في محاولة الكتابة عن أي حزب سياسي، أو حركة وطنية أو اجتماعية، يكون من المفيد فحص وفهم أدوارها الممكنة، أي بتخيل الحزب كرافعة للجماهير وحامل لآمالها وحقوقها وتطلعاتها، وبعد كل هذا المسار الطويل من التضحية والعمل والتجارب، يبدو أن فهم الجبهة الشعبية اليوم وأدوارها يوجب فهم سياقها، أي الدوائر الثلاث التي عملت فيها الجبهة وناضلت ضمنها، الحيز الوطني الفلسطيني، والبعد القومي العربي، والجانب الأممي، وذلك الاتصال والترابط الذي آمنت به الجبهة بين هذه الدوائر.
في الواقع الحالي لهذه السياقات، يستمر المسعى الصهيوني لابادة الوجود الفلسطيني سياسيًا ومعنويًا، وتقليص وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وإسكات صوته المقاوم. يستمد فيه زخمًا اضافيًا من الخط المتصاعد في المواقف الأمريكية العدوانية تجاه حقوق الشعب الفلسطيني، حيث يمكن تصنيف ادارة ترامب كواحدة من الادارات التي تتبنى اتجاه واضح للتدخل الكثيف فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فلقد أخذت هذه الادارة على عاتقها تصفية القضية الفلسطينية في زمن وجيز، وبخطوات متسارعة تبادر فيها الولايات المتحدة لمحاولة شطب الحقوق الفلسطينية تباعًا، مستفيدة من تصعيد قوى الرجعية العربية ونظمها الحاكمة لعداءها السافر للشعوب العربية، وانتقالها تدريجيًا من الأدوار الصامتة والمتواطئة، للشراكة الكاملة في العدوان على الشعوب، والسعي المفضوح لتصفية حقوقها وإخضاعها للمستعمرين الذين يشغلون هذه النظم الرجعية.
هذا التلاقي المستمر بين قطب الهيمنة العالمية ورأس حربة المشروع الاستعماري في الإقليم، والنظم الرجعية العربية، بلغ مرحلة من الوضوح، يوضح الخلل في أي محاولة لتبني خيار المواجهة الجزئية مع المشروع الصهيوني دون ظهيره ومركزه الامبريالي، بل ويفضح العجز الذي يفترضه هذا الطرح، فمشروع الهيمنة الاستعمارية هو كل واحد متصل، تتعدد فيه الأدوار والوظائف بين المركز والأطراف.
فلسطينيًا ورغم كل الشعارات التي تتناطح في سماء الخطابة، لا يتم العمل جديًا على أي تعطيل لهذا المخطط، بل على العكس تمامًا، تسير سياسات الانقسام وصراعاته باتجاه ثابت لتغذية هذا المسعى وإزاحة عوائق الارادة والفعل الفلسطيني من أمامه، بحيث يجري تعطيل أي نهوض محتمل للإرادة الوطنية الشعبية القادرة على مواجهة هذا المشروع، وكأنما يجري احتجاز الشعب الفلسطيني بأكمله في دوامة الانقسام وفي أغلال من السياسات التعطيلية التي لا زالت تراهن على نهج التسوية، فيما يتم تصفية حقوقه والانقضاض على أرضه، ويستثمر هذا كله في الضغط على المواقف العربية التقدمية والمناصرة للحقوق العربية والفلسطينية، وباتجاهات توهين الموقف الجماهيري العربي، أي استخدام ردة فلسطينية رسمية لدعم اتجاهات الرجعية العربية.
هذا التوصيف ليس بجديد، وقد برهنت الجبهة الشعبية وقوى اليسار الجذري فلسطينيًا وعربيًا على فهمها له ومواجهته تاريخيًا، وامتلكت الجبهة دومًا ثقلاً خاصًا في الوعي الجماهيري العربي والفلسطيني في الموقف من هذه المعادلة، وخصوصًا فيما يتعلق بمواجهتها الدائمة والحية للرجعية العربية وتمثيلاتها في الحالة الفلسطينية، ولكن حجم الجهود التصفوية وضخامة حواملها اليوم، لا تقتضي استمرار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في دورها الذي لعبته تاريخيًا فحسب، بل الاستعداد لأداء مهمات انتفاضية على مستوى الواقع السياسي العربي والفلسطيني، بما يوازي ما تختزنه الجبهة من ثقل معنوي وسياسي وجماهيري على المستويين العربي والأممي كما الوطني الفلسطيني.
المؤكد أن الفلسطينيين باتوا بحاجة أكثر من أي وقت مضى، لإنهاء هذه الحقبة السياسية، والانطلاق بمقاربات مختلفة لكل شأنهم، بما يشمل الجوانب المتعلقة بالصراع مع العدو، أو آليات البناء الداخلي الفلسطيني، فشعب فلسطين يحتاج لتمثيل وطني حقيقي لإرادته في مواقع السلطة والقرار، بما يعيد لفلسطين دورها كبوصلة لنضالات الأمة العربية، وتوجهات القوى التقدمية والحية في صفوف الشعب العربي.
في فلسطين كما على امتداد الوطن العربي يحتاج شعبنا العربي للتخلص من هذه الشريحة السياسية التي أفسدت معيشته، كما الحقت ضررًا بليغًا بنضالاته الوطنية والقومية، وهذا كله لن يتم دون دور استثنائي تمارسه القوى الجذرية وفي المركز منها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لاعتبارات وزنها ودورها التاريخي، وسلامة أدواتها في تشخيص الواقع الفلسطيني والعربي، ومعادلات التعامل معه.
وفي هذا المسار تبدو هناك مهمة ملحة، للتجديد الفكري والنظري، لا بمعنى التخلي عن النظرية والتشخيص الصائب للواقع ولحركة التاريخ، ولكن بمعنى الحاجة لمقاربات نظرية تمكن من الفرز الحقيقي للمواقف المتغيرة لمختلف الأطراف المشاركة في الصراع، وتعيد الاصطفاف للقوى التقدمية والحية والمعادية للاستعمار والهيمنة الامبريالية.
إن المكانة المعنوية الرفيعة للجبهة، كما الأدوات السياسية والنضالية التي تختزنها، تحتم عليها لعب دور استثنائي في هذه المهمات، بل وأكثر من ذلك يمكن القول، إن واجب التاريخ والإرث لجبهة الشهداء، والفقراء، والعروبة، والشعوب، يلزمها اليوم بدور الريادة لمشروع نهوض ثوري عربي تلعب فيه فلسطين وقضيتها دور البوصلة، من خلال الدور المتقدم في المواجهة مع المشروع الصهيوني والامبريالي، وكذلك عبر الاستثمار الحقيقي لهذا الدور وشرعيته وجماهيريته عربيًا، في بناء اصطفاف سياسي حي وديناميكي في وجه المشروع الاستعماري الامبريالي.
ختامًا إن تحميل المسؤولية للجبهة أكثر من غيرها عن هذه المهمات، لا من باب مجاملة الجبهة في ذكراها، ولكن من باب الوقوف أمام هذه المسؤوليات، وما يترتب عليها من مخاطر وتضحيات، وقرارات صعبة أجادت الجبهة تاريخيًا على النهوض بها.