Menu

مفهوم العلمانية: التعريف والأنساق والحالة الفلسطينية (الجزء الثاني)

د. وسام الفقعاوي

صورة تعبيرية.jpg

يمكن النظر إلى مفهوم العلمانية على أنه مجموعة الأفكار والمبادئ العامة التي لا تتبنى عقيدة بعينها (دينية أو غير دينية)، كما لا تطرح تصوراً للمضمون الاجتماعي الطبقي لنظام سياسي ما والآليات التي تنظم حركته. بل مفهوم وقواعد عمل في بنية النظام السياسي، جاء كحصاد لفعاليات فكرية واجتماعية وتاريخية عبر الزمن، في دورة التحولات في المجتمعات الغربية باتجاه التأصيل المستمر للحياة الديمقراطية على أسس المواطنة والمساواة والحرية. فالعلمانية تعكس صيرورة تاريخية أكثر منها رؤية للعالم، إنها رأي في الدولة وليست رأياً في العقيدة (الدين).

أي أنها هي تعبير عن تطور تاريخي معين حصل في المجتمع الإنساني، وأوجب الأخذ بها والتعامل معها. وهو التطور الذي أدخل على النظام السياسي الحديث العقلنة بدلاً من العدمية، والانفتاح بدلاً من الانغلاق، والنسبي بدلاً من مفهوم المطلق، والمواطنة بدلاً من الرعية، والديمقراطية بدلاً من الأوتقراطية، والشعب مصدراً للسيادة والشرعية بدلاً من السيادة المستندة إلى الحق الإلهي من خلال أنظمة الاستبداد سواء كانت ملكية أو غير ملكية.

المعرفة والاجتهاد لا إغلاق العقل:

كانت العلمانية في جزء من صيرورتها حركة انفكاك الفلسفة وتميزها عن علم اللاهوت[1]، ثم انفصال المؤسسات التعليمية عن الإطار الكنسي، وباتت تعني تأسيس وتدريس العلوم الطبيعية والاجتماعية التي لا علاقة لها باللاهوت، من الطب إلى الهندسة، ومن الجغرافيا إلى الجيولوجيا، ومن علم الحيوان والنبات إلى علم الأحياء (البيولوجيا).

وعلى ذلك، كانت "المدرسة العلمانية" محطة مهمة جداً في انعتاق الإنسان، الفرد، من هيمنة وسطوة المؤسسات الدينية، وتحقق إمكانية سيادته على نفسه، وتنور معرفته بوصفه إنساناً راشداً، وإمكانية تحرير الثقافة وامتلاك المرء للمعرفة، المعرفة الكلية، بدءاً من الأساطير مروراً بالأديان إلى مجموع التراث العلمي والثقافي للبشرية ككل، فالسمة الرئيسية للمعرفة هي أنها كونية. تتجسد العلمانية في التعليم بصفتها احتراماً ورهاناً على الاستقلالية والعقل، وترك التلميذ وطالب العلم يصل تدريجياً إلى امتلاك أفكاره، وملكة الحكم السليم على الأمور بشكل مستقل كي يتمكن من الاختيار باستقلالية وحرية ما يعكس قناعاته ويعبر عن شخصيته.

وبهذا المعنى فإن "المدرسة العلمانية" هي عامة، مفتوحة للجميع، لا يحق لأي جهة، أن تستخدمها لفرض رؤيتها المنحازة أو الدعوة إليها. أي لا مكان في التعليم العلماني للسعي التبشيري، الصريح أو المستبطن، مثلما لا مكان فيه لمحاولات الحط من شأن المعتقد، بل يتيح انفتاحاً روحياً ويولي اهتمامه الرئيس لتطوير المعرفة المحايدة، من دون أن يعني الحياد هنا، عدم محاربة الخرافة واللاعقلانية، ومراعاة عدم التسامح والتعصب.. الخ.

