Menu

الهوية الوطنية الفلسطينية: أربع قضايا لصيقة

وسام رفيدي

تحرير فلسطين.jpg

خاص بوابة الهدف

ليست هذه دراسة علمية وافية حول الهوية الوطنية الفلسطينية،[1] بل معالجة لبعض القضايا التي أعتقدها لصيقة بالهوية الوطنية، باعتبار خصوصية تشكل ومآل الهوية في الواقع الفلسطيني، خصوصية لا تنشأ عن ذلك النزوع الذاتي المغالي بالأنا للتمايز الشكلاني ونبذ التشابه، بقدر ما تتحدد، شأن أية هوية، وفق معطيات محددة خاصة باللحظة التاريخية لشعب ما.

أولاً: الهوية الفلسطينية، شأن أية هوية، هي نتاج النزوع نحو التمايز كما نتاج الصراع. فالهوية، أية هوية، سواء كانت هوية فردية أول ما تتمظهر بالاسم، أو هوية مجموعتيه، طبقية، دينية، جهوية، أو هوية وطنية عامة، إنما هي بالأساس رغبة في التمايز عن الآخر، الانفصال عنه، وتحديد التخوم في العلاقة معه. فلا هوية بلا تمايز، فالهوية، كما الشيء، أي شيء، تُعرّف بنفي النقيض، وفق تعبير الفيلسوف الهولندي المادي سبينوزا، فهوية الشيء هو أنه ليس الآخر النقيض، فالرأسمالية هي هكذا لأنها ليست اشتراكية، والرجل رجل لأنه ليس إمراه، وقس عليه كل العلائق في الحياة الاجتماعية والكون.

ثانياً: الهوية نتاج الصراع. لذلك لا تنتج الهوية خارج العلاقة مع الأخر، وبغض النظر أكانت العلاقة تناحرية أم لا. كل الهويات الحديثة في أوروبا البرجوازية نشأت في خضم علاقة الصراع مع الإقطاع والكنيسة كمؤسسة، فيما هويات أخرى، مجموعتيه مثلاً، تنشأ في غمار علاقة تمايز لا تتسم بصراعية حادة، شأن هويات الألتراس كمجموعات مشجعين، علماً أن هوية طبقية ما، كهوية الطبقة العاملة، تتبلور أكثر فأكثر عبر الصراع الطبقي مع رأس المال.

الهوية الفلسطينية ليست خارج هذا القانون، فعبر الصراع مع سياسة التتريك العثمانية مطلع القرن العشرين، ولاحقاً مع الإمبريالية البريطانية والمشروع الاستعماري الصهيوني تبلورت رويداً رويداً تعابير الهوية الوطنية: رؤية ومؤسسات ورموز ومعاني وذاكرة جمعية. لعل أحد أبرز دلالات ذلك التبلور كان في طرح شعار/ مطلب الاستقلال الفلسطيني في العام 1924 في المؤتمر الإسلامي المسيحي الخامس كبديل للشعار السابق، استقلال سوريا الكبرى.

جدالات كثيرة دارت وتدور حول تحديد اللحظة التاريخية لبلورة تلك الهوية. البعض كالكاتب زكريا محمد يعيدها لقرون خلت، وتحديداً منذ فترة الظاهر عمر ومشروعه الاستقلالي عن الدولة العثمانية، فيما آخرون، ولنزوع يفتقد للعلمية ويتمسك بالأسطرة يعيدها لما قبل التاريخ ملتمساً تاريخ (عريق) يصل الكنعانيين! كاتب هذه السطور ينحاز لاعتبار الهوية تبلورت عبر الصراع مع المشروع الاستعماري، البريطاني والصهيوني، وبتأثير أكيد من تبلور القومية العربية ومشروع النهضة العربية.

وتتبدى علاقة الصراع في تشكل الهوية الوطنية الفلسطينية مع ملاحظة الظاهرة التاريخية التالية: كلما تصاعد النضال ضد المشروع الصهيوني كلما سعى شعبنا لتأكيد وإعلان التمسك أكثر فأكثر بهويته، وسعى كذلك لإضافة مكونات إضافية لها، فالهوية تصنع صناعة عبر سياسات الهوية. مع انطلاقة الثورة الفلسطينية ومع اندلاع الانتفاضة الشعبية في العام 1987 نلاحظ التزايد المضطرد في التمسك بالهوية ورموزها ومختلف مكوناتها، والعكس صحيح، فكلما تراجع هذا النضال تراجع الإحساس بالهوية الوطنية (وحلت محلها) هويات مجموعتيه، دينية وطائفية وجهوية وعشائرية. وما بعد الاتفاق التدميري، اتفاق أوسلو، والامتداد التكفيري في المشرق والمغرب العربي في السنوات الأخيرة، إلا دلالة على تلك العلاقة: إذ تراجعت مكانة الهويات الوطنية والهوية القومية لصالح هويات طائفية ودينية وجهوية وعشائرية.

