لو سلّمنا جدلًا أنّ المعارضة الواسعة لمخطط الضم الوارد في رؤية ترامب، والمقرّ من دون ربطه بها في برنامج الحكومة الإسرائيلية، قد توقّف أو تأجّل مؤقتًا، أو صُرِفَ النظر عنه حتى إشعار آخر، فهل هذا انتصار تاريخي فلسطيني – كما يعتقد البعض - ويفتح طريق عودة المفاوضات على أساس الشرعية الدولية، كما جاء في الاتصال الهاتفي الذي جرى مؤخرًا بين الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والذي أبدى استعداده للعودة إلى المفاوضات على أساس الشرعية الدولية، ومن النقطة التي انتهت إليها، كما ورد في التصوّر المضادّ الذي قدمته القيادة الفلسطينية للأمين العام للأمم المتحدة وأطراف اللجنة الرباعية في شهر حزيران الماضي؟
نعم، وقف الضم أو حتى تأجيله انتصار، ولكن محدود و ليس تاريخيًا، خاصة أن العوامل الأهم التي أدت إلى التأجيل تتعلق بجائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية، وعلاقة ذلك بفرص نجاح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الفوز بولاية ثانية، فضلًا عن الخلافات الإسرائيلية الداخلية التي لم تنطلق في غالبيتها الساحقة من الخلاف على مبدأ الضم، وإنما كيف ومتى يمكن تحقيقه، بما يحقق أفضل مصلحة لإسرائيل.
ما سبق هي أهم العوامل التي أدت إلى تأجيل الضم، وبعدها نضع الرفض الفلسطيني والعربي والدولي. لذا، يجب أن نضع في حساباتنا وجود سيناريوهات عدة لا تزال قائمة، أبرزها ضم جزئي، وتجميد مؤقت للضم.
من المبكر النزول عن الجبل واقتسام الغنائم، فالحرب ما زالت قائمة، والضم في صميم العقيدة الصهيونية، وطبق في مرات كثيرة، وهو يأخذ شكل الضم الزاحف المتواصل بشكل دائم من خلال كل ما يقوم به الاحتلال منذ وقوعه، خصوصًا بعد إقرار "خطة يغآل ألون"، التي شكلت أساسًا انطلقت منه الحكومات الإسرائيلية، وساعد على ذلك تصنيف أكثر من 60% من أراضي الضفة الغربية في اتفاق اوسلو وملحقاته كأراضٍ خاضعة للسيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية، وتأجيل القدس إلى المرحلة النهائية، ما يجعل الضم القانوني مجرد خطوة أخيرة يمكن أن تحدث حاليًا، أو تتأخر قليلًا أو كثيرًا، ولكنها آتية إذا استمر الوضع الفلسطيني والعربي على ما هو عليه الآن.
يكفي أن نذكر بأن سلطات الاحتلال زرعت أكثر من 850 ألف مستعمر مستوطن، وتخطط لرفع العدد إلى مليون خلال فترة قصيرة، وتمنع الفلسطينيين من الاقتراب من أراضيهم وممتلكاتهم، وتفرض على آخرين الحصول على تصاريح لزيارتها، وتمنعهم من حفر آبار مياه، وإقامة مشاريع تساعدهم على العيش، خصوصًا في المناطق المصنفة (ج)، تحت ادّعاءات مختلفة، منها أنها مناطق عسكرية وأمنية، ومحميّات طبيعية ومناطق حيوية لأسباب أيديولوجية ودينية وإستراتيجية.
أدت السياسات والإجراءات الإسرائيلية منذ وقوع الاحتلال وحتى الآن إلى تفريغ المناطق المصنفة (ج) من الضفة المحتلة من سكانها، حيث يقيم فيها حوالي 350 ألف، أي أقل من العدد الذي من المفترض أن يقيم فيها بأضعاف إذا نظرنا إلى عددهم قبل وقوع الاحتلال ومعدل التزايد السكاني خلال أكثر من 5 عقود؛ ذلك نتيجة عملية إبعاد منهجية تاريخية تطبيقًا واستمرارًا لما قامت به الحركة الصهيونية منذ الهجرة الاستعمارية الأولى وحتى الآن، إذ كانت تستولي على الأرض، وتهوّدها وتستوطنها، وتطرد سكانها، ثم تأخذ الشرعية لذلك.
