Menu

اليسار الفلسطينيّ: الأزمة جوهريّة، الأمل وليد المرحلة

مجد كيّال

نقلًا عن السفير العربي

أزمة اليسار الفلسطيني متجذّرة في تكوينه وليس مصدرها التغيّرات السياسية المرحلية فحسب. ليست نتيجة لا لتسليم الجبهات الفلسطينية بواقع أوسلو، ولا لانهيار الاتحاد السوفييتي، ولا لصعود الإسلام السياسي، ولا لغيرها من الأسباب التي تصطّف بروتينية طوابير الصباح كلما رغبنا بتحليل أفول اليسار. لم تتكوّن الحركة اليسارية الفلسطينية من باطن الصراعات الداخلية للمجتمع الفلسطيني، إنما في مواجهة استهداف استعماري لوجود هذا المجتمع بكليته. نشوء يغيب منه التحليل والصراع الاجتماعيين كشرط أساسي للفكر وللتنظيم اليساري. هذا نشوء غير تقليدي ومأزوم بحدّ ذاته، تطلّب ولا زال يتطلّب اجتهاداً استثنائياً لتشكيل قراءة اجتماعية للصراع وطرح تصوّر يساري لتحرير فلسطين يتقدّم عن ضيق الطروح القومية. لكنّه اجتهاد لا يزال غائباً.

التنظيمات اليساريّة المركزيّة في فلسطين - وأبرزها الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية - نشأت من ركام مجتمع حَطّمت النكبة ترتيبه الطبقي والاجتماعي. لم يشهد مسار التاريخ الاجتماعي تحوّلاً بل شهد انفجاراً: انهارت المنظومة الاقتصادية وانهارت معها موازين القوى الداخلية، دُمّرت الحياة المدنية والريفية على حدٍ سواء، ذَوّب اللجوء الانتماء المحلي، سُلبت ثروات مَنْ مَلَك، إلى آخر ذلك من دمارٍ لا حصر له أنزلته الصهيونية على مجتمعنا. بمواجهة هذا الصدمة والخراب المهول، ومحدودية إمكانيات الاجتهاد الفكري في هذه الظروف، باتت أدوات الفهم الاجتماعي مشلولة، وتراجعت لتُفسح الأولوية لصراعٍ قومي تحرّري ضد قوة أجنبية. هكذا، وُلدت تنظيمات تنتمي للفكر اليساري، وكانت منذ بداية طريقها مرتبكة وهشة مهما بلغ اجتهادها. لم تجد الحركات الفلسطينية في الماركسية الكلاسيكية ما يعبّر عن حالة شعبها، أسقطت المفردات والرموز على الحالة دون أن تؤسس تحليلاً بأدوات ماركسية لقضيتها وصراعها.

التفكير بأزمة اليسار الفلسطيني يحتاج خطوة واحدة للخلف، حتى نعرف ماهيتها: هل تكمن أزمة اليسار في فشله بأن يُسقِط نظاماً سياسياً؟ هل تكمن في أنّه لم يعد يشكّل حركة جماهيرية واسعة؟ هل تكمن في انهياره تنظيمياً؟ في جمود خطابه الفكري؟ هذه عوارض ناتجة عن الأزمة، أما ماهيتها فهي تفشي الميزات اليمينية في الحركة اليسارية. كل تنظيم سياسي ينطوي على ميزات سياسية نقيضة له. فلا حصر للأمثلة عن أحزاب يمينية خاطبت الفقراء والفئات المستضعَفة وحملت همومهم فعلاً. ولا حصر للأمثلة عن احزاب يسارية انبنت على ممارسات شمولية وقمعية وتحالفت مع النخب أو حتى مع القوى الاستعمارية. تكمن الهزيمة الحقيقية لليسار في أن تستحوذ عليه الميزات اليمينية، وتنتشر فيه حتى تمحو القيم والعقلية اليسارية، فتُبقي على الطابع والرموز بينما تسحق الجوهر. أي حين تصبح الرؤى المحافظة والعصبوية عاملاً أساس في التنظيم والخطاب اليساري. حين ينتشر في داخله ورم الرجعية. هكذا يُهزم اليسار.

