Menu

مفهوم العلمانية: التعريف والأنساق والحالة الفلسطينية (الجزء الثالث)

د. وسام الفقعاوي

صورة تعبيرية

في البداية يجب الإقرار بأن الشريعة الإسلامية فكراً ومنتجاً إنسانياً وليست فكراً إلهياً، وخضعت هذه الشريعة، لاجتهادات وتغيرات مختلفة عبر مراحل زمنية عديدة، قامت في معظمها على تفسير وتأويل النص الديني والأحاديث النبوية، لكن المشترك بينها على ما يبدو واضحاً، هو محاولة "تأليه" هذا المنتج البشري، من باب تحصينه وفرضه، مما أغلق لاحقاً باب الاجتهاد وإعمال العقل، رغم التغييرات والتطورات العلمية الكبيرة والهائلة التي جرت وكانت تستوجب إعادة القراءة والنقد والتجديد والتحرر من أسر القيود التي فرضت على العقل، وهذا ما أدركه الفيلسوف والفقيه ابن رشد، حين قال: إن العقل يجب أن يقدم دائما على النقل. فحيثما قام تعارض بين العقل وبين المعنى الحرفي للنص الديني، وجب علينا أن نلجأ إلى تأويل معنى النص بحيث لا يتعارض مع العقل. وما ذهب إليه ابن رشد كان خطوة جريئة، لذلك حورب وأهمل في تاريخ الفكر الإسلامي، ولم تستفد منه المجتمعات العربية الإسلامية، حيث أقفل الباب أمام ما أنتجه هذا الفيلسوف والفقيه الذي أحرقت كتبه في وضح النهار، في الوقت الذي وجد طريقه في تاريخ الفكر الغربي، الذي انكب ينهل من قبس نوره الفكري، إلى أن كانت فلسفة ابن رشد أحد أهم الأصول التي نما عليها الاتجاه العقلاني في أوروبا الحديثة.

أضلاع وأركان العلمانية:

العلمانية تعني فصل المجال الاجتماعي إلى دائرتين: الأولى عامة (تعتبر محايدة تجاه الدين والمعتقدات، والأخرى خاصة (يمكن في داخلها التعبير الحر عن المعتقد)، وبالإمكان اختزال العلمانية بثلاثة أضلاع:

الضلع الأول: هو عدم تسلط الدين أو أي نوع آخر من المعتقدات على الدولة، ومؤسسات المجتمع والأمة والفرد.

اقرأ ايضا: مفهوم العلمانية: التعريف والأنساق والحالة الفلسطينية (الجزء الأول)

الضلع الثاني: هو حرية الضمير والعبادة والدين والعقيدة، وذلك في التطبيق المجتمعي وليس كمجرد حرية شخصية باطنية.

الضلع الثالث: هو المساواة في الحقوق بين الأديان والمعتقدات، مع ضرورة تطبيق ذلك واقعياً في المجتمع.

اقرأ ايضا: مفهوم العلمانية: التعريف والأنساق والحالة الفلسطينية (الجزء الثاني)

انطلاقاً من الثلاثة أضلاع المذكورة للعلمانية، وهي عدم التسلط والحرية والمساواة، تكتسب أركانها الأربعة التالية خصوصيتها:

الركن الأول: الدولة، بمعنى تحقيق استقلال متبادل بين الدولة والدين. فالدولة الحديثة تشكل مجالاً للسلطة الزمنية، بينما الدين مجاله السلطة الروحية، ويستند هذا الاستقلال المتبادل إلى المساواة المدنية والسياسية بين المواطنين.

الركن الثاني: الفرد، حيث تعني العلمانية الفصل بين الانتماء الوطني وبين الانتماء الديني أو الاعتقادي، وسيادة الحرية الاختيارية، فيما يتعلق بالأطر الفكرية والمرجعيات الدينية أو الفلسفية التي ينتمي إليها الفرد.

