التراكم الذي تحقَّق بقيادة الريع النفطي ابتداءً من السبعينيات من القرن الماضي لم يركِّز الثروة في أيدي هذه النظم فحسب، بل عكَسَ الاتجاه الذي كان قائماً قبل ذلك، والذي كانت فيه الثروة تتوزّع بالتساوي بين اقتصادات المنطقة. التفاوت الذي ازداد في هذه الحقبة لم يكن من النوع الذي ينحصر في الطبقة اللصيقة بالنظم فقط، بل كان يطاول أيضاً معظم الفئات التي استفادت من «الطفرة» التي أحدثتها التنمية الاشتراكية، حيث بغيابها، لم يعد ثمة إنتاج بالمعنى الفعلي، ولم تعد الفئات المستفيدة منه - وهي تمثل غالبية الشرائح الاجتماعية العربية - تتحرك اجتماعياً كما كانت تفعل سابقاً، حين كان الإنتاج مرتبطاً بتوسيع هامش حراك الطبقات. الضرر بهذا المعنى كان عامّاً إلى حدٍّ كبير، وعموميته ملازمة لعمل النيوليبرالية المقترنة بالريع، حيث الفصل بين السياسة والاقتصاد لا يقتصر على حيّزٍ واحد، ويشمل غالباً معظم المجالات التي كانت قد توسّعت إبان الحقبة الاشتراكية، قبل الإتيان عليها تماماً فيما بعد.
مقاربة التمثيل سياسوياً
استبعاد أكثرية الشرائح الاجتماعية العربية من التراكم الجديد حصل لمصلحة الفئات المعترضة على التنمية الاشتراكية، التي تضمّ بالإضافة إلى بقايا الإقطاع السياسي القديم الاتجاهات الليبرالية التي ينحصر اعتراضها على الاشتراكية العربية في غياب التعددية السياسية عنها. وهو ما قاد لاحقاً بحكم أحقّية هذا الاعتراض نسبياً إلى إضفاء شرعية ليبرالية على النموذج الاقتصادي الذي قادته دول الخليج مع أنور السادات، على اعتبار أنه، بخلاف الاشتراكية، يبيح التعددية السياسية، وبالتالي يوفّر حتى لخصومه حقّ الاعتراض على سياساته. اليسار نفسه لم يكن معارضاً لهذه الوجهة، ما دامت ستتيح له هامشاً للتحرّك، قبل أن يتبيّن لاحقاً أنه سيكون أول ضحايا هذا العهد. الموقف المتسرِّع من الحقبة الجديدة أتى بناءً على المعيار نفسه الذي اعتُمد حيال حقبة ما بعد الانتدابات، التي عُدَّت نموذجاً للتمثيل السياسي، بحكم سماحها بالتعددية الحزبية. التنمية الكبيرة التي حصلت في الحقبة الاشتراكية والتي سمحت بتصحيح التمثيل السياسي لأكثرية الفئات الاجتماعية العربية لم تغيِّر شيئاً في النظرة المعتمدة حيال فكرة التمثيل، بدليل العودة عن التعريف الاشتراكي لها بمجرّد التلويح اليميني بتبنّي التعددية السياسية كوجهة للحقبة للجديدة. لم ينتبه معظم اليسار الذي أيّد الفكرة في البداية إلى أهمية الحفاظ على منجزات الاشتراكية العربية والدفاع عنها قبل الذهاب في اتجاهات لا يُعرف إن كانت فعلاً في مصلحة الفئات التي ينحاز إليها أو لا. التعددية التي أُقرّت فعلاً في مصر سمحت باستعادة التقليد الحزبي، ووفّرت للفئات المهمّشة هناك إطاراً سياسياً مستقلاً لمعاودة الانخراط في الدفاع عن مصالحها ومكتسباتها، ولكن ذلك لم يحصل دون ثمن. والثمن هنا لم يكن أقلّ من تخلّي الدولة عن هذه الأكثرية لمصلحة الأقلّية التي يصبّ التراكم الجديد بقيادة السعودية لمصلحتها. التعدُّدية في هذه الحالة لا تصبح فخاً سياسياً فحسب، بل تغدو بمثابة إهانة لليسار نفسه، حيث يُعاد الاعتبار إليه بعد تجريده من كافة أدواته، وبعد أن تكون تحالفاته الطبقية الفعلية قد تقوّضت لمصلحة الطبقة التي سمحت له بمعاودة الحضور سياسياً. وهو ما يجعله في أحسن الأحوال مجرّد هيكل للمعارضة، هذا إذا كانت المعادلة الجديدة تسمح بحصول معارضة فعلية للتحالف الريعي ــ النيوليبرالي.
