المُلاحَظ، حتى الآن، في خريطة انتشار فيروس «كورونا»، أنّه يصيب الدول الصناعية أكثر من غيرها. النشاط الصناعي تضرّر كثيراً من الفيروس، ومعه كلّ منظومة العولمة التي تقوم على تنقّل السلع والرساميل أكثر من الأفراد. معدّلات النمو في الاقتصادات الكبرى، ستشهد في المرحلة المقبلة انخفاضاً كبيراً، بسبب القيود التي فُرِضت على الحركة التجارية بين الدول، وهو ما سينعكس مستقبلاً، ليس على معدل الإنتاجية فحسب، بل أيضاً على وجهة التراكم، كون القيود أصبحت محصورة بأوروبا، بعد انتقال بؤرة الوباء إليها من الصين.
ثمن سياسات التقشّف
معدّلات الإصابة هناك تشهد ارتفاعاً كبيراً، ولكن في الجنوب الأوروبي (إيطاليا وإسبانيا)، حيث ليس ثمّة بنية تحتية معدّة لمواجهة الوباء، كما حدث في الصين، أو كما يُتوقَّع أن يحدث حين يرتفع معدّل الإصابات أكثر في الدول الغنية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا). هذه الدول (إسبانيا وإيطاليا) لم تشهد زيادات في معدّل الإنتاجية، ولا حتى في توزيع الفائض في موازناتها، منذ أزمة سياسات التقشّف في عام 2015، وهي لا تزال تعاني من تبعات الإملاءات التي فُرضت عليها، حينها، من جانب ترويكا الدائنين، وعلى رأسهم ألمانيا. النقص الحالي في التجهيزات الخاصّة باحتواء الوباء، هو نتاج هذا الخضوع الذي جعل كلّ ناتجها الإجمالي يصبّ في خدمة الديون المتراكمة عليها تجاه ألمانيا وباقي الدول الغنية في القارّة. حدوث التراكم بهذه الطريقة، أي من الجنوب إلى الشمال، جعلها تدفع الثمن عن أوروبا كلّها، حين انتشر الفيروس فيها، ولم تجد نتيجةً للاقتطاعات السابقة ما يكفيها من ملاءة مالية لمواجهته. الحدّ من الانتشار سيحصل، على الأرجح، بُعيد حزيران/ يونيو المقبل، ولكن ليس قبل حصد المئات من الأرواح، وانكشاف البلاد تماماً، سواءً في إيطاليا أو في إسبانيا، على تبعات الأزمة الاقتصادية التي ستكون مدمِّرة أكثر من الفيروس نفسه. ذهاب ثمار التراكم السابق إلى ألمانيا والدول الغنية، سيعمّق، على ضوء انكشاف البلاد صحياً واقتصادياً، أزمة النموذج الرأسمالي في أوروبا، كونه يقوم ليس فقط على تبعية الجنوب للشمال، بل أيضاً على تفاوت شديد في الاستفادة من ثمار العولمة بينهما، لجهة حركة البضائع والرساميل التي تشهد أزمة الآن، ولكن ليس بالنسبة إلى الشمال. القيود، حالياً، تطال بسبب الحاضنة البشرية للفيروس الأفراد أكثر، وهذا يؤثّر بدرجة كبيرة على انتقال الطبقة العاملة الأوروبية بين الجنوب والشمال للعمل، ما سينعكس على إنتاجيتها في ألمانيا وغيرها من الدول الصناعية الأوروبية. ولكن حركة رأس المال هناك ستستمرّ، ومعها التراكم الذي سيتراجع طبعاً، ولكن ليس بقدر الانخفاض الذي سيطال دخل الطبقة العاملة حين ستُفرَض عليها تماماً إجراءات العزل والحجر الصحّي. بهذا المعنى، سيكون تأثير تراجع معدّلات النمو متفاوتاً بشكل كبير، حيث تدفع الدول الأكثر فقراً ومعها طبقاتها العاملة ثمن التقييد الحاصل للعولمة على شكل انتشار أكثر للأوبئة وانهيار أكبر في معدّلات الدخل، بعدما دفعت سابقاً ثمن استبعادها منها، على هيئة إملاءاتٍ للتقشّف وحدٍّ كبير من الإنفاق الاجتماعي.
