Menu

بقايا عرب الأندلس!

هاني حبيب

أثناء إحدى زياراتي لإسبانيا، دعاني الصديق والرفيق "ماجد" المقيم هناك منذ زمنٍ طويل، إلى تناول الغذاء في أحد المطاعم قائلًا إن هذا المطعم لا يقدم إلا وجبة واحدة فقط، وبدون قائمة طعام "منيو"، وبالفعل دلفنا إلى مطعمٍ فسيح، وبعد أن وجدنا بصعوبة إحدى الطاولات، جاء النادل لنطلب طبقيْن، وقبل وصول الطلبات، حدّثني ماجد عن هذه الوجبة قائلًا إن أصولها عربية منذ عهود الأندلس، وتسمى بالإسبانية "إيبايلا" وترجمتها بالعربية "بقايا"، أي بقايا الأسماك واللحوم والدجاج والأرز وكافة أنواع الخضار، إضافة إلى أنواع عديدة من البهارات.

يأتي الطبق الكبير، بقاع من الأرز وقطع من اللحم والسمك بأنواعه المختلفة، إضافة إلى خليط من الخضروات على اختلاف أشكالها، وباختصار فإن هذا الطبق يضم قائمة طعام كاملة منوعة ومختلفة، إنه طبقٌ مهيب، يطلق عليه الإسبان "ٍسفير إسبانيا" إلى مطاعم العالم، إنه "فلامينغو المطبخ الدولي".

ولكن لماذا يتخذ هذا الطبق اسم بقايا؟ أثناء دردشة في أحد مقاهي مدريد مع اصدقاءٍ فلسطينيين وإسبان، تقدم أحد الأصدقاء الإسبان بالإجابة قائلًا "هذا الطبق عربي النشأة وجزءٌ من الثقافة العربية التي امتدت إلى الإسبان منذ عهود الأندلس، من المعروف أن العرب هم الأكثر إكرامًا للضيف، وعندما يدعو أحد الأثرياء منهم إلى وليمة لمجموعة من الضيوف، فإنه يحتار كيف يرضي أذواقهم من الطعام، لذلك يلجأ إلى طبخ عدة أنواع مختلفة من الأسماك واللحوم والطيور والأرز والخضار، كلٌ على حدة، في محاولة منه لإرضاء كلّ الأذواق، ولأن الضيوف يتناولون الطعام بدون أهل البيت ويكتفي المضيف بصب الماء على أيدي الضيوف بعد تناول الطعام، فإنّ المضيف يجمعُ كل هذه الأنواع، كل هذه البقايا، لكي تتناولها العائلة، ومن هنا كانت كلمة بقايا".

استرجعتُ ذلكَ بعد مطالعتي لمقابلةٍ صحفية مع الروائي الإسباني، خافيير سيركاس، إثر ترجمة روايته الأخيرة "جنود سلاميس" إلى العربية، وهي من الروايات الأكثر مبيعًا وتُرجمت إلى عدة لغات.

يقول سيركاس في معرض ترحيبه بالقرّاء العرب "رواياتي تعبّر عن ثقافةٍ تبدو مختلفة، لكنها في الحقيقة ليست مختلفة تمامًا، فنحنُ عربٌ وقد جئنا من هُناك، وتلك أصولنا، وذلك تراثنا أيضًا، للأسف تم حرماننا من ذلك التراث نظرًا للحديث طوال قرونٍ عن إسبانيا، وتمت سرقة هذا التراث العربي بشكلٍ ما، لأنه يخبرنا قصة إسبانيا التي تم إسقاط هذا التراث منها، ولم يبقى سوى التراث المسيحي، إن هذا تزييفٌ كامل للماضي، لأن الثقافة الإسبانية مولودة من هذا الخليط الذي ظلّ باقيًا، إذ تذخر اللغة الإسبانية بالتأثيرات العربية، سواءً في الطعام أو الأدب، يتعلّق الأمر بالاعتراف بالحقيقة، وهي أننا من هناك".

بقي أن نقول أن رواية "جنود سلاميس" تحكي قصة الحكّام الكاثوليك الذين طردوا العرب من إسبانيا، الذين أرادوا ترسيخ رواياتهم بأنّ لا علاقة لإسبانيا بالعرب، وأنهم "مختلفون"، وأرادوا عبر التزييف ملاءمة هذه الرواية مع الحاضر كما يقول سيركاس.