الركن الثالث: مؤسسات المجتمع، هذا الركن يعني تحديد دور الدين، كسلطة مستقلة قائمة على مؤسسات خاصة بها، تلعب دوراً في الحياة المجتمعية في مجالات واسعة، تبدأ من منظومة القيم والأخلاقيات الاجتماعية، وتنتهي بشؤون العقيدة والإيمان وقضايا الضمير، مروراً بمجالات التربية والتعليم بكافة مستوياته ومؤسسات البحث والنشر بالوسائل كافة، وقضايا الرفاه والصحة والعدالة والضمان الاجتماعي ومختلف القطاعات الاجتماعية.

الركن الرابع: الهوية الوطنية، التي تتشكل بالأساس حول التراث الوطني المشترك والقيم الوطنية الموحدة التي تجمع وتؤطر أبناء الجماعة الوطنية.

لكن أضلاع العلمانية كما أركانها، تفقد وجودها وقيمتها في المجتمعات التي يجري فيها تديين السياسة، وتسييس الدين كما حال المجتمعات العربية، خاصة في ضوء بروز طبقة تحتكر تفسير الدين، وتدّعي أن لها وحدها حق التحدث باسمه وإصدار الحكم فيما يوافقه من الآراء والمذاهب وما لا يوافقه، أي أنها طبقة "كهنوتية" وإن لم تتسم بهذا الاسم صراحة. وثانيتهما اعتقاد تلك الطبقة أن ما ورد في المصادر الدينية السابقة من تشريعات وأجوبة وحلول هي تعاليم مُلزمة ولا يجوز تعديلها أو تغييرها، سواء ما يتعلق منها بأمور العقيدة أو الحياة[1].

إدغام الدين في السياسة والعكس:

ليس بجديد القول بأن قوى الإسلام السياسي تعمل على توظيف الدين في خدمة أهدافها ومآربها السياسية الخاصة، كما هو حال مختلف الأنظمة الدينية "الثيوقراطية"، حيث يكون الدين (عقيدة ونصاً) بمثابة منظومة تبريرية متكاملة للقوى أو الدولة القائمة على أساس ديني.

كما ليس بجديد أن تلجأ تلك القوى إلى استخدام الدين في بناء تصورها الخاص، بهدف "هندسة المجتمع"، من خلال إقحام الحيز العام بخصوصيات الحيز الشخصي، لكن ما يلاحظ هو تعاظم المسارعة إلى احلال الفتوى الدينية محل الرأي أو الموقف السياسي في القضايا العامة التي تنتسب إلى يوميات التجاذب السياسي. بحيث باتت تلجأ إليه قوى الإسلام السياسي من خلال هيئات وشخصيات دينية تعود بمرجعيتها إلى هذه القوى. وهذا بدوره ما يزيد من الانقسام الاجتماعي والصراع السياسي، ويمثل تحدياً رئيسياً في مختلف المجتمعات العربية التي تعيش في هذه الأيام حروب أهلية معلنة ومضمرة[2].

يبدو غريباً في القرن الحادي والعشرين أن يوجد من يدعو إلى قيام الدولة الدينية التي تنزع بطبيعتها إلى أن تكون دولة غير ديمقراطية أو ديمقراطية مقيدة أو حتى مستبدة، يكون الحاكم فيها ظل الخالق في الأرض، ويحكم ويصدر التشريعات والقوانين، ويرسم السياسات، ومن يطيعه فكأنه أطاع الخالق، ومن خالفه في الرأي أو حاربه، فإنما يخالف الخالق ويحاربه، مع أنه مجرد بشر، قد يصيب وقد يخطئ، لكنه يضفي على نفسه صفات القداسة ليصبح هو الوكيل والمتحدث الوحيد.

