دعني أؤكد منذ البداية أني أكن احتراماً خاصاً وعميقاً لقائل هذه المقولة، وأني أدرك أنها تعبير قوي عن إرادة المقاومة والنضال وعن عزيمة صادقة في مقارعة العدو المحتل.
لكن هذا الاحترام الغامر لا يعني البتة القبول بهذه المقولة على عواهنها، ولا يستثني إخضاعها إلى تمحيص النظر العلمي الصارم فيها. فنحن الماركسيين لا ننطلق في مواقفنا من إيمان أعمى أو ثقة ذاتية أو روح نضالية مثالية أو براغماتية تتستر بميزان القوى أو رغبة في إرضاء هذه الجهة أو تلك، وإنما من تحليل معمق لوقائع التاريخ في ضوء آلياته الداخلية وتناقضاته وقواه وآفاقه الممكنة. فالحقيقة الموضوعية هي أساس الفعل الثوري وأكبر قوة ثورية في حد ذاتها.
وفي هذا السياق، أتذكر كيف أوقع كثير من المناضلين والتقدميين أنفسهم في فخ أوسلو، بعد أن "تناسوا" وقائع التاريخ وقوانينه وانساقوا وراء أوهام اللحظة البائسة، مبررين هذا الانسياق بتغير موازين القوى في ضوء انهيار الاتحاد السوفييتي وضرب العراق وحصاره. بل، بلغ بهم الأمر أن أخذوا يروجون لمقولة إن الصهيونية تغيرت ونزعت أنيابها وأظافرها، بل ونزعت ذاتها العدوانية من ذاتها. كذلك، ذهبوا إلى القول إن الإمبريالية الأميركية ما عادت في حاجة إلى الكيان الغاصب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وكل ذلك جاء في سياق تبرير الاستسلام و "تناسي" التاريخ وقوانينه وإلحاق مؤسسات الشعب الفلسطيني بالعدو الصهيوني واستراتيجياته.
لكن التاريخ لا يرحم. وهو يفرض حقيقته الموضوعية برغم فيض التزوير الآيديولوجي والأوهام، الذي أغرق به المنطقة الإعلام الصهيوإمبريالي والبرجوازي العربي.
فما هي هذه الحقائق الموضوعية التي أغفلها مؤيدو أوسلو والتسوية الاستسلامية مع العدو الصهيوني؟
- إن الكيان الصهيوني كيان استيطاني إحلالي في جوهره، يرتكز إلى أسطورتي الأمة اليهودية الأزلية وأرض الميعاد الأزلية أيضاً. إنه ينطلق من وهم أن الطوائف اليهودية المتناثرة هنا وهناك تشكل أمة قومية بالمعنى الحديث، وأن لهذه الأمة وطناً قومياً هو أرض الميعاد. وهذا الكيان يمارس سرقة الأوطان والتطهير العرقي على هذا الأساس العنصري. فالصهيونية فاشية عنصرية من أشنع الأصناف في جوهرها.
- إن أرض الميعاد ليست محددة الموقع والحدود. صحيح أنها تتضمن ما نسميه فلسطين التاريخية، لكن حدودها متغيرة ومتمددة حسب الاحتياجات الجيوسياسية للكيان الصهيوني. لقد ابتدأ الكيان الصهيوني بفلسطين التاريخية، لكن هذه هي مجرد البداية. فالدلائل تشير إلى أن أرض الميعاد تتضمن أيضاً محيط فلسطين التاريخية من النيل إلى الفرات على الأقل. إنه كيان عدواني توسعي بلا حدود في بنيته الداخلية.
