وصل الترابط بين أزمات الإقليم إلى حدود غبر مسبوقة، ليس فقط بسبب التبعات المشتركة التي يتسبّب بها الحصار الأميركي على اقتصادات هذه الدول، بل أيضاً لأنّ مواجهة هذه التبعات كانت تحصل وفقاً لآليات «مشتركة» ومنسّقة، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي. التنسيق لم يكن يحصل على مستوى الدول، بقدر ما كان يستفيد من الثغرات المتاحة في بنية الحصار، والتي كانت تسمح بحصول تشبيك بين القوى الاجتماعية التي تتحرّك بين هذه الاقتصادات لإبقاء التدفّقات بينها قائمة. حالة سوريا ولبنان هي أفضل مثال، حيث تمّت الاستفادة سورياً من تحييد لبنان جزئياً عن الصراعات القائمة لتوطين جزء أساسي من الرساميل التي كانت تمدّ الاقتصادي السوري بالحياة أثناء فترة الحصار والعقوبات. هذا المسار الذي بدأ منذ عام 2012 تقريباً، سمح بانخراط متفاوت للسوريين فيه، حيث استفادت منه شرائح موالية ومعارضة على حدٍّ سواء، وبمساهمة طبقية متنوعة، مع حضور وازن للفئات الوسطى والأكثر ثراءً. على أنّ الجزء الأكبر والأهمّ فيه، والذي تستفيد منه أكثرية مطلقة من السوريين المقيمين، وخصوصاً الفقراء منهم، هو الرساميل المخصّصة للإغاثة ورعاية البيئات النازحة، والتي تحمّلت في هذه الفترة عبء الأزمة بدلاً من السلطة، على اعتبار أن ميزانية هذه الأخيرة كانت تذهب في معظمها للعمل العسكري وتأمين رواتب الموظفين والعاملين في الدولة. لم تكن هذه الأموال تخضع، بحكم توطينها في حسابات مصرفية في لبنان، للعقوبات، وكان ثمّة غضّ طرف واضح عنها حين كانت قواعد الاشتباك في المنطقة لا تزال قائمة. شمولها بالعقوبات بعد استعار الأزمة في الإقليم، هو تأكيد على أنّ المنحى الذي تأخذه العقوبات لم يعد يستثني حتى الشرائح الضعيفة التي كانت حتى وقت قريب بمنأى جزئياً عن تبعات الحصار.
مسارا الأزمة
العامل المشترك بين الأزمتَين السورية واللبنانية هو نفاد الدولار، ولكن انعكاسها على كلٍّ من الاقتصادين يختلف باختلاف طبيعة الاقتصاد نفسه. في لبنان، ثمة نظام اقتصادي اجتماعي تقوده أقلية مالية (أوليغارشيا) متحالفة مع أمراء الحرب، بالاعتماد على نسيج زبائني قوامه الطائفية السياسية، وهذا النظام لم يعد قادراً على الاستمرار في ظلّ القرار الأميركي بإيقاف التدفقّات إليه، واستعمال الدولار الذي هو عملته الرئيسية كأداة لتجفيف السيولة في كلّ الإقليم، وليس في لبنان فقط. نضوب «الثروة» بهذا الشكل، أدّى إلى انهيار النموذج الاقتصادي المعتمد على الريع والترسمل المالي، وهو ما بدأ يطرح بوضوح، ولدى فئات متزايدة من اللبنانيين، مسألة الانتقال إلى نظام اقتصادي جديد لا تكون فيه للبنية المصرفية التابعة لأسواق المال الدولية اليد الطولى. هذا يعني فكّ الارتباط مع النظام الاقتصادي العالمي الذي كان يعتمد على السوق المالية اللبنانية لتحصيل تراكم إضافي، والبدء في التفكير جدياً بدلاً من ذلك بالتحوّل ليس إلى نظام اشتراكي بالضرورة (كون شروط قيام الاشتراكية ليست متوافرة حالياً لا في لبنان ولا في سواه)، بل إلى نظام مندمج أكثر في البنية الاقتصادية الإقليمية المعتمدة على الإنتاج والتبادل البيني. هذا الخيار أملَتْه طبيعة الأزمة نفسها ووصولها بسبب نمط التراكم الريعي إلى أفق مسدود، وهذه ليست حال الاقتصاد السوري الذي بخلاف لبنان، لا يعتمد على الريع في إنتاج القيمة أو الثروة (أقلّه حتى الأمس)، ويملك من البنى الإنتاجية ما يكفي لإبقائه على قيد الحياة في أسوأ الظروف. الأزمة هنا مختلفة، وجذورها كانت قائمة قبل الحرب، ولكنها تفاقمت أكثر بعدها بسبب ظروف الحصار والعقوبات.