هكذا كان الأمر منذ قرار التقسيم وما بعده حين ضمت الدولة اليهودية التي منحها القرار حوالي 56% من الأرض، واحتلت 22% من الأراضي المخصصة للدولة العربية، وقامت إسرائيل على 78% من أرض فلسطين التاريخية، إضافة إلى احتلالها في العام 1967 ما تبقى من فلسطين، وضمت القدس الشرقية بعيد الاحتلال، ثم ضمت الجولان في العام 1980، وحصلت على تأييد إدارة ترامب لهذا الخطوات مؤخرًا.
ما سبق يوضح أن إعلان الضم القانوني مهم، ولكن لا يجب التقليل ولا المبالغة بأهميته، لأنه يغيّر الطبيعة القانونية لهذه الأراضي، فأوسلو جعل الأراضي الفلسطينية المحتلة محل نزاع وسيحسم أمرها بالمفاوضات. كما أن الضم يجعلها خاضعة للسيادة والقوانين الإسرائيلية بدلًا من النظام العسكري الاحتلالي ، ولكنه لن يغير الواقع على الأرض كثيرًا فهي منذ ٦٧ خاضعة للسطرة الإسرائيلية.
والأهم، كيف ستتصرف القيادة الفلسطينية إزاء الأمر، سواء إذا تم الضم أو تأجل، بشكل كلي ودفعة واحدة، أو على دفعات تبدأ بخطوة رمزية جزئية، ولكنها بالغة الدلالة، إذ تؤشر إلى مواصلة إسرائيل لتنفيذ خطة إقامة "إسرائيل الكبرى"، وتخليها عن محاولة التوصل إلى تسوية، ولو كانت مختلة، لصالحها مع الفلسطينيين، على أساس أن كل الأرض هي "أرض الميعاد" و"أرض إسرائيل"، وهي لا تضمها بل "تسترجعها"؟
إذا توقف تطبيق الضم القانوني مؤقتا واستأنفت القيادة الفلسطينية مساعيها للمفاوضات، فلا معنى لكل ما تقوله عن قيام إسرائيل بقتل أوسلو والتسوية التفاوضية، وعن عدم وجود شريك إسرائيلي لصنع السلام معه. فمسيرة ما يسمى "السلام" منذ عقد مؤتمر مدريد في العام 1991، والانحراف عنها رغم عدم توازنها بعقد اتفاق أوسلو؛ ليس فقط لم تنجح، ولم تحقق أهدافها الفلسطينية بنقل الوضع في الأراضي المحتلة العام 1967 من الاحتلال إلى الاستقلال، بل أدت إلى نتائج كارثية تظهر في الحقائق التي أقامها الاحتلال، والتي أصبحت من المرجعيات المعتمدة عند البحث في أي مفاوضات.
إن من عيوب أوسلو أنه لا يمس الحقوق الفلسطينية فحسب، وإنما تجاوز القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ما جعله وكل المفاوضات التي جرت منذ توقيعه لا تستند إلى الشرعية الدولية فكيف سنشهد مفاوضات على أساس الشرعية الدولية بعد كل الترظي والمعطيات السلبية الفلسطينية والعربية.
يقال للفلسطينيين حتى من بعض الأشقاء العرب والأصدقاء: هل يعقل تفكيك الاستيطان؟ وأن عليهم تأكيد القبول بمبدأ تبادل الأراضي الذي وافقوا عليه سابقًا، وأصبح من "الثوابت" التي ستحكم أي مفاوضات قادمة. وهذا أغرى وسيغري الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على إقامة حقائق احتلالية واستيطانية وعنصرية جديدة وباستمرار، لكي تصبح حقائق تأخذ بالحسبان في أي حل قادم، إلى أن نصل إلى وضع لن يكون ولم يعد فيه ما يمكن التفاوض حوله.
