Menu

عن العشائرية والمسؤولية الوطنية

خاص بوابة الهدف

البيان الصادر عن عشائرَ في الخليل ضد التزام السلطة الفلسطينية باتفاقية (سيداو) تجاوز كونه بيانًا احتجاجيًا، وانتقل بالنزعة العشائرية المتصاعدة لاستلاب إرادة المجتمع وحقوقه وصلاحيات القانون وجهات إنفاذه.

وإذا كانت رجعية الخطاب الذي حمله البيان، والتهديدات التي أرسلها بكل اتجاه وطالت منظمات حقوقية ونسوية ومؤسسات وجهات إعلامية وغيرها، موضعًا للاستهجان، فإن الصعود المتزايد للنزعة العشائرية هو مؤشر خطرٍ على الهوية الوطنية الجامعة، وعلى البُنى التي طوّرها شعبنا كروافعَ لكفاحه الوطني ونضاله المجتمعي، وعلى مجموع المكتسبات التي حققها مجتمعنا وقواه التقدمية باتجاه الحرية والعدالة والمساواة، كمبادئ يجب أن تسود أي مجتمع يتطلع للعيش والتقدم والازدهار.

لكن الأخطر في هذا الصعود المتنامي للنزعة العشائرية وحواملها، تناقضُها الحاد مع سعي شعبنا لتطوير أدوات تمثيله السياسي، وتماهيها مع مساعي العدو لاستحضار أدوات التفتيت والتجزئة وإعمال تأثيرها في جسدنا الوطني وفي نسيج شعبنا المجتمعي؛ فما هذه النزعة إلا نموذج آخر من أدوات التفتيت، وتغييب الصوت الحامل لحقوقنا السياسية والوطنية الجمعية، لحساب هويات ضيقة وفرعية وبنى تستلب من الإنسان الفلسطيني مواطنته وانتماءه للإطار السياسي والاجتماعي العام، المتصل بنضالنا الوطني والسياسي، وتسعى للسيطرة عليه وزجّه في سياقات ضيقة ورجعية.

إن تقديم الولاء للعشيرة على حساب الولاء للوطن لا ينال من حقيقة وجودنا كشعب واحد فحسب، بل ينال من الفرد؛ إذ يُلزِمه بصيغ ارتباطٍ وإذعانٍ لا تستند إلى شراكة القيم والمبادئ والقناعات، ولكن بالأساس لقرابة الدم، والخشية والتحوّط من بقية مكونات النسيج المجتمعي، وإنها- القيمة العشائرية- إذ تطالب الفرد بالولاء للعشيرة على حساب قناعاته وأفكاره التي يتشاركها مع آخرين في هذا الوطن، فإنها تزدريه وتنتزع منه حقه في اختيار موقفه وتحقيق انتمائه السياسي والإنساني والمجتمعي لهويته السياسية، ودون مبالغة يمكن القول أن هذا ينطبق تمامًا مع توجهات السياسة الاحتلالية التي ترمي لطمس كل أشكال التمثيل السياسي الفلسطيني، وتصفية الحقوق الوطنية وكل الأصوات المنادية بها والحوامل السياسية والاجتماعية لها، لتتعامل مع جموع شعبنا كإشكالية سكانية محلية يجري حلها وفقًا لترتيبات إدارية احتلالية.

 ليست الجهات التي أصدرت البيان في محل اتهام بكونها تؤسس إرادة لمشروع جديد لروابط القرى، لكنها بالتأكيد تخدم هذا المشروع بعلمٍ أو بغير علم، وإذا كان على هذه الجهات مسؤولية ما اقترفته، فإن على السلطة الفلسطينية والقوى السياسية والانقسام الذي أصبح متجذرًا في عمق البنى السياسية والاجتماعية والثقافية مسؤولية السماح بأشكال التنفذ العشائري، وإعطاء هذا البعد مساحة على حساب القانون والمواطنة، بل واستمراء استخدام هذه الأدوات في طمس الحقوق الفردية والجماعية، وتجميع الولاءات السياسية التي تدعم هرمًا كبيرًا يقوم على التفرّد والاستزلام.

الواجب اليوم أمام كل فلسطيني يعطي ولاءه وانتماءه لشعبه وقضيته، وكل مناضل حريص على الهوية الوطنية، الإسهام في ردع هذه النزعة، وإغلاق المساحات أمام الصعود المتزايد لها، وإعادة استحضار القيم الجمعية الوطنية، من خلال الضلوع الفاعل في حمل القضايا المجتمعية، وتشكيل سند حقيقي للأفراد والمجموعات الأكثر تهميشًا وفقرًا؛ التي تتنفّذ الزعامات العشائرية فيها، وتنتزع منها حقوقها السياسية.

فلسطين الغد التي قاتل شعبُنا ولا زال لأجلها، وضحى بعشرات الآلاف من الشهداء في سبيلها، لن تكون إلا بنضالنا الجمعي الشعبي الواحد؛ الواضح في وطنية هويته، وستكون كما حلم الشهداء وطنًا للحرية والعدالة والمساواة.