Menu

الخصوصية الفلسطينية في ظل الواقع الراهن: إحياءُ ذكرى عبد الناصر

ميخائيل عوض

لم تكن القضيةُ الفلسطينية حاضرةً بقوة، وتفرض نفسها بهذا القدر والأهمية يومًا على أهميتها التاريخية القُصوى، وبكونها قضية العرب والعالم الحر، وبرغم سيطرتها المحورية على أحداث الإقليم والعالم كقضية محورية في أحداث القرن، ومحور تحالفاته، وتحولات القوى فيه. لم يكن لحضورها وتجلي أحقيتها، واستحقاق لحظة إنجاز مهمة تحريرها وافرة يومًا كما هي عليه اليوم، وليست مصادفة أنْ تعود بهذه الأهمية من الحضور والتأثير مع ذكرى القائد الخالد جمال عبد الناصر؛ لتوثق مقولته "ما أُخِذَ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة" .
فناصر باعث مصر، ومَنْ أحيا المسألة القومية، واستحضرها على نحو جلي، وتألقت في حضوره وبشخصية فلسطين بصفتها جوهر الصراع ومحوره، وأصل استنهاض الأمة لتتمكن من جغرافيتها وتاريخها، وتستحضر قيمها لإنجاز حقها بالوحدة والتحرر والسيادة؛ فلا قضية وطنية مصرية أو سورية أو كيانية قاصرة إلا بتحقيق مشروع الأمة بدولتها الوطنية، ولا يتحقق وجزء غالٍ وعزيز تحت الاحتلال الاستيطاني؛ فالتحرير والسيادة الشرط المسبق لتكتمل شخصيتها، وتتحقق مكانتها، وتتجسد مصالحها التاريخية.
فلسطين كانت في قلب المشروع التحرري القومي الناصري، وأدرك عبد الناصر ورفاقه أنَّ لا مكانة ل مصر على أهميتها، ولا دور لها إلا عبر تبني القضية الفلسطينية، والعمل على توفير الشروط والطاقات لتحريرها واستعادتها جزءًا أصيلًا من العرب، ومنصة الربط بين غربهم وشرقهم، وجنوبهم وشمالهم، وأدرك عبد الناصر بحسه وعقله وتجربته أنَّ بقاء فلسطين تحت الاحتلال، يعني لا فرص لمصر أو أي قطر للنهوض، وتأمين الحاجات، ولا قدرة على تحقيق الوطنية الكيانية الناشئة بفعل الاحتلالات والانتدابات، ومقص سايكس بيكو، وغدر وعد بلفور، والتعاقد بين البريطانيين والأسرتين الوهابية والسعودية؛ لاستعباد ونهب الجزيرة العربية وثرواتها، وتأمين الكيان الصهيوني بالتعاقد معه والتطبيع، وتمويل آلة الحرب الغربية والأمريكية.

في ذكرى عبد الناصر تفرض القضية الفلسطينية نفسها وحضورها، وتستعيد حقيقتها في أنَّها المسألة الأساس، والمعركة الفاصلة في تقرير الكائن في العرب وما سيكون. والحق أنَّ العرب مَنْ دفع من قضيتهم فلسطين التي احتلت لتكون منصة الغرب الإمبريالي؛ لنزع روح العروبة وتجزئتها، والتآمر على شعوب المنطقة، وإخضاعهم بالقوة والتعسف، وبتفويض عملاء في إدارة كياناتهم المصطنعة والقاصرة.


تلك الحقيقة التي أدركها عبد الناصر، ووضع نُصب عينيه، وفي قلب هدفه ومشروعه، وفي كل خطواته؛ ضرورة إنجازها كشرط شارط لتوفير أسباب وشروط نهوض الأمة، تتجلى اليوم لتؤكد صدقية وعده، ولتكون أمينة على رجالات وقادة الأمة العظماء؛
فتتجلى القضية بمحاورها الأساسية على ما آمن به عبد الناصر، وحكيم الثورة الفلسطينية القائد جورج حبش ، وشهدائها القادة، والتضحيات الجسام التي قدَّمها شعب الجبارين؛ الشعب العربي الفلسطيني، فتبدو الأوضاع وآفاقها على النحو الآتي:
- انتهت ظروف وشروط وقوى تمرير صفقات الخيانة، والتفريط بالتصالح، وبالرهان على التسويات، وبلغ خيار التفريط نهاياته المنطقية، فانتفى وَهمُ حل الدولتين، وسقط أوسلو وأدواته، وانحسرت قوى إسناد المفرطين والخونة.

-  في محاولات يائسة، وفي غفلة من زمن المقاومة، وكفاح الأمة، يبذل ترامب جهدًا طائلًا، ويحاول مبعوثوه تمرير صفقة لإنهاء القضية وتصفيتها، وقد أعطى القدس والجولان لنتنياهو، ويَعِدهُ بإهدائه الضفة بعد الاعتراف بالقدس عاصمة له.

