Menu

الصين والنظام العالمي الجديد

هاني المصري

نُشر هذا المقال في العدد الأخير من مجلة الهدف

في لقائي معه منذ أيام في عمان قال لي د طلال أبو غزالة أنه شارك في مؤتمر في العام 1985، عقدته أكاديمية العلوم الوطنية في واشنطن (National Science Academy)  تحت عنوان "أين ستكون أميركا في العام 2020"، بمشاركة مختلف المعنيين من رسميين واقتصاديين ومفكرين وخبراء. وتوصل المؤتمر إلى ثلاثة استنتاجات رئيسية: الأول، أن الصين ستصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم في هذا العام؛ والثاني، ستصبح لهذا السبب القوة العظمى الأولى في العالم، لأن الأقوى اقتصاديًا سيحكم العالم؛ والثالث، على الولايات المتحدة عمل كل ما يلزم لمنع حدوث ذلك.

الآن، ونحن عشية الدخول في العام 2020، هناك تقارير وآراء من خبراء وعلماء ومراكز أبحاث تفيد بأن الصين تفوقت أو تكاد أن تتفوق اقتصاديًا وتكنولوجيًا على الولايات المتحدة الأميركية (راجع مقالي الصينيون قادمون المنشور في جريدة القدس بتاريخ 1/10/2019)، وبالتالي أصبحت الصين أو ستصبح القوة العظمى في العالم؛ أي لم تنجح الإجراءات التي اتخذتها الإدارات الأميركية السابقة منذ العام 1985 وحتى الآن في منع سقوط الإمبراطورية الأميركية عن عرش قيادة العالم، بوصفها أقوى قوة عرفها التاريخ .

في هذا السياق، نضع المواقف والتصرفات والعقوبات، بل الحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الصين، وغيرها من دول العالم (مع أن المعروف بأن سلاح العقوبات سلاح ذو حدين يتضرر منه الذي يفرضه وليس الذي يتعرض له فقط)، في محاولة منه لإيقاف عجلة التاريخ. كما قال ترامب بأنه "الشخص المختار من الله" لمواجهة الصين، وواصلت إدارته سياسة أن الأولوية الأميركية هي الصين، الصين، الصين.

وحتى نعرف مدى الخطر من التفوق الصيني، علينا أن نلاحظ أن ترامب طالب الصين بدفع تريليونات من الدولارات مقابل حقوق الملكية لاستخدامها الاختراعات الأميركية من دون مقابل، مع أن القوانين والأنظمة المقرة عالميًا بخصوص حقوق الملكية، والتي تم إقرارها بطلب من وبقيادة أميركا تنص على أن أي تطوير لأي اختراع لا يترتب عليه حقوق ملكية للمخترع الأصلي.

اقرأ ايضا: صدور مجلة الهدف: العدد (1481) والسابع رقميًا

وفي نفس السياق، طلب ترامب من شركتي "بوينغ" لصناعة الطائرات و"أبل" لصناعة الجوالات، التي تقدر قيمة كل منهما تريليون دولار بنقل مصانعهما من الصين، لأن الصين استفادت كثيرًا من وجودهما وغيرهما من المصانع والشركات الأميركية على أراضيها، إذ نُقلت التكنولوجيا الأميركية من خلال مئات الآلاف من العمال والمهندسيين والخبراء الصينيين العاملين فيهما، لكن أصحاب الشركتين رفضوا طلب ترامب لأن نقل المصانع من الصين سيكلف غاليًا، ما سيرفع الأسعار بشكل كبير، ويؤدي إلى إفلاسهما وإفلاس عشرات الشركات المرتبطة بهما.

وللتعرف إلى الأمر من زاوية رؤية أوساط من النخبة الأميركية نورد ما كتبه توماس فريدمان، الصحافي الأميركي الشهير، حين قال إن الرئيس ترامب قرر مواجهة أقدم حضارتين في العالم (الصين وإيران) من دون أن يكون لديه خطط ولا أهداف.

وتابع بأن رئيسًا مصابًا بنوع مؤقت من الجنون يمكن أن يحقق شيئًا في وقت ما. أما الرئيس الذي يتصرف بجنون دائم، ويخلق ألم للصين ول إيران من دون أهداف واضحة، ويؤكد دائمًا بأنه ينتصر ويخسر الآخرون ومن دون أن يكون لديه ممر آمن للخروج، هو ليس رئيسًا جيدًا.

