Menu

تفاصيل ودقائق الموقف الأمريكي من قرار تقسيم فلسطين (ج8)

عبد الرحمن البيطار

في الحلقة السابقة، تم إلقاء الضوء على التطورات التي تلت قيام “وارن أوستن”- سفير الولايات المتحدة لدى الأُمم المتحدة ، بالإعلان أمام اعضاء مجلس الأمن في ١٩ آذار ١٩٤٨، عن أن الولايات المتحدة قد قَرَّرت الطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة تعليق العمل بقرار تقسيم فلسطين ، ووضع فلسطين تحت الوصاية الدولية لفترة إضافية يتم خلالها دفع الأطراف المتصارعة في فلسطين للتوصل إلى اتفاق وتسوية مرضية فيما بينهم.

هذا وقد تم التّعرض في الحلقة المذكورة لردود الفعل العنيفة ضد ما اعتبر انقلاباً في الموقف الأمريكي من قرار التقسيم، وتهديد الأمين العام للأمم المتحدة بالاستقالة من منصبه احتجاجاً على الانقلاب المذكور والذي رأى فيه أنه سيفضي الى إضعاف المنظمة الدولية الوليدة ، ولدورها وفعاليتها على المسرح الدولي.

واٌطّلَعنا أيضاً على رد فعل الرئيس الأمريكي ترومان على خطاب سفيره أمام مجلس الأمن ، وقيامه بممارسة الضَّغط على وزير خارجيته للتراجع عن مضمون الخطاب الذي ألقاه وارن أوستن في المجلس.

يقول دان كيرزمان في كتابه ” جينيسيس ١٩٤٨” أن “إدي جيكوبسون” ، -وهو الصديق الشخصي الحميم للرئيس “ترومان” الذي كان قد نجح في إنجاز ترتيبات اللقاء الأخير لـ “وايزمان” مع الرئيس - كان يعمل لساعة متأخرة في مَتْجَرِه في “كانساس سيتي” في مساء يوم الجمعة الموافق لـ ١٩ آذار ١٩٤٨ ، ويَستعد للذّهاب إلى بيته عندما رَنَّ جَرس التّلفون ، وخاطبه صديق له قائلاً :

⁃ “كيف تنظر الآن يا ‘إدي’ لصديقك ‘ترومان’ بعد أن خان اليهود؟ “.

⁃” ماذا تَعني يا هذا ؟”، قال “إدي”.

⁃ ” ألم تسمع الأخبار ؟ “، أجابه صديقه.

في ذلك المَساء ، توالَت الاتصالات بـ ” إدي” من كل حَدْبٍ وصَوْب ، نَعَتَ بعضها الرئيس بِـ ” الخائن”.

لكن “إدي” كان يعرف صديقه “ترومان” حق المعرفة . فلم يُصَدِّق ما سَمِع.

أمضى “إدي جيكوبسون” يومي السبت والأحد في منزله مصدوماً، وهو في غاية الحُزن والإحباط.

ولكن ، وفِي يوم الاثنين الموافق ٢٢ آذار ١٩٤٨، وكان ما لبث أن دخل مَتْجَرَه ، وَإِذْ بالتلفون يَرِن. كان “حاييم وايزمان ” على الطرف الثاني من الخط ، وسَمِعه يقول له :

“لا تدع خيبة الأمل تصيبك بالإحباط يا سيد ‘جيكوبسون’ . إنّي أعتقد أن الرئيس ‘ترومان’ لم يكن على معرفة بما كان سيحصل في الأمم المتحدة في يوم الجمعة ، وذلك عندما كان يتحدث معي في اليوم السابق (لانعقاد تلك الجلسة). لقد بلغتُ من العمر اثنان وسبعون عاماً ، وطيلةُ عُمري ، كنتُ أَعيشُ إحباطاً وراء آخر. وليسَ ما حَصَلَ إلا مجرد إحباط آخر من هذه الاحباطات . لا تَنْس ( يا إدي) أن ‘هاري ترومان’ هو الفرد الذي يُعتبر أكثر رجال العالم قوة ونفوذاً. (نَعَم)، لا زال لديك مُهِمّة (يا إدي) في أن تعمل على إبقاء أبواب البيت الأبيض مفتوحةٌ (أمامنا)“.

