Menu

لا تسكت بعد اليوم أيها الرئيس

حسين حجازي

لو كان ياسر عرفات لا يزال على قيد الحياة ولم يقتل بالسم، لكان في يوم الأربعاء من أسبوعكم هذا يبلغ من العمر ستة وثمانين عاماً، فهل وفر علينا القاتل في مثل هذه الأيام أن ننخرط في هذا النقاش الفراغ وعديم الجدوى، كالقرع على طبل اجوف على الإيقاع الذي يرسمه لنا العدو. لنسأل القائد والزعيم الأب الأسطورة التجرد من أسطورته والترجل عن الحصان، لأنه يا ويلنا لقد بلغ الرئيس سن الثمانين.
لا وجه شبه بين عرفات أبو عمار ومحمود عباس أبو مازن، ذاك رجل يغطي رأسه بكوفية ويضع مسدسا على جنبه ويرتد الكاكي، وهذا رجل لا يلقي بالا او أهمية للرموز في لباسه او المظهر الخارجي. 

ولكن ما الفارق بين هذا الأخير وبين ثلاثة على الأقل من أقرانه بدؤوا للتو يتولون سدة الرئاسة في الحكم ويحكمون؟ وهؤلاء القادة الثمانينيون هم الجزائري عبد العزيز بو تفليقة، والتونسي باجي قايد السبسي، والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز . 

حتى لا نذكر الإسرائيلي اليهودي الجار القريب من هنا شمعون بيريس التسعيني، والذي واصل الحكم حتى الأمس وهو في هذا العقد التسعيني.
ان القادة عبر التاريخ «لا يقيلون ولا يستقيلون» اذا اقتبسنا عبارة حماس، ولكنهم في الواقع يقالون ويستقيلون في ثلاث حالات : اما عبر التخلص منهم بالقتل والاغتيال بالسم او الصلب عبر مكيدة او دسيسة يدبرها لهم خصومهم وأعداؤهم، او بموتهم الطبيعي على فراش المرض بعد انقضاء اجلهم .
أما الاحتمال او الفرضية الثانية فهو ان يجد قادة وزعماء تاريخيون بوزن وقامة تشرشل في بريطانيا وديغول في فرنسا، انفسهم أمام هذه التجربة الفريدة التي تنبثق من قواعد الديمقراطية وقانون تداول السلطة، فشل تشرشل في أول انتخابات تعقب انتصاره في الحرب العالمية الثانية. ونبذ ديغول بعد انتفاضة أيار الشهيرة في فرنسا التي قادها المثقفون جان بول سارتر ورفاقه، وهو المصير المشابه الذي واجهه بن غوريون حتى وان واصل التآمر على خصمه موشي شاريت من عزلته الاختيارية عبر تلامذته دايان وبيريس .
اما النموذج او الاحتمال الثالث فإنه يتعلق بزعماء وقادة اختاروا هم انفسهم هذه الاستقالة كنوع من العزوف والزهد الشخصي في لحظة ما بهذه السلطة، وهم قادة في الأغلب من طراز نادر وفريد واستثنائي ذوو ميول في طباعهم وأمزجتهم وتفكيرهم، اقرب الى تأمل الفلاسفة ورجال الطريقة او الحقيقة الصوفيين منهم، الى أمزجة وطباع السياسيين او رجال السلطة وهواتها الطامحين. وان المثال الأبرز عن هؤلاء في التاريخ لعله الإمبراطور الروماني الشهير ماركوس اورليوس، الذي قرر التخلي عن الحكم في ذروة ازدهار الإمبراطورية في عهده وتنعمها بالسلام، مفضلاً قضاء بقية حياته في عزلته في بيته والاعتناء بحديقة بيته وزوجته.