الافتقاد للشرعية
الأثر الذي تتركه المعارضة في هذه الحالة ليس ملحوظاً، لأنّ الإطار الذي سمح بمعاودة تمثيلها سياسياً قد اكتسب الشرعية اللازمة للدفع بسياساته قدماً. وهي شرعية لا تقوم فقط على تمثيل الأقلية واستثناء الأكثرية، بل تستند أساساً إلى توطيد دعائم دولة الريع، بحيث لا يعود ثمّة فرصة للاستفادة من التجربة الاشتراكية، ولو على سبيل جعل التراكم يحصل في إطار مقبول بالنسبة إلى الفئات المهمّشة والضعيفة. وهو ما كانت التجربة الاشتراكية ستؤول إليه فيما لو سمح لها بإيصال عملية التنمية إلى خواتيمها، حيث كان من المقرّر أن تصل ثمار الترسمل إلى الجميع، وتبدأ الدولة بعد ذلك باختيار الطريق الأنسب لتطوُّرها رأسمالياً. الحجر على هذا الطريق لم يكن لمصلحة أيٍّ من الخيارات التي تطوَّرت معها اقتصادات دول الجنوب لاحقاً، سواءٌ بمعية النظم الاشتراكية التي ظلّت قائمة، أو بسلوك الطريق الرأسمالي حينما انهارت التجربة نهائياً. البِنى التي أرستها الاشتراكية والتي كانت ستقود التحوّل في الاتجاهين قُوِّضت تماماً، وجرى الحفاظ عليها كهياكل بيروقراطية فحسب، وهي في هذه الحقبة لم تعد تتصرّف كطبقة تقود تطوُّر الدولة في هذا الاتجاه أو ذاك، بل أصبحت بعد تجريدها من وظيفتها الطبقية بمثابة غطاء لعملية النهب التي يقودها الريع النفطي بمعيّة النظم الجديدة. التفكيك الذي طاول معظم مؤسّسات الدولة سمح بصعود فئات تقتات فقط على الريع، ولأنّ هذا الصعود لم يأتِ ضمن مشروع للتنمية كما هي الحال مع البيروقراطية التي صعدت مع الاشتراكية، فقد ظلّ ذا طابع خارجي، ولم يكتسب في أيٍّ من مراحل استقرار الدولة الريعية العربية طابعاً وطنياً، أو حتى مستقرّاً. الاستقرار هنا مرادف للشرعية، وهذه الأخيرة ظلّت طوال الفترة التي تلت تفكيك البِنى الاشتراكية العربية معلّقة، ولم تحظَ بأيِّ غطاء سياسي، حتى في ظلّ بزوغ مرحلة التعددية الحزبية المحدودة في أواسط السبعينيات من القرن الماضي. المشاركة السياسية حينها لم تكن من النوع الذي يسمح حتّى بتوسيع هامش التمثيل أو الاعتراض، حيث ليس ثمة نقاش فعلي للسياسات، باستثناء حصول مناوشات داخل المؤسّسات حينما تحصل هبة شعبية مفاجئة كما حصل غداة انتفاضة الخبز في مصر في عام 1977. لكن حصولها كان يتزامن مع تفعيل أدوات القمع، عبر الفصل بينها وبين ما يحصل داخل المؤسّسات، بحيث لا يكون ثمّة أثر فعلي لها، وبعد أن تكون السياسة الاقتصادية قد طُبِّقت بحذافيرها، وخصوصاً في غياب ليس فقط الأحزاب والقوى القادرة على الاعتراض، بل أيضاً النقابات التي كانت تحظى في الحقبة الاشتراكية بتمثيل أوسع من ذاك الذي تملكه الأحزاب عادةً. هذا الغياب انعكس سلباً ليس على بنى الاعتراض وحدها، بل كذلك على حراك الطبقات الذي كان في أوجه حينما كانت بيروقراطية الدولة هي التي تقود التنمية إلى جانب الفلاحين والعمال، وهو ملمح آخر من ملامح افتقاد هذه الحقبة للشرعية، إن لم يكن هو الملمح الأساسي لها.