إن جعل الدين أساساً في الفلسفة السياسية لأي دولة، ينزل الدين من عليائه (أو يستخدم) سياسياً من هذا الطرف أو ذاك، وهذا ما يثير مشكلات بحق مبدأ المواطنة، ومبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع البشر المنضوين في إطار وطن محدد. والحال، فإن العلمانية ليست مناهضة للدين، بل هي تحفظ هيبته، وسموه ومكانته الملبية لحاجة روحية في النفس البشرية، مبتعدة به عن سوق المزايدات السياسية. وإذا صح، فيمكن القول إن العلمانية متناقضة مع الدين المجير سياسياً، لأنه يطرح تصوراً فكرياً لنظام سياسي يختزل دور الدين ويحشره في صراعات دنيوية هو في منأى عنها.

إن الدولة العلمانية هي مجرد تكريس لمبدأ الحكم البشري الدنيوي، وفيه يستمد الحاكم شرعيته من تفويض المحكومين، ويسن المواطنون أو من يمثلونهم الدساتير والقوانين، لتعمل السلطات المختلفة بموجبها وفي إطارها بصلاحيات محددة.

فالمسألة الأساسية إذاً أن الدولة العلمانية ليس ضد الدين، بل ضد تغول الدولة أو محاولتها أن تتقمص دور الإله، تحت مسمى ديني أو قبلي أو قومي أو أيديولجي. والخوف أيضاً ليس من الدين، ولكن يأتي الخوف كله من أن تجلس مجموعة من الموظفين على مقاعد الحكم، ليحكموا باسم الإله، وينفردوا بتفسير كلماته، ويحتكروا الحقيقة والفتوى، والسلطة والقوة، والثواب والعقاب.. وهم ليسوا بأكثر من بشر غير منزلين أو مبعوثين أو مفوضين[3].

وهذا لا يعني معارضة وجود أحزاب دينية من حيث المبدأ، فثمة كثير من الأحزاب ذات المرجعية الدينية في أوروبا وأمريكا (أحزاب الديمقراطية المسيحية في ايطاليا وألمانيا وعدد آخر من الدول)، وحتى في بلد مسلم ك تركيا (حزب العدالة والتنمية)، ولكن هذه الأحزاب جميعها تشكل جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع المدني والسياسي العلماني في بلدانها، ولا تطرح أبدًا العودة بمجتمعاتها إلى نسق الدولة الدينية.

إن هذه الأحزاب تتعاطى مع الدين كمرجعية عقيدية فكرية، وليس كمرجعية تشريعية وقانونية. إنها تتعاطى مع الدين كمنظومة قيم ومفاهيم أخلاقية واجتماعية، بوجهة وطموح تلبية روحية لدى الإنسان والمجتمع، وهي لا تتعاطى مع الدين كمنظومة تشريعية تنزع إلى الحلول مكان المرجعيات التشريعية ذات الاختصاص المنبثقة عن عملية ديمقراطية تعبر عن إرادة الشعب، مصدر السلطة والسيادة في المجتمع وأرض الوطن.

كما أن دعاة الدولة الدينية يرفضون مبدأ أن تكون علاقة الإنسان بربه مسألة شخصية تخص كل فرد على حدة، ويتطلعون إلى التوسط بين البشر والخالق، كمرجع وحيد معتمد، فتسييس الدين يفضي إلى خطر الخلط بين الدين (المقدس) وبين الرأي في الدين (وهو إنساني) يحتمل الصواب والخطأ، بينما دعاة تسييس الدين يسعون إلى فرض رأيهم فرضاً، بوصفه صحيح الدين، وليس باعتباره واحداً من آراء واجتهادات شتى.