ومع ذلك ينبغي الإشارة للحقيقة التالية: إن مكونات الهوية الوطنية راسخة، وإن تراجع التعبير عنها والإحساس بها لفترة. فرؤية الشعب لذاته في التاريخ، وذاكرته الجمعية ورموزه وثقافته ولغته لا يمكن شطبها نهائياً، بل يمكن تلمس تراجع الإحساس بها والتعبير عنها في لحظة لا أكثر، سرعان ما يعود ذلك الإحساس ليصل مداه وذاك التعبير في أرقى صوره، حالما تتبدل اللحظة التاريخية في الصراع، وهذا مرهون أساساً بالممارسة السياسية الكفاحية التي تعمل بالأساس، وليس لوحدها بالتأكيد، كرافعة لتعزيز الإحساس والتعبير بالهوية وعنها.

ثالثاً: المخاطر التي تتعرض لها الهوية ليست مقتصرة على تراجع المشروع الوطني الفلسطيني، إن كان كنتاج لأوسلو أو للانقسام الحاد المدمر، بل يمكن تلمس خطرين رئيسين يؤثران سلباً على الإحساس بالهوية وحتى على مكوناتها.

  1. الثقافة الدينية التي باتت تكتسب تأثيراً متزايداً في العقود الأخيرة، وإن كان يمكن الإشارة لمظاهر تراجعها بعد هزيمة المشروع السياسي لحاملي تلك الثقافة في المشرق العربي، كما في سوريا والعراق، والمغرب العربي كما في مصر وتونس والجزائر، والإسهاب في ذلك خارج نطاق هذه العجالة.

والهوية الوطنية باعتبارها الجامع لكل مكونات الشعب على اختلافها، فهي بالقوة وموضوعياً هي ثقافة علمانية تترفع عن التصنيف الديني لتحديد شكل العلاقة بين المواطنين، وبينهم وبين المؤسسة السياسية، والدولة على رأسها. وعلى النقيض، فالثقافة الدينية، ولأنها كذلك، فهي تنهض على أساس التصنيف الديني للمواطنين، ما يعني بالضرورة ضرب الهوية الوطنية وتفتيتها.

في فلسطين يجتمع هذا الخطر على الهوية مع خطر تداعيات ونتائج اتفاق أوسلو. فأوسلو قام بتفتيت الشعب الفلسطيني فشطب فلسطينيو منطقة 48 من حساباته، واستبدل فلسطين التاريخية بالضفة والقطاع عبر شرعنة المشروع الصهيوني في فلسطين والاعتراف بأحقيته في تجسيد مشروعه! فيما الثقافة الدينية وعبر حواملها التنظيمية من حركات الإسلام السياسي (حماس والجهاد وحزب التحرير) تروج لمكونات ورموز هي على النقيض من مكونات ورموز الهوية الوطنية. فالجلباب بديلاً للثوب الشعبي الفلسطيني كرمز للهوية، والدولة الدينية كمشروع استراتيجي قائمة على التصنيف والتمييز الديني والطائفي بديلاً للدولة الديموقراطية الوطنية، كدولة قائمة على مفهوم المواطنة دون تصنيف ديني وطوائفي، وحتى في صياغة الرؤية التاريخية، وهذه مكون رئيس من الهوية، يظهر التناقض بين الثقافتين الدينية والوطنية. الأولى تنزع لحشر التاريخ في زاوية محددة هي تاريخ الإسلام فحسب، يبدأ تاريخ فلسطين منه ويمتد متأثراً بمفاعيله وسينتهي به عبر الدولة الدينية، فيما الثقافة الثانية ترى لتنوع وتعددية ذلك التاريخ، وإن لاحظت مركزية الإسلام كمكون حضاري/ ثقافي/ سياسي، ولكنها ترى لذلك المكون كإطار يصهر مكونات متنوعة وعديدة، دينية وعرقية وثقافية وإثنية.

  1. ثقافة التطبيع والليبرالية. تتأتى خطورة التطبيع بكونه يحولّ معادلة الصراع، وهي معادلة نشأت بفعل طبيعة المشروع الصهيوني الترحيلي والإحلالي، إلى معادلة الحوار الذي ينشأ في ظروف اعتيادية بين مختلفين بوجهات النظر، شأن العائلة مثلاً. فيتحول الصهاينة الغزاة، المستوطنين، لمحض مجموعة عادية، طبيعية، نختلف معها في أمور يمكن حلها عبر الحوار. أليس هذا ما يقف خلف موقف القيادة اليمينية المتنفذة في منظمة التحرير حين وقعت أوسلو وأقرت بتأجيل (مواضيع خلافية): اللاجئين والحدود والمستوطنات والمياه؟

إن تحويل الصراع لحوار يلحق الضرر وبتجذر في ثقافة أصحابه وتكوينهم النفسي، وبالتالي يلحق الضرر بهويتهم الوطنية باعتبار الثقافة والتكوين النفسي الجماعي والذاكرة مكونات رئيسة في الهوية الوطنية. كتب أحد رموز التطبيع مرة دراسة مشتركة مع الصهاينة عنوانها: نكبتنا في روايتنا. هكذا! فينكر هذا الصفيق دور الصهاينة في نكبة شعبنا. ولكم أن تتخيلوا حجم التهتك الداخلي الذي أصاب تكوينه الثقافي والنفسي ليكتب هكذا جملة وتلك الدراسة. إنه، كمطبع، معدوم الإحساس بالهوية وبشعبه ووطنه.