تَساقَطَت الدّموع من عيني “إدي” ، وقال لـ”وايزمان” :

” أشكرك يا دكتور وايزمان. إنني مُمْتَنٌ لك أنك لا زِلْتَ تثق بالرئيس ‘ترومان’. إني أعرف الآن أني لست وحيداً في الإيمان (بصِدْقِيَّتِه)”.

وللوقوف على دَقائق الموقف الأمريكي من قرار التقسيم ، سَنَضْطَر للاستعانة بمعلومات وتفاصيل أوردها ” هنري لورنس ” في موسوعته البالغة الأهمية المعنونة ؛ ” مسألة فلسطين “- المجلد الثالث ١٩٤٧-١٩٦٧ – الكتاب الخامس ، والذي يُغطي وقائع الفترة ما بين عامي ١٩٤٧ و ١٩٥٦ والتي يُعَرِّفها على أنها المرحلة الممتدة ” من النّكبة الى عَشِيّة أزمة السويس “.

لقد مَكّنني الصديق عبد الله حمودة ( أمين عام منتدى الفكر الديمقراطي) من الإطلاع على هذه الموسوعة ، وعبد الله هذا ، يملك مكتبة من أغنى مكتبات الاْردن ، في كونها تجمع أعمالاً وكتباً ووثائق لا تقدر بثمن .

ترجم هذه الموسوعة إلى العربية بشير السُّباعي ، ونُشِرَت الترجمة في العام ٢٠٠٨ من قبل المركز القومي للترجمة – شارع الجبلية بالأوبرا – الجزيرة – القاهرة.

أما هنري لورنس ، فـإن أفضل تقديم له وللموسوعة التي كتبها عن المسألة الفلسطينية بمجلداتها العديدة وكتبها المختلفة، فهو ما جاء على لسان مترجم الموسوعة الأُستاذ بشير السُّباعي ، ففي حديث له مع ” الاشتراكي ” نَشرته في ١٥ نيسان ٢٠٠٩ ، يقول بشير السُّباعي عن هنري لورنس :

“هو مؤرخ فرنسي مُتخصص في التاريخ الحديث، والمُعاصر للعالم العربي، وصاحب العديد من المؤلفات التي رَكَّزت على مُختلف أشكال اندماج المنطقة العربية في العالم الحديث، الذي هَيْمَنت علية الرأسمالية الغربية.

عمل هنري لورانس أُستاذا للتاريخ بجامعة السويون، ثم بالمعهد القومي للغات والحضارات الشرقية بباريس، وتولّي بعد ذلك إدارة مركز دراسات وبحوث الشرق الأوسط المعاصر ببيروت، وكان إلى وقت غير بعيد مُشرِفاً بالمعهد القومي للبحث العلمي بباريس، وهو الآن أستاذ كرسي التاريخ المعاصر للعالم العربي بالكوليج دوفرانس، وهو الموقع الذي سبق بأن شغله باحثون فرنسيون مرموقون، أهمهم جاك بيرك، وهو متزوج من الكاتبة اللبنانية الفرنسية السيدة مها بقليني، التي سبق لها أن ترجمت إلي الفرنسية عمل نجيب محفوظ ‘ليالي ألف ليلة’.

ويقول المترجم ، حول عمل هنري لورنس هذا حول “مسألة فلسطين” :

“في هذا العمل نجد أنفسنا أمام مَرْوِيّة بانورامية، تتناول أشكال دخول الإمبريالية الغربية في الصراع على المنطقة العربية ذات الأهمية الجيوسياسية والجيوإستراتيجية في إطار صراع هذه الإمبريالية على السيطرة على العالم، وطبيعي أن هذه المَرْوِيّة تشتمل، بشكل لا مَفَرَّ منه، على تناول أشكال استجابة العالم الغربي للحداثة الأوربية، وردود أفعاله علي التوسع الاستعماري، وهو ما يقود لا محالة إلى تناول ظهور الحركات والتيارات القومية في هذا العالم العربي، الذي يحتل ضِفافا ً مُهِمّة للبحر المتوسط، وطرق ومواصلات بحرية وبرية مهمة، ناهيك عما يتمتع به من ثروات بترولية أساساً، وحَضارات مكانية مُترامية الأطراف”.