تحدّي نجاة الصين
تجاوُز الصين أزمة انتشار الفيروس فيها، لا يعني بالضرورة نجاتها من تبعاته على حركة السلع والرساميل. الإجراءات المتّخذة هناك، اتّبعت المنهج نفسه الذي نظَّم حركة التجارة العالمية لمصلحتها في العقدين الأخيرين. المركزية الشديدة في التعامل مع انتشار الوباء حدّت من الضرر الذي كان من الممكن حدوثه، ليس على الأرواح فحسب، بل على القطاعات الاقتصادية الأساسية أيضاً. الاستخدام الواسع النطاق للتكنولوجيا العالية الموطَّنة أو المنتَجة محلياً في المواجهة، أثبت قدرة الدولة هناك على الاستفادة من نجاحها في التصنيع على نطاق عالمي، بحيث تتحوَّل هذه التقانة، بعد حدِّها من انتشار الوباء، إلى خبرة أخرى تضاف إلى مجموع الخبرات التي راكمتها الصين أثناء انتقالها من نموذج رأسمالية الدولة المحدودة إلى النموذج الرأسمالي العولمي الذي يشهد باستثناء تجربتها تراجعاً كبيراً حالياً. هذا التراجُع سيزداد مع نجاح الفيروس في الحدّ من حركة تنقُّل السلع والرساميل والأفراد عبر الحدود، وسيتراجع معه على الأرجح تعويل الصين على الاستثمار في البنى التحتية التي يقوم عليها مشروع الحزام والطريق الذي تقوده في آسيا وأوروبا، والذي من دون هذه الحرية في التنقّل والتجارة سيصبح بلا جدوى اقتصادية كبيرة. طموحها لقيادة العولمة سيستمرّ طبعاً، كونها تستحوذ مع الولايات المتحدة على الحصّة الأكبر من التجارة العالمية، وهو ما يضعها بعد انكفاء أميركا على نفسها تجارياً تحت إدارة دونالد ترامب الحمائية في موقع المنافح الأوّل عن اتفاقيات التجارة الحرّة، التي ينسحب منها الرجل تباعاً. هذه الفلسفة التي تقول بعدم جواز وضع عراقيل على حركة التجارة، لكي تكون الاستفادة منها مشتركة ومتساوية بين الدول الرأسمالية، وحتى بينها وبين الدول النامية، ستتعرّض لهزّة كبيرة حين ينتهي العالم من هذا الوباء، ويبدأ في إحصاء الخسائر التي تسبّب بها على صعيد التجارة الدولية وحركة الرساميل عموماً. الوباء لم يعرقل فقط حركة التجارة العالمية، بل كشف عن حدود النموذج الذي كانت تقوده الولايات المتحدة قبل انكفائها الحمائي، وكيف أنه سيكون عرضةً ليس فقط للتراجع بل أيضاً «للانهيار»، بمجرّد حدوث هزّة من النوع الذي أحدثه الفيروس في القواعد المنظّمة لآلية التراكم بشكلها الحالي. بهذا المعنى، فإنّ الصين ستكون في المرحلة المقبلة أمام تحدّي، ليس فقط الاستفادة من تجربتها الخاصّة في مكافحة الوباء لتعميمها عالمياً، بل أيضاً النجاح في الحفاظ على «النموذج التجاري» الذي اندثر تقريباً معه، لجعله ــــ بعد خروج الولايات المتحدة القريب ــــ متناسباً مع مصلحة الفئات الشعبية التي دفعت الثمن أكثر من سواها.
