراضي التي صادرها البيض. ومن بين 80 ألف دعوى لاستعادة الأرض قدّمها السود، انتهت أكثر من 70 في المئة من القضايا بتعويضات ماليّة زهيدة ورمزيّة لقاء أراضيهم المنهوبة. ويجدر التشديد كذلك على أنّ الدعم الدوليّ لنضال السود في جنوب أفريقيا كان مشروطاً بخطاب سياسيّ قائم على هويّة وطنيّة جنوب أفريقيّة (بالمفهوم الأوروبيّ الحديث للمواطنة) تُهمل التاريخ الاستعماريّ والهويّات التقليديّة، وتبدأ التاريخ من العام 1948.
هذا نموذج لأخطر ما قد يُسقطه "قانون القوميّة" على الفلسطينيين، أي معاداة آلية القمع الجديدة من خلال القبول والتحالف مع آلية القمع القديمة ومؤسسيها. والمظاهرة التي نظّمتها "لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل" في تل أبيب هي نموذج يصطف إلى جانب آلة القمع الأشكنازيّة القديمة - التي نادى ممثلوها من على المنصبة بإعلان استقلال إسرائيل و"بالصهيونيّة العادلة"! - مقابل آلة القمع الشعبويّة الجديدة التي يؤسسها نتنياهو. وعلى الرغم من أنّه نضال قد يجتذب اهتماماً دولياً (احتمالاته ضئيلة جداً) لأنه يتبنى الخنوع للخطاب الاستعماريّ الأوروبّي التقليديّ وبالتالي يكسب دعم بعض أصحاب القوّة والمال والتأثير في المجتمع الإسرائيلي ومعه الدولي، إلا أنّه سيشكّل كارثةً على قضيّة فلسطين، وبالأساس على حقوق اللاجئين وأهالي الضفّة وقطاع غزّة ممن لا تشملهم "المواطَنة" الإسرائيليّة أصلاً، ولن يُنْصف فلسطينيي الداخل وإن انتصر.
كيف يُقاوَم القانون إذاً؟
لا يكمن البديل النضالي الحقيقي في مناهضة القانون باعتباره قانوناً قائماً بحد ذاته، ولا ببدء النضال من حيث شاء الطغاة له أن يبدأ كل مرةٍ من جديد. خطيرة ومرعبة المطالبة بإسقاط القانون بدلاً من المجاهرة بمقاومة روحه الفاشيّة ومبادئه العنصريّة وجوهره الاستعماري. كيف يكون ذلك؟ من خلال المطالب التحرّرية القيميّة التي من شأنها أن تصطدم بكل حرفٍ جاء في هذا القانون:
بالقول بأن الشعب الفلسطينيّ يمتلك حقاً موحداً بتقرير المصير على أرضه التاريخيّة الموحّدة. وأن المواطنة في فلسطين مصدرها الانتماء للوطن، لا لعرقٍ ولا لدين. وأن العلم الوحيد المقبول للدولة هو العلم الذي رفعه الضحايا، والنشيد الوحيد الممُكن لهذه البلاد هو ذاك النشيد الذي صاح به المكبوتون. وأن العودة إلى فلسطين مكفولةً لمن طُردوا منها بفعل الاستعمار الصهيوني فقط، وأنّ الدولة لن تُدافع عن "أمن وسلام اليهود في كل مكان في العالم"، إنما عن أمن وسلام كل إنسان باعتباره إنساناً أينما كان – ضد الملاحقة والعنصريّة والتمييز. وأن "يوم استقلال إسرائيل" لن يبقى إلا يوماً للحداد على كل قطر ة دمٍ أُزهقت بسبب الاستعمار وإسقاطاته، وأن هذه البلاد لن تعيش عيداً إلا ذاك الذي يكفل الحريّة والكرامة لجميع الناس.