-  وأنجز ترامب إفلاس خزائن مشايخ النفط ويزيد، بينما التطبيع والتحالف بين مشيخات النفط ونظم العار والكيان الصهيوني لم تسعف أيًّا منهم؛ ف السعودية وتحالفها انفجر في اليمن، والهزيمة بادية على غزوتهم، وشعب الفقراء ينتصر ويزلزل الكيانات الخليجية، ويحقق تفوقًا في الحرب، وفي سلاح المسيرات والصواريخ البالستية والدقيقة الإصابة.

-  و إيران الركنية في حلف المقاومة الصاعد، والذي يراكم الانتصارات التاريخية، وفي جميع الساحات منذ تسعينيات القرن المنصرم، قد حققت قفزة هائلة بقدراتها وقوتها، وأصبحت قوة نووية وفضائية ومتقدمة في صناعة السلاح الاستراتيجي، وفرضت شروطها وقوتها في أولى المواجهات مع أمريكا مباشرة في حرب الممرات والناقلات، وكشفت أمريكا على عجزها، وتحول ترامب إلى استجداء التفاوض ولقاء المسؤولين الإيرانيين.
- وسورية التي لم تُغيِّر من قيمها وثوابتها، وكونها قلب وقبضة حلف المقاومة، تشارف على إنهاء الحرب العالمية العظمى التي فرضت عليها، وأتقنتها وغيَّرت العالم وتوازنات قواه لتغير في العرب وإقليمهم، وتَفتحهم على حقبة جديدة تستوجب عصرنة المشروع القومي العربي؛ لإعادة إنهاض الأمة، وتأمين الإقليم، وصياغة جغرافيته ونظمه على قياس تضحياتها وانتصاراتها مع حلفها.

 - والمقاومة في لبنان أثبتت صدق ومشروعية وجدوى خيار المقاومة والسلاح والتضحيات كخيار وحيد لفرض الإرادة والتحرير، واستعادة الحقوق، وقررت توازن قوى رادع بل أنجزت في عملية أفيميم نقلة تاريخية نوعية، واستعادت قضية فلسطين كقضية قومية، وانتزعت الحق بالرد على الاعتداءات الإسرائيلية من لبنان، وداخل الخط الأخضر، وتحت الأضواء والنقل المباشر، وكشفت حالة الرهاب والعجز الذي باتت إسرائيل وجيشها وقطعان مستوطنيها يعيشونه، وقَلبت الصورة، وأثبتت تحولات ميزان القوى.
- فلسطين وشعبها الأبدي وشعب الجبارين، أثبت أنَّ حقها لا يضيع ما دام لها رجال وفتية وفتيات لا ولن يموت؛ بل وبخطوات إعجازية وبكفاحية غير مسبوقة؛ اشتقت غزة المظلومة والمحاصرة والجائعة وسائطَ ووسائل نضال وأدوات حرب من العدم، فتظاهرات حق العودة ما زالت تؤرق الكيان وتؤزمه، والبالونات والطائرات الورقية الحارقة فجرت أزمته السياسية التي لن يُشفى منها، وأقعدت إسرائيل وجيشها وقدراتها المهولة عن الفعل، واضطرت ترامب ونتنياهو للضغط على مصر لفتح المعبر، وعلى قطر لتأمين الحد الأدنى من الأموال والنفط، وبهذا قررت غزة أنَّها تعيش كل فلسطين، وتقاتل للتحرير والعودة، ولم يَفُت من عضدها الصراع بين الفصائل والسلطة، والتخلي عن قضية فلسطين ووحدتها، وعلى ذات الخط والنمط لم تهدأ الجليل وفلسطين ٤٨، ولا كف الفتيان وفتيات الضفة عن الانتفاض، وابتدعوا وسائلَ المقاومة بالدهس والطعن، وبتصنيع السلاح والمتفجرات، والاشتباك اليومي مع قوات الاحتلال، وتعرية أجهزة سلطة دايتون.
والحال، وفي ذكرى عبد الناصر يمكن استنباط تحولات واحتمالات المستقبل؛
- فالاختلال الفاضح في ميزان القوى، وصعود ومراكمة انتصارات حلف المقاومة، يُبشر بأنَّ عصر الانتصارات والتحرير قد دنا والعين على فلسطين.

 -وقرب انتهاء الحرب السورية، وبعد تورط إسرائيل وأمريكا وحلفهم وهزيمتهم، يُعيد وضع الجولان والقدس على أولويات المهام.

-  انهيار حلف العدوان والتطبيع يطلق احتمالات فشل صفقة القرن، ويجعل المهمة المحورية بعد سقوط حل الدولتين والمحاولات لتصفية حق العودة؛ العمل للتحرير التام، ففلسطين العربية والحق القومي أثبت أنَّ لا قابلية لتجزئتها، وَوَهبِ جزءٍ منها للكيان الاستيطاني.
كل ما جرى ويجري وجميع التحولات العالمية والإقليمية، وفي العرب وقيادتهم من محور المقاومة، تجعل من وعد سيد المقاومة بالصّلاة في القدس أمرًا ممكنَ التحقيق، فتحرير فلسطين أصبح أمرًا راهنًا.