تبنّي السياسات النيوليبرالية حينها، حصل لمصلحة الفئات غير المنتجة للثروة، حين كانت نسب النمو المحقّق لا تراعي التوزيع الاجتماعي، وهو ما خلق تفاوتاً كبيراً في المداخيل لمصلحة أقلية من السوريين وعلى حساب الأكثرية. ولكن ذلك لم يؤدِّ بعد نشوب الحرب، إلى انحسار عملية الإنتاج بالكامل، وخصوصاً في القطاع الزراعي، حيث ظلّت السلع التي تُنتَج محلياً في معظم المناطق (بما في ذلك المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة)، متوافرة بكثرة، ولكنّها لم تعد تُصدَّر إلى الخارج لضرورات الاكتفاء الذاتي وتفادي حصول مجاعة، وبالتالي توقّف التبادل التجاري مع الدول كلياً، وتقلّصت مساهمة القطاع الذي يحفظ الأمن الغذائي للبلاد في الناتج المحلّي الإجمالي إلى الحدود القصوى. حرَم هذا الأمر الخزينة من دخل أساسي يُضاف إلى مجموع المساهمات الأخرى التي حُجِبت عنها، بفعل خروج قطاعات حيوية أخرى من الاقتصاد (أهمّها على الإطلاق السياحة والنفط). تراجُع الإنتاج بهذا القدر، جعل العملية الاقتصادية «تتوقف كلّياً» لمصلحة نشاطات طفيلية لا تساهم فعلياً في خلق القيمة أو الثروة، وبالتالي أصبحت كلّ النشاطات الاقتصادية في البلاد خلال هذه المرحلة منفصلة عن العملية الإنتاجية، ومرتبطة بدلاً منها بعامل العقوبات التي فُرضت على الاقتصاد، وجعلته مرتبطاً بصعود الدولار وهبوطه أكثر من أيِّ عامل آخر.
دخول العامل «الريعي»
أضعفَ هذا التراجع الاقتصادي الكبير من قدرة الدولة على التحكُّم بالاقتصاد عبر الأدوات المعتادة، مثل الأجور والضرائب وسواها، فبات المردود المالي لمجموع العمليات التي تقوم بها لا يساوي حجم الانحسار الحاصل في عملية الإنتاج، وبالتالي في القدرة على خلق فائض يحدّ من تراجع العملية الوطنية أمام الدولار وباقي العملات الأجنبية بالشكل الذي حصل. الفراغ الذي حصل بسبب هذا التراجع، ملأته التدفّقات المالية التي بدأت ترِد إلى البلاد بُعَيد عام 2014، حين ازدادت موجة الهجرة إلى أوروبا بشكل كبير، ومعها ازداد بالطبع حجم الاعتماد على التحويلات الآتية من هناك بالعملة الأجنبية. مع هذه الموجة، تغيّر شكل البلاد نهائياً على الصعيد الاقتصادي، فهي لم تحمل معها المزيد من الاعتماد على التدفّقات الخارجية فحسب، بل تسبّبت أيضاً بفقدان معظم اليد العاملة السورية التي كانت تنتج القيمة والثروة، وبسببها أيضاً ولكن على هامش هذا التحوُّل الكبير خرجت النُخَب التي انخرطت في الأزمة بدايةً بنسب متفاوتة. انحسار عملية الإنتاج بعد هذا الخروج الكبير لأكثرية قواها، جعل «الطابع الريعي» يطغى على الاقتصاد السوري للمرة الأولى في تاريخه، فالهجرات الكبرى في سوريا ليست أمراً معتاداً، وهي حين تحصل تاريخياً ولمرّات نادرة لا تغيّر في البنية الاقتصادية على نحو جذري، بل تدخل تعديلات محدودة عليها نظراً لدخول عامل الأجيال فيها. وهو ما حصل لآخر مرّة في التاريخ المعاصر إبان الحرب العالمية الأولى وخلالها، حين تسبّبت الحرب بهجرة اقتصادية ــ اعتُبرت كبيرة وقتها ــ إلى الأميركيتين. حينها، لم تغيّر الحرب من نمط الإنتاج بسبب قصر مدتها زمنياً ومحدودية ما يمكن أن تفعله على صعيد هزّ البنية الاقتصادية الاجتماعية للبلاد، كونها حصلت خارجها ولم تؤثّر على وحدتها الجغرافية أو ديموغرافيتها الاجتماعية. «طغيان الريع» بسبب هذا التحوُّل الجديد، أدى لأوّل مرة أيضاً إلى ربط اقتصاد الحرب بالعملة الأجنبية، حيث أصبح الدولار ــ وبدرجة أقلّ اليورو ــ هو المعيار لأيّ تبادل أو عمل تجاري يحصل سواءً في الداخل أو في الخارج، وبالتالي بات صعود الليرة أو هبوطها تجاهه هو المحدِّد بدلاً من عملية الإنتاج والمؤشّرات الاقتصادية الكلّية المرتبطة بها (نسبة النمو، قيمة الناتج المحلي الإجمالي، الميزان التجاري ...إلخ )، لمدى متانة الاقتصاد وصموده من عدمهما.