ويَستطرد قائلاً:

“وإذا كان يجري تناول مصائر المسألة اليهودية في أوربا الشرقية والغربية ومُلابسات ظهور الحركة الصهيونية، فإنَّ هذا التناول إنما يتم ضمن إطار تحليل تناقضات الدول العُظمي الداخلية وصراعاتها من أجل الهيمنة الخارجية ، ومن هذه الزاوية، يُعَد عمل لورانس كاشفاً لتناقضات عَصرنا وأزمته الخطيرة ، فهذا العمل ليس وصفاً توثيقياً لتاريخ فلسطين الحديث، بل هو وصف توثيقي لـ “مسألة فلسطين” وهي مَسألة مطروحة منذ فَجْر القرن التاسع عشر ولا تزال مَطروحة إلى يومنا هذا، كما أنها لا تخص فلسطين وحدها ، بل تتجاوز حدودها إلى عالم أوسع منها، وهو ما يَشْهَد عليه، مثلا أن هذه المسألة أصبحت “مسألة مِصْرية “ على جانب كبير من الأهمية منذ حرب عام 1948 ، وأنها قد صاغت إلي حد بعيد تاريخ مصر في الشطر الثاني من القرن الماضي ، ولا تزال محورية في صياغة هذا التاريخ إلى الآن”.

وحول الإطار الزمني لمعالجة لورنس لـ”مسألة فلسطين”، يقول بشير السُّباعي :

“تبدأ هذه المعالجة من حملة بونابرت علي بلاد الشام في عام 1799 إلى اللحظة الحاضرة، وقد وصل لورنس بهذه المعالجة فيما صدر من مجلدات العمل إلى الرابع من يونيو / حزيران 1967 وهو عاكفٌ حالياً ( أي وقت إجراء المقابلة في نيسان ٢٠٠٩) على كتابة مجلد جديد يتناول الفترة الممتدة من حرب يونيو / حزيران 1967 إلى عام 1982، عام الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ومن المرجح أن يصدر هذا المجلد الجديد بالفرنسية في أواخر عام 2010” .

وحول ما يتميز به كتاب ‘مسألة فلسطين’ عن غيره من الكتابات التي تناولت نفس الموضوع، يقول بشير السُّباعي:

“بلا شك نحن إزاء تسجيل توثيقي دقيق لمختلف مراحل تطور الصراع على فلسطين منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى الآن ، ومثل هذا التسجيل التوثيقي لا نجده في أي عمل آخر بأي لغة. وقد اعتمد لورانس علي وَفْره من الوثائق التي لم يسبق الاعتماد عليها، كما أن الرجل قد قام بتركيب نقدي لمعظم الأدبيات الصادرة حول الموضوع، وهو مجهود لم يسبقه إليه أحد من المؤرخين من قبل”.

وحول إمكانية اعتبار لورنس مستشرقاً يعمل لخدمة أهداف عملية، يقول المترجم بشير السُّباعي :

“ما يحرك عمل لورنس هو “حب المعرفة “، وهو ما يفسر دأب الرجل على محاولة تكوين صورة موضوعيه عما حدث بالفعل، ويفعل الرجل ذلك ضمن إطار تمسكه بمبادئ حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، وهي مبادئ يعترف لورانس بأن الغرب الإمبريالي، قد خانها في تعامله مع “المسألة اليهودية” في الغرب، كما في تعامله مع “ مسألة فلسطين “ في الشرق، ثم إن الرجل يسلط الضوء على دور مختلف الدول العظمى وبينها فرنسا ، في دعم المشروع الصهيوني وإذا كان هناك من هدف عملي وراء كتابه الضخم، فلا شك أنه يتمثل في المساعدة على إيجاد حل عادل لمسألة فلسطين وهو حل يبدو في رأيه بعيد المنال، بالنظر إلى موازين القوى في العالم”.

رَأيتُ أن أقدم للقراء هذه المعلومات عن موسوعة ” مسألة فلسطين ” لاعتقادي بأهمية هذا العمل وإمكانية الاستفادة منه في صياغة إستراتيجيات وسياسات العمل الوطني الخاصة بقضيتنا الوطنية والقومية والإنسانية ” فلسطين”.

وسنستكمل في الحلقة القادمة تفاصيل الموقف الأمريكي من قرار التقسيم.