إن مثل هذه التصرفات تزيد من احتمالات التصعيد والدخول إلى حرب، خصوصًا إذا تحققت التوقعات بأن العالم مقبل في العام القادم على أزمة اقتصادية كبرى أكبر من أزمة 2008، ستتلوها حرب عالمية تنتهي بوضع نظام عالمي جديد.

إن العقوبات والحرب التجارية التي يشنها ترامب في كل اتجاه، وانسحابه من الاتفاقيات الدولية بصورة رسمية أو فعلية، إذ خرج على كل القواعد التي حكمت النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، وفي ظل العجز غير المسبوق في الموازنة الأميركية الذي بلغ حوالي تريليون دولار هذا العام، وتريليون آخر متوقع في العام القادم، وتباطؤ النمو في الاقتصاد الأميركي الذي لا يمكن معالجته طويلًا، وإظهار تقدم زائف من خلال طبع المزيد من الدولارات بحكم أن أميركا تتحكم بالدولار وهي العملة التي تتحكم في النظام العالمي  ... فما سبق يزكي أن العالم مقبل على إقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وما يجري يمكن تفسيره بأن إدارة ترامب تسعى مثل سابقاتها، ولكن بحدة ووضوح وعنجهية أكبر لمنع ذلك، عن طريق السعي لإجبار الصين على الجلوس معها على طاولة المفاوضات لرسم العالم الجديد، بما يحقق مصالح وأهداف البلدين وعلى حساب الأقطاب والبلدان الأخرى، وهذا ما ترفضه الصين، لأنها مؤمنة بأن المستقبل لها، وأن نظامًا تعدديًا أفضل لها من استقطاب ثنائي.

كما أن الصين التي صبرت سبعة آلاف عام وهي محكومة من الآخرين، وتلعب دورًا ثانويًا أو ثانيًا بمقدورها أن تحتمل وتصبر أعوامًا أخرى. فالعالم القادم صيني بامتياز. وعلى الجميع المحب أو الكاره، الصديق أو العدو للصين أن يأخذ هذه الحقيقة بالحسبان، ويستعد لما هو قادم.

ألم يقل نابليون بونابرت في القرن الثامن عشر بأن الصين نائمة وفيها قوة كامنة، وعندما تستيقظ ستحدث زلزالًا وماردًا جبارًا، إذا استيقظ سيهتز العالم. ويبدو أن نبوءة نابليون تحققت، أو في طريقها للتحقيق.

خبر جيد جدًا أن تتراجع أميركا عن دور القوة العظمى، وتصبح إحدى قوتين عظميين، أو في عالم متعدد الأقطاب، فهذا أفضل ل فلسطين والعالم كله من السيطرة الأميركية الانفرادية على العالم، وخصوصا أن أميركا نظام رأسمالي متوحش في مرحلة النيوليبرالية. مرحلة المحافظون الجدد والمسيحيون الصهاينة الذين حكموا وفرضوا على ترامب الانتقال من العلاقة العضوية مع الحركة الصهيونية، وأداة تجسيدها إسرائيل، التي كانت تتجلى بالانحياز الأميركي التقليدي لإسرائيل، إلى موقف التأييد الأعمى لليمين واليمين المتطرف الإسرائيلي، الذي يضع على جدول أعماله استكمال إقامة "إسرائيل الكبرى"، وعدم الاعتراف بأي حق من الحقوق الفلسطينية، وعدم الاستعداد للتوصل لأي تسوية بها، ولو قدر قليل من التوازن، ما يفتح الصراع على مرحلة جديدة من الصراع ستشهد موجات من الحروب والمجازر والدمار والتهجير 

إن تراجع الدور الأمريكي العالمي يمكن أن نلمسه في تراجع في منطقة الشرق الأوسط حيث تركز إدارة ترامب على الصين ويحل محلها روسيا وإيران و تركيا وإسرائيل ويبقى الدور العربي هو الغائب الأكبر إلى أن ينهض المارد العربي وسينهض حتما كما نلاحظ في الإرهاصات التي تشهدها البلدان .العربية.

من يدرك ما الذي يمكن أن يحدث، ويستعد لمواجهة التحديات والمخاطر التي يفرضها وتوظيف الفرص المتاحة، هو الذي سيأخذ المكان الذي يستحقه في خارطة العالم الجديد