مبدأ العلمانية الأساسي هو اعتبار أن بناء المجتمع الإنساني الأفضل لا يمكن أن يتم إلا على أسس إنسانية واقعية محضة، وهذا ما تسعى العلمانية لتفعيله وتجسيده على أرض الواقع؛ أي بناء المجتمع على أسس العقل والإرادة الحرة والمصلحة الإنسانية، وعدم إدخال أية عناصر ماورائية وغيبية في عملية البناء هذه، وهذا هو المقصود بفصل الدين عن الدولة، والعلماني هو من يتبنى هذا المبدأ ويلتزم به رأياً وفعلاً، ويتخذ مواقفه على أسس العقل والإرادة الحرة والضمير الإنساني المرتبط جوهريا بمفهوم الخير الإنساني[2].

وفي الواقع لم يحصل عندنا، في العالم العربي، انفصال نهائي بين الدين والمدرسة، أو بين التعليم العام وسطوة النص الديني، ولا زال الدين يمارس حضوراً وتأثيراً كبيراً على التعليم والعملية التربوية بصفة عامة، ويراعي القائمون على المؤسسات التعليمية في أغلب بلدان العالم العربي، انسجام أو توافق المواد التعليمية مع السلطتين المسيطرتين، ألا وهما السلطة السياسية والسلطة الدينية.

وأدى النظام التعليمي المتبع في إطار تراجع وضمور هامش الحريات والممارسات الديمقراطية، إلى جانب عوامل أخرى، إلى حالة ركود ثقافي وجمود فكري أثرت وتؤثر سلباً على الواقع العربي الراهن، فهامش الحرية الضيق أو حتى المعدوم – أحياناً – في العالم العربي، لم يساعد في طرح كثير من القضايا والمشكلات المتصلة بهذا الواقع على بساط البحث والنقاش العام، ومنها ما يتعلق بالدين والظاهرة الدينية، وهو ما أفضى في المحصلة إلى ضحالة وندرة في الثقافة والنقد الجاد لأمراض الواقع الاجتماعي ومشكلاته، ويطال ذلك مختلف الأنشطة والمجالات الثقافية والفكرية، ويزيد عليها تحالف الأنظمة مع التيار الإسلامي، والذي تعزز مع تراجع المد القومي أواسط ستينيات القرن المنصرم، حيث ناهض هذا التحالف كل الدعوات إلى علمنة ودمقرطة الدولة والمجتمع. على الرغم من أن العلمانية ليست تلك النظم الفكرية والسياسية التي تقوم على مناهضة الأديان أو استهداف الشعائر الدينية أو التضييق على حريات الاعتقاد كما روجت وتروج الأنظمة السياسية العربية/الإسلامية منذ عقود، وإنما هي نظام متكامل سياسياً، وقانونياً، وفكرياً، وقيمياً، يرقى بالإنسان ويحرر ضميره. وما تعيشه الجاليات المسلمة في الدول الغربية وفي ظل علمانياتها من حريات الاعتقاد والتفكير لا تضمنه لهم "أنظمتهم الإسلامية" على مر التاريخ يعتبر مؤشراً جدياً وواقعياً على هذا. فما يجمع المواطنين في الدول العلمانية الديمقراطية هو الولاء للوطن أيا كانت عقائدهم ومذاهبهم، بينما في العالم العربي لم يتبلور هذا الوعي بعد لدى عموم الشعوب، فظل الولاء للدين أو للطائفة هو الجامع والمفرّق في نفس الوقت. ومهمة العلمانية في المجتمعات العربية الإسلامية مهمة مركبة ومعقدة، وما يزيد من تعقيدها مشاعر النفور التي ترسبت في الوجدان الجمعي بسبب التشويه الذي تعرض له مفهوم العلمانية الذي يحيل، بسبب هذا التشويه، إلى الكفر ومعاداة الدين، فضلا عن تحالف أنظمة وتواطؤ أخرى مع تيار الإسلام السياسي الذي مكّنته هذه الأنظمة من اختراق المجتمعات ومؤسسات الدولة ضمن استراتيجية أسلمة الدول والمجتمعات التي انطلقت منذ منتصف القرن العشرين[3].

