ثمة ترابط بين كلّ ما تقوم به إدارة ترامب على صعيد السياسات الدولية. الملفّ الروسي تحديداً لا تتطوّر فيه الأمور على نحو اعتباطي، ويبدو خاضعاً منذ البداية لمنطق معين في إدارة العلاقة مع موسكو. حين أتى ترامب إلى الإدارة الأميركية، كان ثمة تعويل لدى فريقه، وخصوصاً لدى المستشار الأسبق للأمن القومي مايكل فلين، على تخفيض حدّة التوتر مع روسيا، بغرض استمالتها في مواجهة إيران والصين؛ حيث كان يعتبر، هو وستيف بانون وآخرون نافذون في الإدارة، أنهما التهديد الاستراتيجي الأكبر على واشنطن وليس روسيا. تعثَّرَ هذا المسعى لاحقاً بسبب ارتباطه بالصراعات داخل المؤسسات الأميركية حول الوجهة الأفضل لخوض الصراع مع الخصوم الاستراتيجيين، فحصل الانقسام الذي لا يزال قائماً بين الإدارة من جهة، ومؤسسات الخارجية والاستخبارات (ومعهما الإعلام وبعض قطاعات الجيش) من جهة أخرى، وبدأ المعسكران في النيل بعضهما من بعض، إلى درجة تحوّلت فيها الصراعات حول السياسات الخارجية إلى امتداد للصراع الداخلي حول حسم الأرجحية في السلطة والقرار.
تعثُّر سياسة التقارب مع روسيا
حين بدأت تتبلور لدى الإدارة، في فترة تولّيها الرئاسة عقب الانتخابات، رؤية واضحة تجاه العلاقة مع روسيا بناءً على منهجية معينة في إدارة السياسات الخارجية، تحرّك الخصوم داخل المؤسسات لوضع عراقيل أمام هذه الرؤية. في البداية، أُقيل مهندس هذه السياسة وأحد أكثر المقرّبين من ترامب، مايكل فلين، على خلفية اتهامه بالتخابر مع الروس بعيد الانتخابات، عبر سفيرهم في الولايات المتحدة سيرغي كيزيلياك. حصول الاتصال من عدمه لم يكن هو المهم، طالما أن ثمة هجوماً مضاداً قد أُعدّ من جانب دوائر نافذة في الاستخبارات والخارجية والإعلام، لثني ترامب ومَن معه عن مسعاهم الجاد لتغيير وجهة الصراع الاستراتيجي، عبر إخراج موسكو جزئياً منه. إقالة فلين وما تبعها من اتهامات لأعضاء آخرين في فريق ترامب بالتواصل مع الروس، تحوّلت إلى ما يشبه العصا الغليظة في مواجهة سياساته الخارجية الخاصة بالأمن القومي. هو لم يكن يريد إخراج روسيا بالكامل من دائرة الخصوم الاستراتيجيين، كما يتهمه خصومه في المؤسسات، بقدر ما عوّل مع فريقه، وعلى رأسه كلّ من فلين وبانون، على حصول الأمر بطريقة مختلفة. التقارب مع بوتين كان سيفضي في رأيه، إذا ما تمّ جيداً، إلى إبعاده ولو جزئياً عن الصين، حيث تختلف هذه الأخيرة عن روسيا بوجود رؤية اقتصادية لديها للصراع مع الولايات المتحدة، وهو ما يجعلها الخصم الرئيس لهذه الإدارة، على اعتبار أن الرؤية التي أتى ترامب لتطبيقها تستند إلى عوامل اقتصادية بالدرجة الأولى.
تقويض الستاتيكو الدولي
إضعاف العلاقة بين روسيا والصين كان سيقود، في حال حصوله، إلى تعثُّر المشاريع التجارية الكبرى التي تقودها الصين في آسيا (أهمّها مشروع الحزام والطريق)، والتي تعتمد بشكل أساسي على التواصل الجغرافي مع روسيا عبر أوراسيا، لإنشاء شبكة الطرق والبنى التحتية التي تريد بكين عبرها إعادة إنتاج خطّ الحرير بين آسيا وأوروبا. عدم اكتمال المشروع بسبب خروج روسيا منه كان سيضعف ليس فقط الريادة التجارية للصين في آسيا وأوروبا، بل أيضاً مسعاها لمجابهة السياسة الحمائية التي تقودها الإدارة. هذه الأخيرة تحتلّ موقعاً أساسياً في رؤية ترامب، ليس فقط للعلاقة مع الحلفاء والخصوم، بل أيضاً لمجمل التصوّر حول السياسات الخارجية والداخلية، وهو ما يدفعه باستمرار إلى تقويض كلّ المساعي المبذولة للحفاظ على الستاتيكو الخاصّ بالعلاقات الدولية. الفوضى التي يحدثها في علاقات أميركا بالعالم نابعة من معارضته لهذا النوع من الاستقرار، الذي يرى أنه يخدم مصالح «الإستابلشمنت» داخل الولايات المتحدة، والقوى خارجها التي تسعى عبر الحفاظ عليه إلى عدم التخلّي عن المكاسب التي جَنَتها بفضل نظام العولمة القائم. الانسحاب من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنظّم عمل العولمة الواحدة تلو الأخرى، مرتبط بالخروج على هذا النظام، وهو ما يقتضي أحياناً القيام بمناورات لا تكون عادة في صلب الرؤية، لكنها تخدمها على المدى البعيد.
خاتمة
الخطوة الأخيرة الخاصة بالانسحاب من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى الموقّعة مع الاتحاد السوفياتي السابق في عام 1987 تأتي في هذا السياق، لكنها ليست محورية فيه. هي لا تساعد على تقويض إضافي لبنية العولمة لأن مساهمة روسيا فيها ليست أساسية، لكنها تخدم الرجل داخلياً عبر إضعاف الحملة الساعية إلى تنحيته بحجة عمالته هو وفريقه للروس. تمتين الجبهة الداخلية والتخلُّص من حجج الخصوم داخل المؤسّسات يساعدانه على متابعة مسعاه خارجياً لتقويض الستاتيكو الخاصّ بالقوى المستفيدة من العولمة. الانسحاب من المعاهدة مع روسيا سيتسبّب بفوضى حتماً، وخاصة في هذه المرحلة التي تشهد حالة من عدم الاستقرار الاستراتيجي على مستوى العالم، لكنها ليست من النوع الذي يقود إلى مواجهة أو يعمِّق المواجهة القائمة، فضلاً عن كونها لا تصبّ مباشرة في مصلحة مسعاه للتفريق بين موسكو وبكين. الظهور بمظهر قوي تجاه روسيا يضعف جبهة خصومه في الداخل، ويعزّز مسعاه دولياً لجعل العولمة متناسبة مع مساهمة الولايات المتحدة فيها، عبر استعادة حصّتها من القوى التي تقودها حالياً، وعلى رأسها الصين. هذه هي المعادلة التي تحكم سلوك الإدارة تجاه الخصوم والحلفاء، وهي على الأغلب التي ستحدّد، بعد حسم الصراع في الداخل، شكل العلاقة مع روسيا، وما إذا كانت ستستمرّ بهذه الوتيرة المنخفضة، أم سيحصل فيها تطوّر تبعاً لطبيعة الدور المراد من موسكو القيام به في مواجهة الصين.
* كاتب سوري