مستقبل الحمائية الأميركية
الحمائية الأميركية التي يقودها ترامب تعرّضت بدورها لهزّة كبيرة مع كلّ هذه الأضرار على حركة التجارة العالمية. ما أبرزته الأزمة لحدّ الآن هو أنّ التعارض الظاهري بين العولمة والحمائية، لن يصمد كثيراً أمام حجم التقويض الذي تتعرّض له المنظومة الرأسمالية على الصعيد العالمي. فالحمائية، في النهاية، هي نتاج لهذا التركُّز الكبير للثروة على صعيد العالم، والتغيير الكبير الذي أحدثته على صعيد اتجاهات الرأسمال لم يكن في مصلحة أكثرية دول العالم، بل حصل لمصلحة الولايات المتحدة وحدها، عبر تحسين حصّتها من الميزان التجاري مع الدول الرأسمالية الأخرى، وإنهاء العمل بالأُطر التعددية في اتفاقات التجارة الحرّة مع الشركاء الرأسماليين، لمصلحة أخرى ثنائية تصبّ بالكامل في مصلحتها. هذا جعل حصّة الاقتصاد الأميركي من التجارة الدولية أكبر، وأدّى إلى استعادة رساميل وصناعات كثيرة إلى داخل الولايات المتحدة، بغرض خلق عدد كبير من الوظائف للطبقة العاملة البيضاء التي تعتبر قاعدة ترامب الداخلية الصلبة، إثر نقمتها الكبيرة على التراجع الذي أصاب مداخيلها في حقبة صعود الحزب الديموقراطي مع إدارتي كلينتون وأوباما. انعكس ذلك على نسبة النموّ التي شهدت تحسّناً كبيراً في هذه الحقبة، وهو ما كان يعوِّل عليه ترامب، لتحصين الفترة المتبقية من ولايته في مواجهة إجراءات العزل، على أمل أن يكون هذا التعافي في الاقتصاد مدخله الأساسي إلى ولاية رئاسية جديدة. الحمائية هنا نجحت على صعيد الداخل اقتصادياً، وفي مواجهة الشركاء الرأسماليين خارجياً. على أنّ هذا النجاح يبقى مرهوناً باستمرار مفاعيلها في مواجهة التحوّلات التي تخضع لها العولمة، كونها تمثّل بمنهجها «النقدي» التجاوز الأكبر لها على صعيد العالم، ولكن في إطار الخضوع لنتائجها، لجهة الاستفادة أكثر من ثمارها أميركياً. بهذا المعنى، فإنّ الحمائية التجارية الآن أمام تحدّي الحفاظ على مكاسبها، في ظلّ نكوص حركة التجارة على مستوى العالم، وبالتالي تراجُع المداخيل التي غذّت ازدهارها في الداخل على حساب الشركاء الرأسماليين في الخارج، بعد تعديل كلّ الاتفاقيات التجارية معهم لمصلحتها. حتى الحروب التجارية التي خيضت مع الصين لصالح شركات التكنولوجيا الأميركية، التي عاودت الإنتاج في الداخل، ستصبح نتائجها على المحكّ في حال لم يتمكّن الخصم الصيني من الحفاظ على النموذج الذي يضخّ الثروة في العالم بشكل متساوٍ. الحمائية التي يقودها ترامب معنيّة أكثر من الصين بالحفاظ على النموذج لأنّ معارضتها له شكلية، حيث لا مصلحة لها بتجاوزه إلا بحدود ما يسمح به نمط الإنتاج الذي يموِّل بقاء الرجل في الرئاسة حالياً. وصول الفيروس إلى الولايات المتحدة بعد تقويضه لحركة التجارة الدولية، يهدِّد ليس فقط هذا البقاء، بل أيضاً نمط الإنتاج الذي يقوم عليه، والذي يتعارض مع توزيع الثروة خارج الولايات المتحدة، وفي إطار طبقي يتعدّى الأكثرية العمّالية البيضاء في الداخل التي تدعم ترامب.