- إن بروز الصهيونية وكيانها الغاصب جاء في سياق الغزو الإمبريالي الغربي للوطن العربي والتفكيك الإمبريالي الغربي للوطن العربي وإلحاقه بالمراكز الرأسمالية الكبرى. لكن هذا لا يعني أن الكيان الصهيوني هو مجرد أداة من أدوات مركز إمبريالي بعينه. فالكيان الصهيوني هو جزء عضوي من النظام الإمبريالي الغربي، لكنه نواة لمركز إمبريالي في حد ذاته. إنه نواة لمركز إمبريالي يتوق إلى التمدد والتوسع عسكرياً واقتصادياً وثقافياً في المنطقة العربية وفي غيرها أيضا.
- إن للصهيونية وظائف في النظام الإمبريالي الغربي تتعدى الكيان الصهيوني في حد ذاته. وبصورة خاصة، فإن لها وظائف آيديولوجية أساسية في هذا النظام. وبصورة خاصة، فإنها تمثل الجناح الأكثر ظلامية في آيديولوجيا الطبقات الحاكمة في النظام الإمبريالي الغربي.
- وتنبع قوة الكيان الصهيوني من الوظائف العالمية للصهيونية ومن كونه نواة مركز إمبريالي ينفذ المشروع الإمبريالي الغربي عبر تنفيذه مشروعه الصهيوني التوسعي العدواني الخاص. وهذا يعني أن دحره لا يمكن أن يتم إلا في سياق دحر المشروع الإمبريالي الغربي برمته في الوطن العربي، أي في سياق انتصار حركة التحرر القومي العربية.
إن الكيان الصهيوني هو امتداد مباشر لتيار رئيسي من تيارات الإمبريالية الغربية يتشابك عضوياً مع التيارات الرئيسية الأخرى. من ثم، فهو مدعوم ومول من النظام الإمبريالي الغربي برمته وهذا هو أساس قوته؟
ولما كان الكيان الصهيوني جزءاً عضوياً من النظام الإمبريالي الغربي، فإن دحره ليس بالأمر الهين، لأنه يعني دحر الإمبريالية الغربية برمتها في الوطن العربي، على غرار ما تم في جنوبي شرقي آسيا في منتصف سبعينيات القرن الماضي. لذلك، لا يمكن أن يدحر إلا في سياق إعادة بناء حركة التحرر القومي العربية على أسس علمية ثورية نقدية جديدة، وكل ذلك في سياق إعادة بناء حركة التحرر الاشتراكي العالمية.
وإذا أرادت حركة المقاومة الفلسطينية أن تكون فعالة في مقارعة العدو المحتل، فعليها أن تفكر وتتصرف عربياً وعالمياً. أي، عليها أن تمارس الفكر والنضال بوصفها فصيلاً طليعياً من فصائل حركة التحرر القومي العربية في سياق الثورة الاشتراكية على الصعيد العالمي.
وهذا ما ينبغي أن تفعل أيضاً جميع الحركات الثورية التقدمية العربية في طول الوطن العربي وعرضه. أما التفكير الضيق الانعزالي، فلا يمكن أن يقود إلا إلى التسويات الاستسلامية المذلة، التي يدفع ثمنها غالباً الشعب الفلسطيني وجماهير الأمة العربية. وبصورة خاصة، فإن التفكير البراغماتي الضيق يقود إلى إغفال العلاقة العضوية التي تربط الكيان الصهيوني بالإمبريالية الغربية والرجعية العربية، ومن ثم تقود إلى أن يلحق حامل هذا الفكر نفسه بالعدو ويضع نفسه تحت تصرف العدو في تنفيذه مخططاته التصفوية. وهذا بالفعل ما قاد إليه كامب ديفد وأوسلو ووادي عربة.
قد يبدو هذا الكلام طوباوياً. لكن القضية الفلسطينية قضية جذرية، ومن ثم تستلزم حلولاً جذرية. فإما السعي إلى تحقيق ذلك، وإما الاستمرار في حالة التردي والتدهور إلى ما لا نهاية. علينا أن نتعلم من التاريخ ومن تجاربنا مجابهة الواقع المر مجابهة جريئة ومباشرة وجذرية، وإلا كتبنا على أنفسنا الاندثار الوطني والقومي.