إن القيمة التي تحاول أن تكرسها الدولة العلمانية، هي قيمة كل إنسان (مواطن) من دون الرجوع إلى معتقده الديني، وعلى استقلالية الممارسة السياسية عن الانتماء الديني، وعلى استقلالية الوظيفة الحكومية عن الانتماء الطائفي، وعلى استقلالية المجتمع المدني، بأفراده وتجمعاته، عن الطوائف والأديان والعقائد، وعلى استقلالية المؤسسات التعليمية والتربوية والاجتماعية والإعلامية عن الأديان والطوائف وسلطاتها، وعن استقلالية قوانين البلاد عن الشرائع الدينية. فالعلمانية تعني استقلالية القيم الإنسانية، كالعدالة والمساواة والديمقراطية والحرية الدينية والفكرية، عن جميع المصادر الدينية[4].

إن أغلب التيارات الأصولية الحديثة في الإسلام تنطلق من مقولة هي أن "الإسلام دين ودنيا"، وفي التأصيل البرنامجي لهذه المقولة، أو للدولة الإسلامية التي يناط بها تطبيق الشريعة، وتقوم على أساسها، عمدت حركة الإخوان المسلمين في مصر إلى اقتراح "هيئة فقهية" تشرف على عمل السلطة التنفيذية والتشريعية، أي يصبح دورها أشبه بالدور الذي يلعبه المرشد الأعلى للدولة الإسلامية في إيران، القائمة على أساس "ولاية الفقيه". في حين وجد من العلماء والفقهاء المسلمين ممن عرفوا بجيل الرواد في الإصلاح الديني في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ممن نقدوا ذلك مبكراً، من محمد عبده، الذي أكد على أن الحاكم مدني من جميع الوجوه. إلى عبد الرحمن الكواكبي الذي اعتبر أن الأمم ارتقت بعدما عزلت الدين عن شؤون الحياة، وجعلت الدين أمراً وجدانياً وشخصياً محضاً.. إلى علي عبد الرازق الذي انتهى إلى القول بأن: " لا آيات القرآن المجيد، ولا الفلسفة النبوية، تلزم المسلمين بأي نوع من أنواع الحكم... وأن الله ترك للمسلمين أن يختاروا ما يناسبهم من أنواع الحكم"، مستنتجاً أن بإمكان المسلمين إقامة نظامهم السياسي على أساس أحدث نظريات العقل البشري وخبرة الأمم..الخ[5]. وصولاً إلى رجال دين معاصرين، مثل أحمد بدر حسون وغيره.

أما لدى التطبيقات المعاصرة لأحزاب إسلامية، حكمت في دول هنا أو هناك، فإننا نقع على طيف متعدد لأنظمة متباينة، بدءاً من نظام "طالبان" للخلافة في أفغانستان، الذي حاول إعادتها قروناً إلى الوراء، مروراً بحزب "العدالة والتنمية" التركي، الذي يولف بين الإسلام الروحي والعلمانية السياسية مؤكداً التزامه بالنظام العلماني الذي أرساه أتاتورك.. وقد ينتهي براشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة التونسي، الذي دعا إلى الاقتداء بحزب "العدالة والتنمية" التركي، وأعلن تبنيه لنهجه السياسي والفكري في التوفيق بين جذوره الدينية والنظام العلماني الديمقراطي، وإن جاءت ممارسة الحزب بعد وصوله للسلطة في تونس، عكس هذا الإدعاء والإعلان،الأمر الذي أدّى إلى معارضة شعبية عريضة لسياساته، دفع ثمنها في الانتخابات التونسية الأخيرة، وكذلك المشهد المصري ليس ببعيد عن ذلك.

كما هو معروف فإن وظيفة السياسة هي صنع الإجماع الوطني. الدولة الوطنية الحديثة لا تطلب إلا إجماعاً عاماً على قيم عليا مشتركة تتصل بوحدة البلاد والانتماء لها، ووحدة مؤسساتها، واحتكارها السيادة في مجالها الإقليمي والتمثيل الدولي، أي أنها تتعالى فوق الهويات الجزئية، دينية كانت أم قومية أم اثنية، فالدين متحيز لجمهور المؤمنين، والإثنية متحيزة لقاعدتها، أما الدولة فيجب أن تكون للكل، لجميع مواطنيها.