وحتى لو تمسكت القيادة الفلسطينية بأذيال التسوية الميتة، وراهنت على استئناف المفاوضات، فهي إما ستواجه برفض إسرائيلي كما حصل منذ العام 2014 وحتى الآن حيث رفض نتنياهو لقاء أبو مازن عدة مرات بوساطة روسية وفرنسية؛ وإما ستكون مفاوضات على أساس رؤية ترامب، أو من دون أساس، حيث يطرح كل طرف ما يشاء، وهذه وتلك صيغ مناسبة جدًا بدرجات متفاوتة للاحتلال كونه الطرف الأقوى والقادر على استخدام المفاوضات للتغطية على ما يقوم به من خلق المزيد من الحقائق الاحتلالية - سواء استندت إلى رؤية ترامب أم لم تستند إلى أي أساس - وهذا لا يجعل للمفاوضات من معنى سوى تعميق دور السلطة كوكيل للاحتلال، والعمل على ترويضها أكثر لقبول الحكم الذاتي المحدود على المعازل الآهلة بالسكان المقطعة الأوصال كحل دائم، إلى حين توفر فرصة ملائمة لتهجير دفعات جديدة من الفلسطينيين إلى الأردن وسيناء، وفي أركان الأرض الأربعة، حتى لا يبقى شعب على أرض وطنه، ولا قضية حية استمرت رغم كل المآسي والتضحيات والتنازلات والبطولات تلاحق إسرائيل، وتذكرها وتذكر العالم بما ترتكبه من جرائم بحق الإنسان والإنسانية، وحق الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحرب إبادة وتذويب، والتعامل معه كأفراد وليس كشعب يستحق ممارسة حقه في تقرير المصير.
ولتفكيك منطق الداعين إلى استمرار المفاوضات، والبحث عن تسوية تفاوضية في شروط غير ملائمة أبدًا، بحجة عدم وجود بديل لها، نقول إن الكارثة التي وصلنا إليها بعد عشرات السنين من المفاوضات مفترض أن تسقط التسوية التفاوضية بالشروط والأدوات والسياسات التي اعتمدت من الحساب كليًا، بغض النظر عن البديل، وقبل أن نبحث في أمره، فليس هناك ما هو أسوأ من تعبيد الطريق لتصفية القضية الفلسطينية بغطاء من "عملية سلام" مزعومة تشارك فيها الضحية رغم إدراكها لخطورتها وعبثيتها بزعم عدم وجود بديل، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن المشروع الصهيوني جذري، لم ولا يبحث ولن يرضى بأي تسوية تفاوضية تتضمن الانسحاب وإقامة دولة إلا مضطرًا، أي إذا أجبر على الانسحاب من دون قيد أو شرط، وهذا يتطلب بناء بديل وليس انتظار هبوطه من السماء، من خلال وضع رؤية شاملة تستخدم إستراتيجية، بل إستراتيجيات متعددة الأطراف والأبعاد، مركزها إبقاء القضية حية، عبر تعزيز عوامل الصمود والوجود والمقاومة على أرض الصراع، تهدف إلى جعل الاحتلال وما ترتب عنه مكلفًا لإسرائيل ومن يدعمها.
تتضمن الرؤية إستراتيجية عمل دؤوب مع الشعوب والقوى المؤيدة للحقوق الفلسطينية، وإستراتيحية للعمل السياسي والديبلوماسي على امتداد العالم، والاستعداد لمفاوضات في إطار دولي مستمر، ولكن هذا لن يحدث إلا بعد تغيّر جوهري بموازين القوى، وضمن مرجعية واضحة منذ البداية، تقوم على الالتزام بالحقوق الفلسطينية التي يجب ألا تخضع للتفاوض، وإنما التفاوض على رسم الحدود والتفاصيل، وكيفية تطبيق المرجعية المتفق عليها مسبقًا.
لا خلاف بين عاقلين أن إسرائيل بعيدة بعد الأرض عن السماء عن الإقرار بذلك، لذلك لا معنى للتعلق بأوهام العودة إلى المفاوضات، والحديث عن استئنافها من النقطة التي انتهت إليها. بل أكثر من ذلك، فإن ما قامت به الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من قتل لعملية السلام واتفاق أوسلو يوفر فرصة للفلسطينيين للتراجع عن كل التنازلات التي قدمت، على أن يقوموا بما يلي:
- سحب الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، الذي منح التنازل عن الحقوق الطبيعية والقانونية، وعن الرواية التاريخية، وقطع الطريق على البحث عن حل تاريخي جذري على كل أرض فلسطين، وضرب وحدة القضية والأرض والشعب، حل تاريخي يتحقق حين يكون هناك عدالة وحقوق متساوية حيث لا يكون هناك مشروع استعماري واحتلال وامتيازات عنصرية وتطهير عرقي.
