Menu

فيروز.. أُحَبُّها بإرهاب

أنسي الحاج

في حياتنا لا مكان لفيروز، كلّ المكان هو لفيروز وحدها , ليكن للعلماء علم بالصوت و للخبراء معرفة ، و ليقولوا عن الجيِّد و العاطل , أنا أركع أمام صوتها كالجائع أمام اللقمة ، أحبه في جوعي حتى الشبع ، و في شبعي أحبه حتى الجوع , أضم يديّ كالمصلّين وأناديكَ : إحفظْها ! إحفظها ! إذا كنتَ الله فهي برهانك ، و إذا لم تكن فهي بديلك ! لقد وقعتُ سابقاً في بشاعة الكبرياء فكتمتُ إعترافي , والآن أقول اعترافي : إني لا أؤمن إلا بها , و أعيش لأنها هي الحياة , باقي ما أفعله أفعله مرغماً , أنا مرهون بنزوات حنجرتها ، عاقد مصيري على نظرها و خنصرها و آثار قدميها , لقد أعادت اختراع الينابيع , ليست هي طريق الحياة بل الحياة , إني أتكلم من أعماق البصيرة حيث الصدق لا يختبىء من الخجل و لا يتدلّل لكي يتعرّى , يا رب إحفظها ! يا رب إخدمها ! يا رب اعطني كلاماً يليق بها ! لقد ساقوا إليها المديح ، و ارتكبوا بحقها خطيئة التعظيم , ولكن يا رب .. لماذا أناديك ؟ وهل أنت سوى غريب آخر ؟ وسط الجماهير المتمازجة القاسية ، أخاف فلا ينقذني إلا صوتها , في فراغ المكان ، يتردد كالبشارة في ضميري , في الوقت والأبدية ، هو حبي , إني أشتهي أن أضمه بيديّ كيديّ , أو أنفخه فيطير كرماد وردة.

تغنّي لنا الأسرار التي جهلناها ، و الأحلام التي نسيناها , تغنّي و صوتها مكشوف كاليد المفتوحة ، وتغنّي و صوتها محجّب كوجه خفضه العذاب و الخفر إلى رجاء الأرض , حتى لو لم يُكتب لها شعر جميل ، فإن صوتها كفيل أن يجعل أي كلام شعراً جميلاً ، حتى لو لم يكن اللحن رائعاً ، فإن صوتها كفيل أن يجعل أي لحن رائعاً , لأن صوتها هو الشعر، و الموسيقى ، و .. الصوت , لأن صوتها هو الأكثر من الشعر و الموسيقى و الصوت , صوتها و تمثيلها و حضورها , إن في وجودها إشعاعاً يبهر كالبرق ، و يستولي على الناظر إليها كما يستولي الكنز على المسافر , صوتها الذي أسمعه فكأنه هو الذي يسمعني ، بل كأنه أحسن من يصغي إليّ و أنا أصغي إليه , صوتها الساقط فينا كالشهيد ، المُخمِد حولنا العواصف ، المُلهب فينا غرائز البراءة و الوحشية , صوتها كمصابيح في المذبح ، و كزهرة جديدة حمراء في حديقة قديمة , لا صوتها في سمعنا فحسب ، بل إلى الأمام من حياتنا , صوتها المنوِّر , الذي تنويره كتنوير الصليب , لنتوقف و نقدّم لفيروز الشكر في جميع العالم ، لأن صوتها راعي الرعشة ، لأنه هو الرعشة ، وهو نار الحب الأخيرة الممشوقة كعروس فوق الماء.

أقول “صوت فيروز” وأقصد “فيروز” , تلك المرأة اللامحدودة العطايا ، التي ليس لجمالها نهاية , كلها بكاملها ، متحرّكة وجامدة , كلها ، بأصغر تفاصيلها , إني لا أعرف فناً غيرها , و أحبها بإرهاب ، أي بالشكل الحقيقي الوحيد للحب , إن صوتها هو عصرنا , ولصوتها سبعون نافذة مفتوحة على الصباح , للصرخة إذا خفضناها قليلاً قوّة أشدّ , هكذا صوتها عندما لا يتفجّر كله , وحين يتفجّر كله يصبح الكون بعده جميلاً كغصن شجرة حرقته صاعقة , وما زال أمام صوتها وأمام عبقريته جميع الفرص.