وعليه يطرح السؤال: هل تستطيع قوى الإسلام السياسي على اختلافها، أن تحقق المساواة في مجتمعاتنا المعاصرة؟ ألا يبدو هذا ممتنعاً منطقياً، قبل تعذره سياسياً وعملياً، فعندما يتم تكفير الخصوم وإقصائهم إلى خارج مربعات الشرعية، الدينية أو الوطنية، فإن ذلك لا ينتج أي وحدة أو سيادة، بل يخلق توترات وصراعات تطيح بأية إنجازات، أما تحييد الدين عن الصراعات السياسية، فيعني إبقاء الصراع في مستوى الاختلافات القابلة للحوار والحلول على قاعدة التسوية وإجتراح الحلول المناسبة على قاعدة القاسم المشترك.

لكن العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة في ثقافتنا وتراثنا لا تزال تحكم رؤية الكثيرين منا، بل رؤية معظمنا لما هي الدولة الحديثة وما هو المجتمع المدني. فما السبيل إلى اعتراف هؤلاء بأن الدين غير السياسة والسياسة غير الدين؟ ما السبيل إلى الاعتراف بأن الدين مجال الذاتية، أي مجال الإيمان، والسياسة مجال العلاقات الموضوعية التي تعينها نسبة القوى، وأن مبدأ السياسة الحديثة هو الشأن العام والمصلحة العامة، ومنهجها نفعي (براغماتي) دوماً، ولا يتسق في معظم الأحيان مع القيم الروحية والأخلاقية للدين؟ ما السبيل إلى إدراك حقيقة أن الدولة الوطنية الحديثة علمانية بطبيعتها ولا تحتاج إلى أيديولوجية علمانية؟ بل أكثر من ذلك ما السبيل إلى أن يدرك أهل الدين أن ما في الدين من قيم إنسانية قد تحقق بالفعل في الأسس الفكرية والأخلاقية للدولة الحديثة، ولا سيما في فكرة المواطنة، بركنيها الأساسيين: المساواة والحرية، اللتين تضعان المسؤولية الفردية، القانونية والأخلاقية، فلا تزر وازرة وزر أخرى؟[6].

العلمانية ومسألة الخصوصية:

يلفت النظر محاولة بعض قوى الإسلام السياسي لترويج مقولة سلبية عن العلمانية باعتبارها عملية "سلب للخصوصية العربية والإسلامية" وكجزء مما يسمى "بالغزو الثقافي" المرافق للهيمنة والسيطرة الغربية المتجددة على المنطقة العربية. وغالباً ما نقع على دعاوى من قبيل "مكافحة الإلحاد والعلمانية والشيوعية والماسونية" موضوعة في "سلة" فكرية وثقافية واحدة، من دون تمييز بين مفهوم وآخر.

إن هذا الموقف ينطلق من خصوصية إسلامية استثنائية، تتعامل مع الدين كمقولة معيارية، أولية ونهائية، تحدد هوية عربية معادية للغرب بكل ما فيه من أفكار وتقاليد وآليات قانونية ودستورية وسياسية، ولا تولي هذه الرؤية اهتماماً يذكر ببناء منظومة فكرية وثقافية عربية، تنطلق من خصوصيات الواقع العربي المعاش، لكنها تبقى منفتحة، في الوقت نفسه على الحضارات والثقافات الأخرى، ومن دون أن تهتم أيضاً، بدرس تجارب الشعوب والثقافات الأخرى، التي خضعت لعلاقات هيمنة غربية (الصين، الهند، كوريا، وكذلك بلدان إسلامية على غرار تركيا، أندونيسيا، ساحل العاج، أوزبكستان الخ..) والوقوف على الأسباب التي سمحت لها بالتفلت من الهيمنة الخارجية والنهوض بواقع مجتمعاتها اقتصادياً وسياسياً وثقافياً... الخ.