الأزمة في الجذور

عالمياً، تضرب في عمق معظم الحركات اليساريّة، ولا سيما التنظيمات الكُبرى منها، بذور يمينيّة من الذكورية والسلطوية واستنساخ علاقات القوة الاجتماعيّة (القبلية أو الطبقية أو الجندرية) في داخل التنظيم السياسي ولغته التي تنشأ، غالباً، على تمجيد القوة والضخامة والوحدة والتجانس. قد تكون الستالينّة هي النموذج الأكثر تطرفاً لهذه الحالة، لكنّ النماذج كثيرة ومتفاوتة، وهي حاضرة في الجزء الأكبر من التنظيمات اليسارية. لكن هذا وحده لا يُمكنه أن يكون ذمّاً تلقائياً وطُهرانياً خارج السياق التاريخي لتطور هذه الحركات. فهذه الحركات هي، أولاً، منتوج حداثي حمل معه سمات تقليدية تجذّرت لعصورٍ في المجتمعات. والأهم أن تنظيمات اليسار نشأت وتطوّرت غالباً في مواجهة أنظمة حكم متوحشة (إن كانت الملكيّة والإقطاع والكنيسة في أوروبا، أو الاستعمار ثم الأنظمة الملكية والاستبدادية من بعده في الوطن العربي) استخدمت كافة الاستراتيجيات الإجرامية لكسر إرادة الناس وتخويفهم والامعان في إذلالهم وإضعافهم. وقد تركت طبيعة هذه المواجهة ندوباً كثيرة في ملامح التنظيمات اليسارية.

نشأت التنظيمات اليساريّة المركزيّة في فلسطين - وأبرزها الجبهتان الشعبية والديمقراطية - من ركام مجتمع حَطّمت النكبة ترتيبه الطبقي والاجتماعي. لم يشهد مسار التاريخ الاجتماعي في فلسطين تحوّلاً بل انفجاراً.

ينطبق هذا على حركات التحرّر الوطني الفلسطينية أيضاً: انبثقت من قلب مجتمعٍ لا تنقصه المركّبات القبلية والسلطة الأبوية. لكن الأهم من ذلك أنها واجهت عدواً ممعناً في جريمته التي أهدرت دم الناس وحياتهم بأبشع أدوات التطهير العرقي، وحطّمت وجودهم المادي والمعنوي. عدو متقدّم في قدراته العسكرية والاستخباراتية والتنظيمية، ويتجذّر فيه استعلاء يحتقر أهل البلاد، يبرر رفض الاعتراف بهم شعباً، فيُقال بأن الفلسطينيين كانوا "رحّلاً" أو أن أرضهم كانت قاحلة، أو أنهم لم يكونوا شعباً، إلى آخره من الادعاءات التي تهدف إلى طمس الوجود الاجتماعي الفلسطيني من السيرة التاريخية. تُنزع عن الفلسطينيين كل صفةٍ جماعيّة، ويكون هذا حجر الأساس في مصادرة حقّهم بتحديد مستقبلهم وتقرير مصيرهم. تَمثّل ذلك برفض الاعتراف بالوجود الفلسطيني أصلاً، والشرذمة المنهجية للناس من خلال تعزيز الانتماء الطائفي والمحلي والقبلي. كان النسيج الاجتماعي مستهدفاً ولا يزال، بواسطة تدمير أسسه المادية ومنعه من التطوّر، وتأليب الاختلافات داخله بهدف تمزيقه، واستغلال ثغراته بما يخدم النظام الصهيوني (بدءاً من المستوى الأبسط مثل استخدام الابتزاز الجنسي لتجنيد العملاء وصولاً الى استخدام الحمائليّة لتأليب نزاعات قبلية وغيرها).

يفسّر هذا الاستهداف العديد من الميزات اليمينية التي تجذّرت في اليسار الفلسطيني الناشئ. ففي ظل استهداف النسيج الاجتماعي، تحوّلت المحافظة الاجتماعية إلى قيمة نضالية قائمة بحدّ ذاتها، رغم أنّها خاصيّة يمينيّة بامتياز. أما واحد من أبرز شعارات النضال الفلسطيني، شعار الوحدة الوطنية، فهو بحد ذاته نداءً صريحاً لتجنيب الصراعات الاجتماعية الداخلية خدمة لمواجهة عدو أجنبي. وعمل هذا الشعار، في مراحل كثيرة، كغطاء لاستسهال التنازل عن المواقف الاجتماعية القيمية، والتنازل عن التعبير عن مصالح الفئات المضطهَدة بذاتها.

طبيعة الصراع مع إسرائيل تقدّم تفسيرات كثيرة لتجذّر الميزات اليمينية في تنظيمات اليسار. اضطر الفلسطينيون للجوء إلى العمل العسكري في مواجهة إسرائيل، وتطلّب هذا تنظيماً حديدياً بكل ما تعنيه الكلمة من الالتزام التام والطاعة العمياء والتمترس والانغلاق. كان هذا التنظيم الحديدي عاموداً فقرياً لهذه التنظيمات، وهو يحمل ميّزات تتناقض مع الحس النقدي ومعاداة السلطوية والانفتاح والشفافية التي يُفترض أن تميّز الحركة اليسارية عن اليمين. وكما في التعصّب العائلي نجد "رابط الدم" عاملاً أساسياً، اعتمدت تنظيمات اليسار رابط دمٍ من نوع آخر: تقديس دماء الشهداء الذين قضوا في نضالات التنظيم وتحويلها إلى أداة ابتزاز عاطفي ترفع التنظيم نفسه إلى مرتبة القداسة أيضاً.