- التحرر كليًا من الالتزامات السياسية والاقتصادية والأمنية والقانونية المترتبة على اتفاق أوسلو، بدلًا من جعل بقاء السلطة كما هي و أوسلو والعودة إليه وإسقاط رؤية ترامب ومخطط الضم عمليا سقفًا أعلى للمطالب الفلسطينية.
- سحب أو تجميد مبادرة السلام العربية أو على الأقل الإقلاع عمّا هو وارد فيها من استعداد عربي للتطبيع الكامل و للاتفاق على حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين، كونه يضع مصيرها بيد إسرائيل.
- سحب الموافقة عن مبدأ تبادل الأراضي، وما يعنيه من موافقة على ضم كتل استيطانية لإسرائيل، وتقسيم القدس المحتلة "لإحياء عربية وأحياء يهودية"، وعن بدع الحلول الانتقالية المؤقتة، وتأجيل القدس إلى المفاوضات النهائية، وتغليب الأمن، وطمس طبيعة الصراع، ما أعطى للاحتلال المزايا والوقت والفرصة لاستكمال خلق أمر واقع من الصعب التراجع عنه وتجاهله من دون اعتماد مقاربة جديدة مختلفة كليًا، مقاربة تعتمد المقاومة الشاملة لكي تقوم بإحداث التراكم، وتزرع لتفتح الطريق للسياسة لتحصد.
تأسيسا على ما سبق، يجب الحفاظ على كل المنجزات المتبقية والمتحققة على مختلف الأصعدة، بما فيها الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية، والرأي الاستشاري لمحكمة لاهاي الدولية، وكل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة ومختلف الوكالات الدولية التي تضمنت الحقوق الفلسطينية المعترف بها في القانون الدولي والشرعية الدولية.
كما يجب الحفاظ على هدف دحر الاحتلال وإنجاز الاستقلال كجزء من البرنامج المرحلي برنامج العودة وتفدقرير المصير والاستقلال، لأن هذا الهدف سيبقى صالحًا ما دام هناك ملايين الفلسطينيين صامدون في الضفة والقطاع، وما دامت الأرض تعدّ محتلة وليست معترف بها مثل إسرائيل، وما دام هو البرنامج المقر والمدعوم فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، ولا يوجد بديل واقعي عنه لأن الدولة الواحدة التي يقدمها البعض كبديل ينسى أنها قائمة على الأرض منذ الاحتلال في العام 1967، لكنها دولة استعمارية عنصرية لليهود، ولا مكان فيها للفلسطينيين حتى داخل إسرائيل، الذين ينظر إليهم كمجرد أفراد، ومشكلة يجب إيجاد حل لها خارج إسرائيل.
وهذا الأمر ترسخ بإقرار قانون القومية الذي يتعامل مع الفسطينيين في 48 كمقيمين وليسوا مواطنين، وبما جاء في رؤية ترامب عن إمكانية ضم أهل المثلث للكيان الفلسطيني، وبحديث نتنياهو أن الفلسطينيين في المناطق التي ستضم لن يحصلوا على الجنسية، ولا الإقامة مثل أهل القدس المحتلة، وإنما سيبقوا رعايا فلسطينيين في إسرائيل، وليس جزءًا من شعب له حقوق.
يجب أن يبقى هدف الاستقلال ومقاومة الاستعمار الاستيطاني الزاحف قائمًا، حتى لو تراجعت إمكانية تحقيق الاستقلال الآن بعد التحولات المتلاحقة في إسرائيل، والمرشحة للاستمرار نحو المزيد من التطرف الديني والسياسي حتى يمكن البناء على ما تحقق وليس البدء من الصفر.
إن وقف الضم القانوني مهم، ولكنه ليس سقفًا للموقف الفلسطيني، بل مجرد خطوة على طريق دحر الاحتلال وتفكيك الاستيطان وإنجاز الحرية والعودة والاستقلال والمساواة، على طريق تحقيق الحل التاريخي الجذري الديمقراطي على كل أرض فلسطين.