كما يرى العديد من المفكرين والمعنيين في الشأن العام، أن صلب الإشكالية في حالة الركود والجمود التي تكتنف مجتمعاتنا، إنما تكمن في انتكاس حركة الاجتهاد في تأويل النص الديني، وعليه فهم يرون أن إعادة تأسيس حرية الاجتهاد ضرورة ملحة، لأنه من دونها لا مجال لتأسيس الحريات العامة المختلفة. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن حرية الاجتهاد هي الحجر الأساس الذي عليه يمكن أن نعيد الحيوية والإبداع إلى مجتمعاتنا الجامدة والعاجزة، عن اللحاق بالأمم الأخرى. ويضيف هؤلاء إن إعادة تأسيس حرية الاجتهاد وفق رؤية تاريخية للظاهرة الدينية، سيؤمن إعادة تأسيس التعددية في المجتمع. فلدحض سيطرة الأفكار الثيولوجية والثيوقراطية، وفك أسار الإنسان من التقليدية، وترشيد قواعد السلوك الاجتماعي وتحرره من الاستلاب، فإنه حري أن يتم تقديم قراءة جديدة للنص الديني، ووجود تأويلات مختلفة، ومخالفة لما قدمه حراس النصوص لكي تتوافق مع الظرف الآني المعاش، وبما يضمن خروج رجال الدين من دائرة حياة الناس، والعمل وفق أحكام العقل. بمعنى آخر، أنه آن الأوان أن يفكر الإنسان بعقله لا بكلام الفقهاء، أو تأويلهم للنصوص، ودفع المجتمع إلى العلمنة، وجعل الأفراد يتفكرون وينظرون ويتدبرون في شؤون العالم من خلال تأطير العقل العلماني، وحتى يحدث ذلك، فإنهم مدعوون بقوة إلى ضرورة فتح الاجتهاد من خلال التوكؤ على مفهوم المقاصد والمصالح والمغزى والروح والجوهر والضمير والوجدان والأخلاق[4].

وفي الواقع فإننا نجد الكثير من الأسانيد التي تحض على الاجتهاد وعدم الركون إلى النقل والتقليد في الإرث الديني نفسه، حيث نجد أحمد بن حنبل يقول: "لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي وأبو حنيفة وتعلّم كما تعلّمنا". وقال الجوزي: "في التقليد إبطال لمنفعة العقل لأنه إنما خلق للتدبر والتأمل، وقبيح لمن أُعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلام". وقال جمال الدين الأفغاني: "الدين يجل عن مخالفة العلم الحديث، فإن وقعت المخالفة وجب تأويل الدين". وقال أبو حنيفة: "كلامنا هذا رأي فمن كان لديه خير فليأت به". ومحمد عبده يقول: "المسلم الحق هو الذي يعتمد على العقل في شؤون الدنيا" و " وإذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما يدل عليه العقل".

بيد أن ذلك كله لم ينفع حتى الآن في قيام اجتهاد حقيقي يمكن أن يحدث تغييراً ذا معنى في "الفكر الديني المتعصب، الذي يتسم بالجمود والنصية الحرفية والإطلاقية واللاتاريخية، فضلاً عن النزعة الاستعلائية الإقصائية"، كما يقول محمود أمين العالم[5]. فالمعضلة الرئيسة التي ستواجه مسألة فتح باب الاجتهاد، هي المحافظة الشديدة الشائعة والسائدة في موضوع حرية الفكر والإبداع، والتواطؤ المعلن بين معظم الأنظمة العربية والمؤسسات الدينية القائمة.

وكل ذلك في ظل تعليم مدرسي يعتمد أساليب وطرائق تلقينية، تُحشى بها أدمغة التلاميذ والطلاب، ولا تحض أبداً على استخدام العقل والتفكير الحر، من مراحل التعليم الأولى، في الروضة، وحتى مراحله النهائية في الجامعة. وفي ظل فضاء ثقافي عام، شبه مغلق بآفاق وأسقف منخفضة جداً، لا يفسح مجال أمام نقاش حر وجرئ للمشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية. وهو ما يدفعنا إلى الاستمرار في الدوران في حلقة مفرغة، أو في نهوض جزئي، كما حدث أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومن ثم العودة إلى النكوص مجدداً، والارتداد إلى عهود سالفة. في حين يفترض بالتعليم والثقافة أن يسعيا إلى التحرر الفكري وتحفيز استقلالية المحاكمة العقلية، والحس النقدي لدى الطلاب والمتعلمين ومتعاطي الثقافة والعلم عموماً. وذلك من منطلق أن الغايات والأهداف الأساسية للمدرسة والعلم يجب أن تتمحور حول تنمية الثقافة وإعمال العقل وتنشيط الفكر التقدمي، نحو آفاق ثقافية ومعرفية أرحب، منفتحة على الكون والحرية باتساعهما.