يفسّر استهداف النسيج الاجتماعي الفلسطيني من قبل الاحتلال الاسرائيلي العديد من الميزات اليمينية التي تجذّرت في اليسار الفلسطيني الناشئ. ففي ظله، تحوّلت المحافَظة الاجتماعية مثلاً إلى قيمة نضالية قائمة بحد ذاتها، رغم أنها خاصية يمينية بامتياز.

في صلب التنظيم السياسي اليساري، وخاصةً في حالة التنظيمات اليساريّة المركزية والكبرى، وهم الهيبة والقوة الذكورية المتضخمة. وينشأ منه رفضاً بنيوياً لأن يتحرّر الأفراد من انتمائهم التام، وكذلك رفض تشكّل مؤسسات أو أطر تنظيمية أصغر منه لا تخضع له بالكامل، أو تيارات مقبولة في داخله. أبقى التنظيم اليساري على صورته كإطار سياسي ضخم، بينما بالحقيقة تسرّب معظم أفراده إلى أطر عمل صغيرة مختلفة، منها بالأساس المؤسسات "غير الحكومية"، وهامش صغير من المجموعات الصغيرة الناشطة في قضايا مختلفة. ويجدر الانتباه إلى أن النقد الموجه للمؤسسات "غير الحكومية" مثلاً، بدأ من قبل أن ينتشر الخطاب المناهض للتمويل الأجنبي، وقبل أن يتّضح حجم تدخّل المانحين وأثرهم. إذ كان منطلق هذا النقد في أن الحركات لم تستوعب كيف يستطيع أعضاء مركزيين فيها أن يؤسسوا أطراً فاعلة لا تخضع للهرمية الحزبية، وأن تستخدم لغةً غير لغة التنظيم. وظلّت الحركات تتعامل مع هذه الأطر باستعلاء، على أنها هامشية وتفتقر للرؤية والأيديولوجيا والتنظيم الجماهيري العريض، بينما في الواقع كانت هي تنتشر على المستوى الاجتماعي والحقوقي والثقافي، وكان دورها في صياغة الواقع السياسي (بغض النظر عن الموقف من هذه الصياغة) أكبر بكثير من دور أحزاب يسارية مثل الجبهة الشعبية أو الجبهة الديمقراطية.

مثال المؤسسات "غير الحكوميّة" قد يدلّنا على أن الأزمة جذرية وبذورها تكمن في لحظة تكوّن اليسار الفلسطيني. لكنّ هذه البذور لا تتجسد إلا من خلال السيرورة التاريخيّة، من خلال القرارات والأنماط السياسيّة التي تنتهجها الحركة، ومن خلال الاحداث المفصلية والمراحل التاريخية. هذا ما يُعطي الأزمة مضمونها ويجسدها. المشكلة أن بحث الأزمة غالباً ما يركّز في الأحداث التاريخيّة دون أن يعود إلى تأصيل قيمي وتحليل اجتماعي: مشكلة هائلة أن نحلل أزمة اليسار من خلال الأحداث السياسية فقط، وكأنه بحث تقني ونفعي يدرس الحركة بمعايير الانتشار الجماهيري والتحصيل السياسي، دون أن تُطرح الأسئلة القيميّة في قلب السؤال عن الهزيمة، ودون أن ننبش الملامح الاجتماعية في داخل الحركة السياسية.

الخيارات التي لم تُتخذ بعد

خيار الخطاب الاجتماعي والنضالات الداخليّة لم يُطرق أبداً بالنسبة لليسار الفلسطيني. هو خيار دُفن تحت هيمنة "الوحدة الوطنية". إلا أن هذه الأخيرة لم يعد لها في أيامنا (من دون مبالغة) أي قيمة حقيقيّة. ولم يبق منها غير سوط قمع وتخوين النضالات ضد القمع الاجتماعي، إن كان ذلك في مسائل الحريات الفردية أو في مسائل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والفساد والنهب وسلب لقمة العيش.