لم تغفر النيوليبرالية للطبقة الوسطى إسهامها الكبير في الحقبة الاشتراكية
معاقبة الطبقة الوسطى
الانعكاس الأبرز كان على الأدوار التي لعبتها البيروقراطية الحكومية، سواء في عملية التنمية أو في تحقيق الاستقرار للنظام الاشتراكي والمجتمع عموماً. الإطار الذي رسم لهذه الطبقة في الحقبة الاشتراكية لم يعد موجوداً، وما بقي منه تحوَّل إلى هيكل فارغ يديره اقتصاد الريع بطريقة تجعله هو أيضاً في خدمة الأقلية. البيروقراطية لم تكن تنتج الثروة سابقاً، ولكنها كانت شريكة مع النظام في إدارتها لمصلحة أكثرية الفئات الاجتماعية العربية، وهو ما أتى الريع لعكسه، عبر تخييرها بين البقاء في مواقعها إذا كانت ستنحاز معه إلى الأقلية ومغادرتها في حال رفضها ذلك. وهو ما أدى إلى انقسامها على اعتبار أن الحفاظ على موقف موحّد وصلب يتطلّب وجود مشروع سياسي يمكن الدفاع عنه لقاء دفع ثمن مماثل. إضعاف البيروقراطية بهذه الطريقة كان مقدمة لمعظم التراجعات التي أصابت الطبقة الوسطى في مصر والإقليم عموماً، حيث لا وجود لدور أو موقع أو حضور في السياسة والاقتصاد والثقافة خارج إطار المشروع السياسي الذي يضع التصوُّر والرؤية للعملية بأكملها. وبما أنّ المشروع المضاد لم يكن لمصلحة أيٍّ من الفئات الاجتماعية العربية، وهو بالأساس يفتقر إلى تصوُّرات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية يمكن تبنّيها أو الدفاع عنها، فقد جرى الابتعاد عنه، أو في أحسن الأحوال الوقوف على الحياد بينه وبين بقايا المشروع السابق. وهو موقف دفعت ثمنه الطبقة الوسطى لاحقاً، عبر استبعادها ليس فقط من عملية التراكم، بل من أيّ من المساهمات التي حصلت لاحقاً، وجُيِّرَت بالكامل للأقلية الاجتماعية التي أعلنت ولاءها المطلق للنظام الجديد. لم تغفر النيوليبرالية لهذه الطبقة إسهامها الكبير في الحقبة الاشتراكية، وهي حين خيّرتها بين الانخراط والاستبعاد كانت تعلم أنها في الحالتين تعاقبها، لأنّ الحقبة التي كانت تشكّل فيها حجر الرحى ونقطة التوازن قد ولّت. هكذا، استُبعدت الطبقة الوسطى من القيام بأيّ دور في هذه الحقبة، وانحصرت مساهمتها في الحفاظ على الهيكلية البيروقراطية للدولة، ولكن بعد تجريدها من أدواتها كافة، ومنع نخبها من القيام بأدوار تتجاوز المعارضة الهامشية وغير الفاعلة لهذا الشكل من التحوُّل الاجتماعي الاقتصادي.
خاتمة
الهيكلية التي أرستها «النيوليبرالية العربية» بهذا المعنى كانت تفتقد حتى للقاعدة الاجتماعية، فدون وجود أحزاب ونقابات وطبقات اجتماعية يتعذّر قيام عملية سياسية أصلاً، وإذا قامت تكون تعبيراً عن غياب الدولة بالمعنى المتعارف عليه، لأنّ حضورها في هذه الحالة لا يفتقر فحسب إلى المشروع والتصوُّر، بل حتى إلى مقومات الوجود الأساسية. ومع هذا الغياب يكون العنصر الوحيد الحاضر في البنية التي أقامتها النيوليبرالية على أنقاض الدولة الاشتراكية العربية هو الريع الذي حلّ هنا محلّ الإنتاج، وتحوّل إلى مصدر الدخل الأساسي للفئات التي صعدت في هذه الحقبة بدلاً من الطبقة الوسطى. لم تعد ثمة ثروة تُنتج فعلياً في الداخل، وما يُنتَج لا يمرّ بقنوات التوزيع التي تضمن حداً أدنى من العدالة الاجتماعية. التفاوت ازداد كثيراً بسبب هذا الانسداد الذي لم يعوِّض عنه التراكم الذي يحقِّقه الريع، إذ ليس هنالك ضمانة بوصول التدفّقات الخارجية إلى أبعد من الفئة اللصيقة بالنظام. هكذا، نمت هذه الشريحة الضيقة وانتفخت على حساب باقي الطبقات والفئات الاجتماعية، وفي غياب أيِّ معنى لمساهمتها سوى إضفاء الشرعية على هذا الشكل الجديد من النهب، حيث تزداد التدفّقات الخارجية على حساب الإنتاج في الداخل، ومعها تزيد حصّة الأقلّية التي لا تعمل ولا تنتج على حساب الأكثرية. استمرار هذا الشكل من التراكم كان سيقود حتماً، ليس فقط إلى ازدياد معدلات التفاوت في الدخل، بل أيضاً إلى حصول انهيار اجتماعي، حيث تحصل دورة الريع في ظل انسداد كافة القنوات التي تحقّق ليس فقط عدالة التوزيع، بل كذلك الاستقرار الذي ينجم عنها. عدم الاكتراث بالاستقرار الاجتماعي هو من سمات النيوليبرالية التي لم تعد تَعتبِر بقاء الدولة شرطاً لنهبها كما كانت تفعل نظم ما بعد الانتداب، وهو ما يجعل منها التطوّر الأبرز في مسيرة النكوص عن التنمية، والأكثر خطورة، حتى على الليبرالية نفسها.