والعلم يستخدم العقل في إدراك الظواهر وتحليلها واستنباط قوانين وآليات لفهم هذه الظواهر، واستخدامها وتطويرها وفق ترابط متشابك فيما بينها. وإعمال العقل يعني أن يكون العقل أساس فهمنا للظواهر الكونية والمحلية، الماضية والحالية، وألا يكون عليه من قيد سوى العقل ذاته.

وعندما تقول العلمانية بفصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة، فمن المفروغ منه أن هذا الفصل جاء تتويجاً لمسيرة طويلة، بدأت بتغيير نظرة الإنسان ذاته، على طريق إدراكه بأنه سيد مصيره، وقادر على صنع مستقبله بيده، بالاعتماد على قدرات عقله والعلم والمعرفة عموماً.

ويتفق الرأي على أن الغرب لم يحقق نهضته وإنجازاته في شتى المجالات: العلمية والصناعية والاقتصادية والإدارية والتربوية والحقوقية، إلا حينما تحرر من سيطرة وسطوة المؤسسة الكنسية وتفسيراتها المتشددة للدين، وأقام الدولة المدنية العلمانية. مع التأكيد عن أن فصل الدين عن الدولة، لا يعني فصله عن المجتمع أو الحد منه ومن دوره في حياة البشر، وإضعاف مكانته في منظومة القيم الأخلاقية والمسلكية. وعلى سبيل المثال، فالقيم الإنسانية والأخلاقية التي نادت بها مختلف الأديان، السماوية وغير السماوية (الهندوسية، البوذية، الكونفوشيوسية...)، يظل لها حضور كبير ومتميز في وجدان البشر وحياتهم عموماً، وخصوصاً دورها في توجيه وإرشاد مسلكياتهم وتعاملاتهم الحياتية.

تتَشكُلّ القيم الإنسانية والأخلاقية من خلال الوعي القيمي والأخلاقي، الذي بدوره يتطلب الشعور بالواجب والإحساس بالذات الحرة، وهو أمر ينعدم في المجتمعات التي تدمج الفرد مع غيره أو مع الحاكم. ومن هنا لا تكون التفرقة كبيرة بين الحرية والعبودية، لأن الجميع متساوون في المهانة أمام الحاكم، وبما أن الكرامة لا وجود لها بينهم، فليس للشخص حقوق فردية يتميز بها. وما أسهل أن يتحول هذا الشعور إلى الإحساس بالضعة والانحطاط. وهكذا تكمن اللاأخلاقية من وراء القناع الأخلاقي الزائف، وهو زائف لأن مصدره الخارج لا الداخل: الخوف من العقاب لا الإحساس بالواجب[6].

ويرى المفكر هابرماس، إن أفكار المساواة والعدل الحديثة هي استخلاصات علمانية من التعاليم والوصايا الدينية، ويضيف بأن "نزعة المساواة الكونية التي بزغت منها مثل الحرية والانعتاق والديمقراطية" هي إرث مباشر من الأخلاق الدينية الخاصة بالعدل والمحبة والتسامح[7].

ومن جانب آخر فإن فصل الدين عن المجتمع غير ممكن وهو أصلاً غير مطلوب، فللمجتمع آلياته الخاصة في استقبال القضايا المتصلة بشؤون العقيدة والإيمان وما تحتويه من منطلقات. ولكن ينبغي أن لا يتعارض هذا النظر إلى العلم والتعامل معه كقيمة عليا بحد ذاته، فضلاً عن كونه وسيلة ناجعة وأكيدة للتصدي لمختلف المشكلات التي تواجهها المجتمعات العربية التي أحوج ما تكون إلى ثورة علمية شاملة ومتكاملة، تطال مختلف أوجه حياتها ونشاطاتها، في الاقتصاد كما في المجتمع، وفي الثقافة كما في التعليم والبحث العلمي، وصولاً إلى السياسة وبناء الدولة.