مرجعية العملات الأجنبية
فرَضَ ذلك على السلطة التعاطي بواقعية مع الأزمة، إذ أُجبِرت بسبب انعدام الخيارات أمامها، على التراجع عن الإجراء الذي كان متّبعاً سابقاً بتجريم التعامل بالعملة الأجنبية داخلياً، وبالتالي وقع الاعتراف ضمنياً بانتهاء العمل بـ«النظام الاشتراكي» لمصلحة نظام تختلط فيه الهياكل الاشتراكية السابقة بآليات التبادل الجديدة التي أصبح الدولار وباقي سلّة العملات الأجنبية بموجبها سلعةً متداولة. هكذا، حصل اختراقٌ كبير للرقابة الشديدة التي كانت مفروضة سابقاً على تدفّق الرساميل، وبدأت نتيجةً لذلك سلّة العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار في الحلول مكان الليرة كمحفظة للادّخار، بعد تعذُّر خيار الادّخار في المصارف إثر انهيار الليرة تدريجياً، وفقدانها لقيمتها المضافة. وهذا يعني عملياً أنّ قيمة النقد المدَّخر في المنازل بالعملة الأجنبية، والذي لا يخرج إلا حين يقتضي الأمر الصرف من المدخّرات، لا يقلّ عن ذاك المتداول بالليرة، لا بل يتجاوزه أحياناً بالنسبة إلى الشرائح الاجتماعية التي تعتمد بالكامل على تحويلات أبنائها المهاجرين. من هنا، نفهم حجم الاعتماد على هذه «الدولرة» غير النظامية في عملية التجفيف الحاصلة للدولارات في المنطقة انطلاقاً من لبنان، فحين يكون «ربع» الاقتصاد المنزلي لدولةٍ ما معتمداً على العملة الأجنبية، يصبح التحكُّم فيه من بوابة العقوبات أو الحصار بعد سحب السيولة من الأسواق الإقليمية أمراً يسيراً، حتى لو لم يكن هذا الاقتصاد مدولراً بالكامل أو مرتبطاً عضوياً بالأسواق المالية كما هي الحال مع لبنان. ومع ذلك، لا يزال شبح الانهيار الكامل هنا بعيداً بعض الشيء، فالأزمة في سوريا تختلف عنها في لبنان، على اعتبار أنها ليست بنيوية، بمعنى أنّ الهياكل الأساسية للاقتصاد لا تزال قائمة، وهي موجودة في قطاع الإنتاج وليس في قنوات التوزيع التي أودت بالاقتصاد اللبناني، ولكن تفعيلها على حساب الريع المتزايد (مع أنّ لهذا الأخير فوائده أيضاً، ولكن ليس على المدى البعيد) رهنٌ بإعادة الاعتبار، ليس فقط للإنتاج كمصدر وحيد للثروة، بل أيضاً للعملية الاقتصادية ككلّ، لجهة كونها المدخل الفعلي والوحيد لحفظ البلاد من تبعات الحصار والعقوبات الآخذة في التزايد بشكل كبير.