"... وهذه هي كاتدرائية نوتردام"، قاطعتنا المُترجِمة التي ترافقنا على ظهر مركبٍ سياحيٍّ يمخر نهر السين، بينما كنا نتجادل حول أمورٍ أخرى ونحن على وشك تناول وجبة الغداء على ظهر المركب، بدعوةٍ من قبل الخارجية الفرنسية، لعددٍ من الزملاء الإعلاميين الفلسطينيين، ولم يظهر من الكاتدرائية سوى جزئها العلوي فقط.
عند هذه المقاطعة عدتُ إلى سنواتٍ خلت، عندما كنت أتصفّح بعض الكتب التي تباع على قارعة الطريق في أحد شوارع بيروت، حيث اعتدتُ أن أشتري معظم كتبي من هناك. ولفت انتباهي كتابًا لفيكتور هوغون الذي كنتُ قد قرأت له في وقتٍ سابق روايتَه الشهيرة "البؤساء". ترددتُ كثيرًا في شراء الكتاب نظرًا لغلافِه الذي تضمّن رسمًا لوجهٍ بالغِ القباحةِ ومخيفٍ، تركتُ الكتابَ لأتصفّح كتبًا أخرى، لكنّي إليه لكونه للروائي فيكتور هوغو، الذي كنت وما زلت معجبًا بروايته. وعلى مضضٍ حملتُ رواية "أحدب نوتردام" مع كتبٍ أخرى. واكتشفت بعد قراءتي للرواية أنّي أخطأت كثيرًا لدى تردّدي في شرائها، إذا أعتبرها أكثر عمقًا من "البؤساء".
والآن عدت من جديد للرواية وللكاتدرائية، بعد الحريق الذي غيّب جزءًا هامًا منها.
الترجمة العربية لرواية "أحدب نوتردام" لم تكن ترجمة حرفية أمينة لعنوانها؛ إذا أن ترجمة العنوان من الفرنسية إلى العربية هو "كنيسة سيدة باريس"، والسيدة هنا إشارة إلى مريم العذراء. كما أن هناك ثلاث شخصيات أساسية في الرواية، هي: الأحدب، والكاهن والغجرية الحسناء أزميرالدا. لماذا اختار المترجم العربي في ترجماتٍ متعددة عنوانًا مختلفًا عن الأصل الفرنسي؟ ولماذا اختار بالذات شخصية الأحدب على ما عداها من شخصيات الرواية الأساسية؟ الإجابات عديدة، تتعلق بالتشويق حينًا، والتركيز على الجماال الداخلي لشخصيةٍ مشوّهة جسمانيًا حينًا آخر، وتبريراتٍ أخرى عديدة، من بينها أنّ الترجمة إلى الإنجليزية كانت كذلك.
ما تتوجّب ملاحظتُه في هذا السياق؛ أن هذه الكاتدرائية، كانت تراثًا فرنسيًا، أو حتى باريسيًا محليًّا، لم تحظَ بالاهتمام اللّاحق، على كافة المستويات في فرنسا والعالم، إلّا بعد أن صدرت رواية فيكتور هوغو "أحدب نوتردام". ويُقال أن السلطات الفرنسية أخذت بالاهتمام بالكاتدرائية، وقامت بترميمها منذ ذلك الوقت وحتى الآن، بعد صدور الرواية وبسببها إلى حدٍ بعيد. وانتشار الرواية عالميًا أدى إلى تعلقٍ إنسانيّ واسعٍ على النطاق الأرحب؛ مما أدّى إلى أن تصبح هذه الكاتدرائية أثرًا إنسانيًا مؤثرًا في التراث العالمي.
وإذ يعرف الناس فرنسا من خلال "برج إيفل"، فإن الطابعَ التشكيليّ لهذا البرج عوّض عن قيمته التاريخية المحدودة، مُقارنةً بالكاتدرائية؛ مع أن زوّار الكاتدرائية أكثرَ بكثيرٍ من زوار "إيفل".
أثناء محاولة فريق مكافحة حريق الكاتدرائية، كان اهتمامه أوّلًا وأخيرًا، إنقاذ ما تيسّر من لوحاتٍ وصلبانٍ وتماثيلَ. وقد نجح في ذلك قدرَ ما أمكنَه؛ ما يشير إلى أنّ أعضاء هذا الفريق، ليسوا مجردَ موظفين مهنيّين؛ بل كانوا من تمكّنهم الثقافي على إدراكٍ بهذه الثروة، التي لا تقدر بثمنٍ، والتي عليهم إنقاذَها؛ وهذه قيمةٌ حضاريةٌ تسجّل لهم بطبيعة الحال. وهنا، يجبُ تلمس الفرقَ في هذه القيم، بين حضارةٍ وأخرى!
وحتى كتابة هذه السطور، تمّ جمع حوالي مليار يورو، بعدما أعلن الرئيس الفرنسي أنه سيتم ترميم الكاتدرائية على الفور، معظمها من أثرياء فرنسيين حول العالم. ولوحظ أن هناك تبرعاتٍ عديدة من موظفين عاديّين فرنسيّين، ومن كل أنحاء العالم لإنقاذ الكاتدرائية، التي توحّد العالم إنسانيًا، في سبيل إعادتها إلى الحياة، ولوحظ في هذا السياق أن اتحاد مساجد فرنسا دعا المسلمين إلى التضرع إلى الله في صلواتهم من أجل إنقاذ الكاتدرائية، وحثهم على اغتنام شهر رمضان الذي بات على الأبواب من أجل تقديم التبرعات المالية والمعنوية لإخوانهم الكاثوليك، من أجل إعادة بناء الكاتدرئية.
إلّا أن الملاحظة الأجدر بالاهتمام؛ هي أن تباكي بعض العرب على ما حدث للكاتدرائية، لهو مبالغةٌ هائلة في نفاقٍ ينمّ عن جهلٍ، وعن مجاملةٍ ليست في مكانها؛ ففي الوقت الذي يتباكي فيه هؤلاء على ما حدث للكاتدرائية، يتجاهلون ما جرى لجميع الآثارٍ التاريخيّة والدينيّة في منطقتنا العربيّة، من تدميرٍ متعمّدٍ من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وفصائل الإرهاب، التي عاثت تدميرًا وتنكيلًا بكلّ قيَمِنا التاريخيّة وحضاراتنا المنسيَة!