استلال هذا الخيار ممكن ويتوجب الآن لأسباب عدّة. منها الأكثر جذرية: النضال من أجل التغيير الاجتماعي، ضد الذكورية وضد الإفقار، هو فعل عضوي في مقاومة الاستعمار. يسعى الاستعمار لتضييق الحيّز الجمعي للمستعمَرين، ومنع ائتلافهم في مساحات (مؤسسات أو حتى مساحات عامة) يلتقون بها ويشكّلون روابط تُعرّف مصالحهم المشتركة وتُعيد مشاكلهم الفئوية والذاتية إلى جذورها، أي إلى هيمنة النظام الاستعماري عليهم (على مواردهم وثقافتهم وحركتهم وغيرها). يُضيّق الاستعمار الحيّز الجمعي ليس من خلال تفكيكه، إنما من خلال زيادة حالات الاقصاء في داخل المجتمع، إما من خلال الشرذمة التي تؤلّب فئات اجتماعية على بعضها فتُبعدها وتُغلقها وتحبط التواصل فيما بينها، وإما من خلال الإفقار الذي يعيد الناس إلى ملاحقة حاجاتهم المادية الأساسية ويردّهم عن التفاعل مع الشأن العام، وإما من خلال الإقصاء الذكوري للنساء، والذي يدخل ضمنه اقصاء الشباب واليافعين من الشأن العام. مكافحة هذا الاقصاء داخل المجتمع، من خلال مواجهة الذكورية، وبناء تكافل اجتماعي يتحدّى الإفقار، ومواجهة السلطة القبلية والطائفية باعتبارها المدخل الأسهل للشرذمة الفئوية، هي كلّها نضالات اجتماعيّة تقع في صلب التحرّر الوطني. هذه أعمدة أساسية في التصوّر الاجتماعي للتحرّر من الصهيونية.. وهو برنامج التحرر الوطني الفعّال.

لا أمل آني في التنظيمات اليساريّة كما هي اليوم. لكن من يتمسك بالرؤى اليسارية من أفراد ومن مجموعات وتنظيمات، مهما كانت صغيرة، يمتلك فرصاً ومسؤوليات. التمسك بالقضايا الاجتماعية التي تمس لقمة عيش الناس وحقوقهم اليومية البسيطة يمكنه أن يؤدّي دوراً مفصلياً في مواجهة النظام الصهيوني: في الضفة الغربية، حمّلت إسرائيل وكالة الاحتلال للسلطة الفلسطينية. وأصبحت هذه السلطة مظلةً لتُدير حياة الناس. المواجهة الاجتماعية مع هذه السلطة، في قضايا مثل الضمان الاجتماعي أو حقوق المعلمين أو حرية الصحافة هي نوع من المواجهة غير المباشرة مع إسرائيل وهي تزيد وتيرة الضغط على منظومة الاحتلال.

وفي غزة، وهي الحالة الأكثر تعقيداً، فإن النضال الاجتماعي يجب أن يهدف إلى ألا يُشكّل حكم حماس سَحقاً إضافياً للناس فوق ما يفعله الحصار الإسرائيلي. المقاومة أولويّة. لكنّ المقاومة تحتاج أيضاً أن يصمد الناس على المستوى الاجتماعي والنفسي. فمن الممكن أيضاً أن "يصمد" الناس كوجود مادي (خاصةً حين يُمنعون من مغادرة القطاع) بينما تتآكل وتنهار حياتهم من الداخل. التحرّك الاجتماعي في داخل غزّة هام، لأنّه مَعامل التمسك بحياة اجتماعية صحية ودينامية في مواجهة حصارٍ يسعى لأن يجمّد غزّة في الزمن ويجعل من أهلها سجناء.

أما داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 فإن المشكلة الأساسية تكمن في ارتهان الأحزاب السياسية جميعها لمظلة المواطَنة الإسرائيلية، وقد فقدت إثر ذلك قاعدتها الجماهيرية (وليس قاعدة المصوِّتين)، بينما تمضي رموز الشعبوية المقيتة والخطيرة المتحالفة مع إسرائيل لبناء قاعدة جماهيريّة بأدوات العصبيّة العائلية والمحلية. العمل الاجتماعي المباشِر في قضايا مثل الشغل والتعليم والعمل الخيري، بات الوسيلة الوحيدة لاستعادة ما فُقد من صلة مع الأغلبية المنتهَكة والمسحوقة التي هجرتها الأحزاب السياسية، وتسعى إسرائيل اليوم إلى استدراجها.

أما اللجوء الفلسطيني، فإن واحدة من أبرز معاركه السياسية اليوم تتمثّل بالتمسك بحق العودة وصفة اللجوء التي يحاول العالم تصفيتها. واحدة من أدوات التصفية الأساسيّة هي إغلاق الأونروا. هذه ليست مجرّد مسألة سياسية تتعلّق بالحقوق التاريخية، لكنها قبل كل شيء مرتبطة بحقوق الناس الاجتماعيّة البسيطة، في الأكل والتعليم والسكن لشعبنا المشتت الذي قاسى جبال العذاب منذ النكبة وحتى اليوم.