فالعلمانية، محايدة تجاه الأديان وليست ضدها كما يزعم أصحاب الاتجاهات السلفية والحركات الأصولية، بل هي منهج علمي يضمن العمل وفق آليات ديمقراطية وعقلانية للحوار في المجتمع وتداول السلطة في الدولة بطريقة سلمية، وبهذا المعنى يمكن أن تكون أداة عملية لتوفير التطور الحقيقي لمجتمعاتنا، وتوفير المناخ الصحي لخلق أجيال تنمو في ظل مبادئ الحرية والمساواة والقبول بالآخر، ورفض التعصب والجهل والعنصرية ضد فئات بعينها.

الحرية والديمقراطية عماد العلمانية:

غالباً ما تقترن هذه المفردات مع بعضها بعضاً كمتلازمات تستدعي كل واحدة منها الأخرى، ولا توجد إلا بوجودها، فالعلمانية والحرية تكادا أن تكونا صنوين، لأنهما تقومان على احترام الإنسان وإرادته الحره، وحقه في الاختيار، وقيامه بذاته، وقدرته على الحفاظ على حريته من خطر سلبها منه.

فالحرية التي نقصدها هنا، هي ليست "حالة"، بل هي "فعل"، وهي لهذا تصاحب دائماً كل عملية انتقال من الإمكانية إلى الوجود، إن لم تكن هي وجودنا بأسره، من حيث إن هذا الوجود متوقف علينا، في سياق البحث عن التحرر من العبودية بكافة أشكالها دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، وهذا هو السبب في أن الحرية لا تنفصل مطلقاً عن المسؤولية التي نستشعرها إزاء ذواتنا. فالحرية إذاً ليست شيئاً باطناً فينا، بل هي عين وجودنا، وهي التي تسمح لنا بأن نخلق ذواتنا، فنحقق بذلك مصيرنا[8].

والحرية لا تتعين بوصفها كذلك إلا حين تترجم إلى ديمقراطية سياسية، تشكل ضمانة للعقل الحر والتعبير الحر، من خلال آليات دستورية وقانونية محددة.

العلمانية بلا ديمقراطية تتحول إلى حكم نخبة ضيقة تتصرف على هواها، وقد تميز بين الناس على أساس معارضة وموالاة، وعلى أساس الانتماء الحزبي. فالديمقراطية هي تجربة إنسانية جاءت بعد كفاح الإنسان وصراعه من أجل إثبات أدميته وكرامته وقيمته. ومن هنا فإن العقل البشري يفرضها، والأخلاق تحتمها للمحافظة على إنسانية الإنسان وحريته. فلا هي "غربية" ولا هي "شرقية" وإنما هي تجربة الإنسان بما هو إنسان، لأن الإنسان في كل مكان كافح وناضل ليصل إلى النظام الذي يضمن إنسانيته وكرامته[9].

لذلك، التحكم بالمجتمعات بأساليب غير ديمقراطية ينسف أسس المواطنة، وأهمها المساواة، ويؤول تدريجياً إلى تفريغ العلمانية من محتواها، الأساس، وهو حق الإنسان في تناول كل المسائل بحرية.

وهذا الحال ينطبق على سياسة الدول، كما ينطبق على سياسة الأحزاب، فالأحزاب التي تريد من أعضائها الالتزام المطلق بآراء القيادة، ولا تسمح للتنوع والتعدد في الرأي والتعبير داخلها، والتمتع بعقل نقدي فعّال يقبل بالآخر والحوار معه، تكون نموذجاً لأحزاب السلطة المستبدة، ولا تشكل بديلاً، في أي حال، عن تلك السلطات وأحزابها.