 وفي زماننا الحديثة نتحدث عن زعيم مثل نيلسون مانديلا، وعن رجل آخر مثل سوار الذهب في السودان، وحتى عن عدو لنا في إسرائيل مثل مناحيم بيغن . 
كما نتحدث عن ملك ورع زاهد في الملك هو آخر ملوك ليبيا ادريس السنوسي، الذي كاد يشكر العقيد القذافي ورفاقه الذين انقلبوا عليه، وفضل ان يقضي ما تبقى له من عمر مع زوجته وخادمته في منزل على شاطئ بحر الإسكندرية، منحه له جمال عبد الناصر. ورفض كل دعوات وضغوط أميركا وأوروبا ليمنحهم غطاءً شرعيا بالتدخل العسكري للقضاء على الانقلابيين وإعادته وأسرته الى الحكم . وكل ما رجاه وطلبه من عبد الناصر ان يعيد الانقلابيون خادمته الوفية اليه.
لقد قتل البعض منهم والبعض الآخر ظلوا في الحكم حتى ماتوا على فراش المرض، فيما البعض الآخر تنازل عن الحكم طواعية وفضلوا سحر الحياة العادية على سحر السلطة وبريقها الخادع . ولعل اشهر القادة  الذين تعرضوا للقتل قيصر ونابليون وغاندي وعرفات وصدام حسين والقذافي وموسوليني وسلفادور الليندي، كما الملك فيصل بن عبد العزيز الذي لا زال مقتله موضع غموض في العام 1975، والأمير عبد الله ابن الحسين وكذا الرئيس المصري أنور السادات الذي قتل العام 1981 في وضح النهار وهو يستعرض قواته العسكرية.
بينما اشهر من ماتوا على فراش المرض الرسول محمد والإسكندر المقدوني وتراجان و لينين وماوتسي تونغ وسيمون بوليفار وجمال عبد الناصر وحافظ الأسد وهواري بومدين وهوشي منه. 
لعلهم ولدوا اذن وعانوا وكابدوا الآلام والمصائر المأساوية التي يلاقيها بعض البشر الآخرين، وان كانوا قد حظوا ببعض الوقت بتمثيل أدوارهم على خشبة الحياة في اعين البشر العاديين كأنصاف آلهة، وتحولوا في موتهم كما في حياتهم الى مصيبة عامة، ولكن في كل الأحوال فإن نهاياتهم هي التي ظلت ذكراها ماثلة في ذاكرة الناس، بأكثر ما تذكر الناس مآثرهم التي صنعوها.
وفي زمن اكثر تقادما لعل الكثير منهم وقد كانوا في نظر البشر آلهة أرقتهم فكرة الخلود، ولم يكن ذلك الملك الاسطوري جلجامش الذي خلدت الملحمة البابلية قصة بحثه عن هذا الخلود استثناء بينهم، اذ كان لنا في أهرامات الفراعنة المصريين وتماثيلهم شاهدا الى اليوم عن هذا البحث العقيم عن خلودهم.
بماذا اذن ترانا نختار غير هذه الطريقة لمقاربة موضوع او قضية يراد لنا ان نشغل انفسنا من غير طائل بها، في ذروة أخرى من هذه الإلهيات التي تقذف علينا من لدن عدو لطالما ادمن احتراف هذه الإلهيات لكيما يواصل استغباء عقولنا وحرف تفكيرنا عن القضايا الرئيسية . فهل القصة الفلسطينية اليوم هي ان الرئيس أبو مازن أطال الله في عمره بلغ سن الثمانين عاما؟ وهيا ننخرط جميعا اعلاميين وسياسيين وعلماء .... وخبراء في أي موضوع آخر في النقاشات والنمائم الجماعية حول الخليفة المنتظر.
والمسألة واضحة، هذا احتلال في ذروة صراعه واعتقاده الواهم باقترابه من تحقيق هدفه الاسراتيجي، ابتلاع الضفة الغربية واحتواء تطلعات الوطنية الفلسطينية التي يعتبر الرئيس أبو مازن الممثل الأخير لجيل القيادة الفلسطينية التاريخية والمعبر عن أهدافها العامة. ولما كان من الصعب التخلص منه في هذا التوقيت الحساس والدقيق، بنفس الطريقة التي تخلصوا بها من عرفات. 

اذا كان الرجل الذي يتصف باعتداله الشديد لم يترك لهم مجالا او ذريعة للجوء الى هذا الخيار، فإن المعضلة التي يطرحها وجوده واستمرار بقائه بحد ذاته في هذا التوقيت، هي التي تملي عليهم اختيار هذا النوع من المناورات التي تهدف بالأخير الى سحب السجادة من تحت قدميه، وإدخال الفلسطينيين في إلهيات جانبية بهدف خلخلة النظام الفلسطيني السياسي العام.
وكان عرفات نفسه وأبو مازن أقرا منذ إنشاء السلطة الآلية الوحيدة لتداول السلطة، أي عبر الانتخابات. لكن إسرائيل وبهدف نقل المشكلات المفتعلة داخل المعسكر الفلسطيني من المشكوك فيه ان تسمح للفلسطينيين بإجراء هذه الانتخابات، وانما تريد انهاك الفلسطينيين انفسهم بمزيد من خلق التصدعات والتفككات داخل فتح هذه المرة بموازاة الانقسام بين فتح وحماس.
ليس القتل اليوم في الضفة هو القصة الرئيسية ولا الاعتقالات ولا حرق البيوت في قرية دوما ولا الاستيطان، او ما يحدث في القدس وحملة التهجير وهدم البيوت. او فشل السلام في ظل الحكومة اليمينية الأيديولوجية المتطرفة برئاسة نتنياهو، وانما هي بلوغ أبو مازن سن الثمانين.
لعلها خبرة أُخرى تضاف الى ما سبق من خبرات التاريخ في كيفية التخلص من القادة، ولكن هذه المرة عن طريق المماحكات الفارغة التي تفتقد الى ذكاء وحرفية اليهودي القديم.
وقد نختلف معه وربما نعارضه حول أمور كثيرة، ولكن ليس بينها بالتأكيد الانخراط في نقاش او سؤال حول سنه.
وامس الجمعة كان بمقدوره ان يقف ليقول باعلى الصوت امام إسرائيل «لن نسكت على ما جرى من حرق الطفل في قرية دوما ووالديه جنوب نابلس» وهذا ما يريده الفلسطينيون من رئيسهم، لا تسكت بعد اليوم أيها الرئيس.

المصدر: الأيام