يُفسّر حليم بركات هذا الواقع، بما يتجاوز تناول المسألة من بوابة الخصوصية، حيث يذهب للقول: "ففي الزمن الذي يعيش فيه العالم، زمن الحداثة والعولمة وثورة العلم والمعلومات والاتصال، يشهد مجتمعنا العربي عودة إلى الماضي عبر تجديد عوامل التخلف فيه، لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه الحديث منذ مائة عام أو يزيد، فهو إلى جانب ترعرع الأنماط القديمة القبلية، والحمائلية، والعشائرية، والطائفية، والأصولية، والتعصب الديني، يوصف اليوم بحق على أنه مجتمع شديد التنوع في بنيته وانتماءاته الاجتماعية، أبوي، يعاني النزعة الاستبدادية على مختلف الصعد، مرحلي، انتقالي، تراثي، تتجاذبه الحداثة والسلفية، شخصاني في علاقاته الاجتماعية، يعيش حتى الوقت الحاضر مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية والتكنولوجية، وبالتالي مرحلة ما قبل الحداثة"[7]. والمجتمعات التي هكذا بنيتها تكون ضعيفة وهشة، وتخشى من الجديد القادم، حتى ولو كان فيه نهضتها، حيث تبقى عوامل الكبح تفعل فعلها السلبي، وتعزز من مقولات "الغزو الثقافي".

وفي هذا السياق، نجد نقد عبد الوهاب المسيري للعلمانية الذي ينطلق فيه من موقع ديني أصولي، من خلال النظر إليها كمكون ينسب إلى سياق حضاري وتاريخي خارجي، فهي "وليدة الغرب ومستنبت مستورد مفروض على المجتمعات العربية من قبل الغرب، ومن قبل النخب الحاكمة (المتغربة) المتحالفة معه". وتعامل مع العلمانية على أنها "متتالية تاريخية تطورت بشكل حصري في السياق الغربي، وعكست الأزمات والحلول والصراعات والمساومات السياسية والفكرية والنظرة الفلسفية المتكونة وتوترات علاقة السلطة الدينية بالزمنية... الخ".

وعلى هذا الأساس ميز المسيري بين "علمانية شاملة" (تشكل رؤية تفسيرية شاملة للعالم والكون، وترتكز إلى عناصر مادية وعقلانية صلبة وأداتية ترفض أي مرجعية أخرى)، معتبراً أن هذه العلمانية منحازة ضد الأديان، وتتفشى في كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والمعاملاتية والأخلاقية، ولذلك هي مرفوضة عنده، وبين "علمانية جزئية" ينحصر تطبيقها في المجال السياسي فقط، وهي مقبولة لديه[8].

بعيداً عن إدغام وكأن العلمانية والحداثة والاستعمار وما بعد الحداثة والعولمة... وكأنها كلها مسميات لشيء واحد هو نمط التطور والسيطرة الغربية على العالم سياسياً وفكرياً وعلمياً، فهناك من ينطلق في اختلافه مع رأي المسيري، واصفاً العلمانية "كصيرورة تاريخية أكثر منها رؤية للعالم". وهي وإن نشأت في أوروبا في سياق الصراع مع وداخل الكنيسة، إلا إنها تجاوزت منشأها إلى مختلف أرجاء المعمورة، وصارت – كما الحداثة – شأنا من شؤون حياتنا التي لا مفر منها في سياق ترتيب علاقة الدين بالمجال العام.

إن الإصرار على أن العلمانية خاصية ثقافية متعلقة بالغرب وحده، فهذا غير صحيح، ويهدف إلى التأكيد على أنها غير قابلة للانتقال إلى ثقافات أخرى، خلافاً للمنطق والعقل. وهناك عدد كبير من الكتاب والمفكرين الغربيين أنفسهم، من يرفض مثل هذا التصنيف المستند إلى أن العلمانية "خصوصية ثقافية غربية"، حيث يذهب هنري بينا – رويث[9] إلى أن التمايز بين الإنسان الفرد وبين الشخص العام (المواطن) يعبر عن امتلاك روح الحرية، وليس خصوصية ثقافية غربية.