إن العلمانية كالديمقراطية، ليست مجرد آليات وقواعد تقنية يكفي تطبيقها حتى تصير المجتمعات ديمقراطية. فالديمقراطية التقنية في مجتمعات ألِفت الاستبداد وتشبعت بثقافته واستبطنت نزوعاته، لا يمكنها أن تكون ديمقراطية مهما ألزمناها بقواعد الديمقراطية في التصويت والترشيح وتشكيل الأحزاب والتنافس بين البرامج. مثل هذه المجتمعات ستفرز مستبديها وتُشرعن استبدادهم باسم الديمقراطية. والتجارب التي شهدتها بلدان عربية وكذلك تركيا الأردوغانية تؤكد أن الديمقراطية كآليات دون القيم والمبادئ التي تؤسس لها لن تكون إلا ديكتاتورية مقنعة سرعان ما تكشف عن وجهها الحقيقي، فيتغوّل الحاكم ويستبد بخصومه باسم إرادة الشعب. كذلك الحال بالنسبة للعلمانية التي هي قيم ومبادئ تؤسس للقوانين التي تحمي الحريات الفردية والجماعية، وتمنع هيمنة أية سلطة باسم المقدس على الشأن العام وضمائر الأفراد. هذه القيم والمبادئ تستبطنها الشعوب في وجدانها، فتجعلها تنفر من أية وصاية على الضمائر أو الحكم باسم السماء. هذه القيم والمبادئ هي التي تفتقر إليها ثقافتنا مما يجعل مجتمعاتنا أصولية في مجملها وغير متسامحة مع كثير من الممارسات التي هي من صلب العلمانية. وبسبب أصولية المجتمعات، تضع الأنظمة العربية التشريعات والقوانين التي تكرس هذه الأصولية وتناهض دعوات الانفتاح والدمقْرطة باسم الخصوصية[10].

إن الدولة القائمة على أساس علماني ديمقراطي هي دولة كل المواطنين، بصرف النظر عن جنسهم أو لونهم أو عقيدتهم، وهي أصلاً لا تنهض على الإيمان، إنما على المواطنة، والفصل بين الدين والسياسة، وإبعاد الثابت (الدين) عن المتحول (السياسة)، والعلمانية هي مفتاح المواطنة الشاملة.

والسؤال الذي يطرح هنا، كيف يمكن أن نؤمِن حياد الدولة بين الأديان والمذاهب وتعاملها المتساوي مع جميع المواطنين، بوصفهم مواطنين أحرار لا رعايا؟

إن قوة المجتمع المدني والدولة القائمة على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، ووجود ثقافة ديمقراطية وفكر حر ومرن، وتعدد منابر التعبير الحر والطليق والصحافة الحرة، ووجود الأحزاب السياسية، وحرية المرأة ومساواتها، وتحقيق العدالة الاجتماعية، هي التي تشكل أنسب الشروط والمناخات لجعل العلمانية ممكنة على أرض الواقع.

وبهذا المعنى لا تجد العلمانية حقها في الوجود إلا في مجتمعات تعرف قيمة الإنسان وتحترم حقوقه وتقدس حرياته. أما في فترات التخلف، فمن الطبيعي أن تنحسر قيم الديمقراطية وتصبح المطالبة بحرية الإنسان وحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تهمة تقع تحت طائلة المحاسبة والعقاب.

وفقاً لما سبق، فإن العلمنة غير منفصلة عن الحداثة، بل ترتبط بها وبمستوى تقدم عملية بناء المؤسسات الحديثة وأنماطها، وكما يقول برهان غليون: فالعلمنة "جزء لا يتجزأ من الصيروة الحديثة"، بمعنى أنه لا يمكن تصور دولة حديثة أو قيامها من دون مبادئ أهمها: فصل السلطات، وضبط المسؤوليات، ونشوء بنية مؤسسية تعزل السلطة عن العلاقات الشخصية. ولا يمكن وجود اقتصاد حديث اعتماداً على مفاهيم الربا والخراج والصدقة... ذلك أن المعرفة العلمية تفترض بناء المعرفة الاختبارية على حساب المعرفة النقلية والإلهامية، ولا يمكن بناء مجتمع حديث يتمتع فيه الفرد بالأهلية السياسية، ويشارك بروح المسؤولية في تقرير شؤون الجماعة، على أساس مفهوم الراعي والرعية والطاعة الأبوية أو الدينية"[11].