يُقال أحياناً : “فيروز !! نعرف ، نعرف” … ماذا نعرف ؟ تقريباً لا شيء , لنسمع صوتها جيّداً ولننظر إليها بعيون نقيّة , عندئذٍ نعرف أنها في كل مرة تبدأ الآن , فهي في كل مرة نضرة كرنّة الثلج في الكأس , ومع هذا فما تخبئه هو أغنى مما أباحته , ليتني أستطيع أن ألمس صوتها , أن أحاصره و ألتقطه كعصفور ، كأيقونة , أن أكتنفه و أشربه و أكونه , أن أصير هو , أن لا يعود يحبس أنفاسي كلّما سمعته وكلّما تذكرته و كلّما نسيته , ليتني أستطيع أن أضمّه على صدري فيصبح لي و أرى أسراره ، و لا يعود ممكناً إنتزاعه مني و لا بالموت , أن ما يحدث لي تجاه صوتها ليس فعل السحر , أنه اجتياح , إنه فعل الإتحاد التام , عندما أسمعها أصبح إنساناً ناقصاً صوته , أصبح بصوتها , إنها الجمال الذي ضاع منذ الخليقة , وعندما تسكت فبوحشية يصير المسرح تحت سكوتها مقاطعة تتنفس الحنين إليها ، ثم تصرخ عطشى إلى كلام فيروز , كم سكوتها مؤلم !! إنه يأخذ الأسرار التي إن لم تقلها لنا تختنق , هل هي تفرح بعذابنا أمام سكوتها ؟ وها هي تقطع الصمت , ها هو وجودها يغضب كالضوء ، يموج كالبجع الأبيض ، يرقّ كنداء العينين , وتبكي و تضحك بلا بكاء و لا ضحك ، و تملأ الدنيا بقليل منها ، لأن القليل منها أكثر من السعادة.

هذه التي تشعل المسرح هي أيضاً تشعشع لنا الحياة , و المسرح ليس حيث المسرح فحسب ، المسرح هو أيضاً قلوبنا , بعلبك و الأرز و دمشق و بيت الدين و قصر البيكاديللي و كل مكان يأتي منه صوتها ، جعلتها فيروز أوطاناً لنا , إحفظها ! إحفظها ! فيها خطر يجذب كالبحر , ألا تعرف ما الذي يأخذك في صوتها ؟ هو الجبل الذي هو هاوية ، والنسيم الذي هو عاصفة , صوتها مثل مركب شراعي يمضي في وجه النوّ ، فيتوجّع ويتمزّق ، حتى يغلب بعناده جنون الطقس ، فتسجد فوضى الكون أمامه منهوكة كالرجل على صدر حبيبته , مرآة الشوق ، مرآة الحنان والحنين ، مرآة الحب ، مرآة الجرح و الصدق ، و أكبر مرآة للحزن والشهيّة , لو كان صوتها صليباً لحملته ، و لو كان بحراً لأشعلته , لكنه أعظم من ذلك , إنه الجمال , و أي هدف أعظم من الجمال يقدر الإنسان أن يعيش له ؟ لو قلت أن فيروز هي الوحيدة لما قلت شيئاً , لو قلت أنها كل شيء ، لما قلت شيئاً , و لو قلت أني مهما قلت سأبقى عاجزاً عن القول ، لما قلت شيئاً , في حياتنا لا مكان لفيروز , كلّ المكان هو لفيروز وحدها , في حياتي لا مكان لفيروز , إن فيروز حياتي.

كتب الشاعر “أنسى الحاج” هذا النص فى مناسبة تقديم فيروز مسرحيتها الغنائية “يعيش ! يعيش !” في اذار 1970 على مسرح قصر البيكاديللي