ويضيف بينا – رويث بأن أي حضارة لم تفرز مثل هذه الحرية بشكل عفوي، فمن يقارن بين الإسلام المنفتح والمتسامح في مملكة قرطبة (وفيلسوفها ابن رشد) في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، وبين المسيحية المتزمتة والمتعصبة في حقبة محاكم التفتيش، سيقف على خصائص للحضارات لا علاقة لها بعقيدة دينية بعينها بقدر ما هي نتاج لتطور اجتماعي ومجتمعي موضوعي.

ويؤكد رويث أن "المساواة لم تكن اختراعاً مسيحياً، بل كانت موضوعاً أساسياً في الفلسفة السياسية اليونانية، فنجدها عند أفلاطون وأرسطو، وكذلك الرواقيين، كما يعود الفضل بإقامة النموذج السياسي والقانوني للمساواة وحقوق الإنسان إلى المثل الأعلى لعصر التنوير الذي سبق وهيأت له الإنسانية العقلانية".

طالما أن ثقافة الآخر ومنجزاته الفكرية والعلمية والتكنولوجية، ستبقى حاضرة أمامنا "كخصم" حضاري، فالأجدر بنا أن ننطلق في معرفة الآخر والتفاعل والحوار والتلاقح معه، من بوابة معرفة الذات ومسآلتها ونقدها، أي ايقاظها من سباتها الحضاري، والتصالح معها أولاً، كي يتم معرفة نقاط ضعفها وقوتها، ففهم الأنا/الخصوصية على حقيقتها هو المدخل والحل لفهم الآخر، وأخطر ما قد يقف حائلاً أمام هذا الفهم، هو التعصب للخصوصية والاستقواء بالدين وتوظيفه ضد العقل والتقدم. فالعقل هو من "يقوم بفعل التصفية الذاتية والقطيعة المعرفية مع ميراثه السلبي، ويمارس الفاعلية نفسها حين يضع ميراث الآخر أو أقوال الغير موضع المسآلة، فيؤكد حضوره النقدي إزاءها، ولا يتلقاها التلقي المخدر الذي يكتفي بسلب الاستقبال، بل يتلقاها التلقي الفاعل الذي يتحول بعملية الاستقبال إلى عملية إعادة للإنتاج وإسهام فيه"[10].

المراجع:

[1]. محمد النويهي: نحو ثورة في الفكر الديني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010.

2. إبراهيم غرايبة: العلمانية في الدين، والدين في العلمانية: التناقض، الجدل، الاستيعاب، الحياد، موقع مؤمنون بلا حدود، بتاريخ: 21 تشرين ثان (نوفمبر) 2016: https://www.mominoun.com/articles

3. وائل نوارة: ضد الدولة الإله، في كتاب: الليبرالية في العالم العربي، رؤى وتصورات لسياسيين عرب، تحرير: رونالد مينا ردوس وأحمد ناجي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010.

4. نضال عبد القادر الصالح: المأزق في الفكر الديني بين النص والواقع، دار الطليعة، بيروت، ط.1، 2006.

5. علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط.1، 2000.

6. جاد الكريم الجباعي: العلمانية من منظور الدولة الوطنية، رابطة العلمانيين السوريين: https://ssyriana.blogspot.com/2016/11/blog-post_58.html

7. حليم بركات: المجتمع العربي في القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط.1، 2000.

8. عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة، ط.1، 2002.

9. هنري بينا رويث: ما هي العلمانية؟، ترجمة: ريم منصور الأطرش، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، ط.1، 2005.

10. جابر عصفور: أنوار العقل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996.