ويعتبر غليون، بان أزمة مجتمعاتنا العربية ناجمة عن "القطيعة المتنامية بين الوعي الحديث (بما يعنيه من تجديد تطلعات الأفراد وتحديثها) من جهة، والممارسة المجتمعية التي تزداد صدماً لتلك التطلعات، وما نجم عنها من نزاعات بين النخبة المتنافسة للسيطرة على الفضاء العمومي"، عازياً ذلك إلى "تراجع النظام الحديث عن أهم شرط مؤسس للحداثة، أي الحرية، المتمثلة في مجموعة الحقوق الأساسية، كحق التعبير والتنظيم والمسؤولية الفردية، وأمام ارتداد الدولة عن الحداثة، أي عن العلمنة السياسية، وانحدارها في ممارساتها إلى مستوى المقبرة الجماعية للحريات الفردية، والحقوق الإنسانية، في سبيل العودة نحو صيغ سلفية متطرفة في عدائها لقيم الحداثة ومعالمها، صيغ تجمع بين الاستسلام لسيطرة أمراء الدين، وأحياناً أمراء الدين والحرب معاً، والتخلي الإرادي والحماسي من قبل الفرد عن حريته ومسؤولياته العمومية"[12].

من المفيد التنويه هنا، إلى أن الأغلبية الساحقة من دول العالم، هي دول علمانية، أو تأخذ بمبدأ العلمانية، إلى هذا الحد أو ذاك. وعلى الضد من مزاعم بعض الأوساط التي تدعي عدم توافق العلمانية وانسامجها مع واقع الدول ذات المجتمعات الإسلامية، فإن وقائع الحياة تدحض هذا الإدعاء، وتؤكد أن ما يزيد عن 45% من المسلمين في العالم يعيشون في دول أنظمتها علمانية.

ثم، ألا تشكل العلمانية جانباً رئيساً من حياة "الدول المسلمة". من خلال التعليم المدني والقوانين الوضعية والبرلمان والدستور والتعليم الجامعي والنظام الاقتصادي.. ألا يدفعنا كل هذا الشيوع للعلمانية والعلمنة في مختلف مناحي الحياة إلى السؤال عن سبب نجاحها والاضطرار إليها؟!

المراجع:

[1]. علم اللاهوت، هو علم دراسة الإلهيات دراسة منطقية، وقد اعتمد علماء اللاهوت المسيحيين على التحليل العقلاني لفهم المسيحية بشكل أوضح، ولكي يقارنوا بينها وبين الأديان أو التقاليد الأخرى، وللدفاع عنها في مواجهة النقد، ولتسهيل الإصلاح المسيحي.

2. رسلان عامر: مواقف العلمانية من مشاكل العصر المختلف، موقع مؤمنون بلا حدود، 28 تشرين ثان (نوفمبر) 2018: https://www.mominoun.com/articles-

3. عبد الله العروي، مفهوم الدولة، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1983.

4. إميل أمين: ما بعد العلمانية ... محاولة لتجديد التراث، جريدة الحياة، 16 يوليو 2016.

5. محمود أمين العالم: الفكر العربي بين الخصوصية والكونية، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1996.

6. إمام عبد الفتاح إمام: الأخلاق والسياسية: دراسة في فلسفة الحكم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010.

7. عبد العزيز ركح: ما بعد الدولة – الأمة عند يورغن هابرماس، دار الأمان، الرباط، ط.1، 2011.

8. زكريا إبراهيم: مشكلة الحرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط.3، 2010.

9. إمام عبد الفتاح إمام: الأخلاق والسياسية، مصدر سابق.

10. زياد الوهر، "الدور السياسي للمثقف العربي"، جريدة الرأي ميديا، الكويت ، بتاريخ: 13 كانون أول (ديسمبر) 2015:

www.alraimedia.com/Home/Details?Id=59da7268-36b9-412a-858c-efc78d277d79

11. برهان غليون: من العلمانية إلى العلمنة، مجلة الآداب اللبنانية، تاريخ 10 تشرين ثان (نوفمبر) 2007.

12. برهان غليون: من العلمانية إلى العلمنة، المصدر السابق.