  1. وعلى المقلب الآخر، فإن ترويج ثقافة الليبرالية الجديدة سواء عبر السلطة كسياسات (اقتصاد السوق الحر) والخطاب الأيديولوجي (الحوار والتعايش والمفاوضات والاشتباك الدبلوماسي والقانوني)، أو عبر المنظمات غير الحكومية الممولة، حاملة لأيديولوجيا منسوخة عن الغرب دون إبداع، فإن الليبرالية تشيع مفاهيم الفردية والاستهلاكية والحوار والتعايش بديلاً لمفاهيم الإنتاجية والجماعية والصراع والمقاومة، ناهيك عن ترويج قيم الاستهلاك الفردي المنفلت من عقاله والغرق في العالم الإفتراضي بديلاً عن حميمية العلاقات الاجتماعية. كل ذلك ينهض على النقيض من مكونات الهوية التي يفترض أن تستلهم المُشرق والعقلاني والثوري في الذاكرة الجمعية والتاريخ الوطني، على النقيض من مكون الجماعية في العلاقات اليومية والممارسة الاجتماعية، على النقيض من تربية روح المقاومة للمشروع الصهيوني والانحياز لمقولة الاقتصاد المنتج الصمودي.

رابعاً: ويخطئ من يعتقد أن لا علاقة بين قضية الهوية الوطنية والمسألة الطبقية على اختلاف تفرعاتها، التركيب والممارسة والتوظيف والانحيازات. ببساطة متناهية هناك فرق شاسع بين عَلم، والعَلم الوطني رمز رئيس للهوية، يلف به جسد الشهيد المقاوم، وبين (عَلم) يستثمره رأس المال في دعاياته التجارية، ويتميز هنا شركات الاتصالات الفلسطينية. كما أن الجملة الشعرية لمحمود درويش الجميلة، (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) تكتسب مغزىً تاريخياً وطنياً يعزز روح المقاومة للتمسك بالأرض ولاستعادتها من الصهاينة، لتغدو الحياة مقاومة لا مفاوضات، وهذا شيء واستخدامها من قبل شركة جوال شيء آخر، فهي كشركة رأسمالية تستهدف أقصى درجات الربح عليها تعديل (الجملة الشعرية) لتصبح على هذه الأرض ما يستحق النهب! لنلاحظ الفرق بين الثوب الفلسطيني ترتديه إمراه فلاحة في حياتها اليومية، وبين استخدامه من قبل موظفات التسويق في معارض الشركات الرأسمالية، إنه محض ديكور يضاف لمكونات الماكياج، والثوب، شأن العلم رمزية رئيسة للهوية.

وأخيراً يمكن التفريق بوضوح على الصعيد الفني/ الثقافي بين مشروع فرقة الفنون الشعبية في البيرة، وغيرها، كأبرز فرقة فنية فلسطينية تعمد لتقديم التراث بدمجه بعصرنة لائقة، حازت على اعتراف محلي وعربي ودولي، وبين سعي شركات الاتصالات ورجالات رأس المال لاستثمار موهبة فنية، مثل موهبة محمد عساف لجني الأرباح عبر شهرته في برنامج محبوب العرب.

فالرأسمال لا وطن له ولا هوية وطنية، إلا بمقدار استفادته من الوطن وهويته في تحقيق الربح، فالربح هو وطن رأس المال وهويته، وهذا يقودنا لمفهوم الاستخدامية المرافق للهوية ومكوناتها ورموزها. كل الفئات والطبقات والمجموعات تستخدم رموز ومكونات الهوية الوطنية، ولكن السؤال يبقى: هل يتم استخدام ذلك الرمز وذاك المكون بغية تعزيز الانتماء الوطني وتمليك الناشئة روح المقاومة للمشروع الصهيوني؟ أم يتم استخدام تلك الرموز والمكونات بغية التمسح بها لكسب (مكانة وطنية) من باب المباهاة الاجتماعية، وهذا في (أحسن الأحوال) أو بغرض تحقيق الربح عبر اللعب على المشاعر الوطنية باستخدام تلك الرموز والمكونات؟

الفئات والطبقات الشعبية حاضنة الهوية، وليس في حساباتها استخدامها من أجل الربح السريع، وهي كما كانت تاريخياً حاملة لواء الثورة والمقاومة وحاضنتها الرئيسية، هي أيضاً حاملة لواء الهوية وحاضنتها. 

 


[1] - لمن رغب بالتوسع حول موضوع الهوية فالمكتبة العلمية اليوم تعج بالدراسات حول الهوية. لكاتب المقال دراسات عدة حول الهوية يمكن الوصول لها عبر الشبكة العنكبوتية لمن رغب.