لا زالت العشائرية وأدواتها تلعب دورها في خدمة منظومات التسلط وضد الشرائح الأكثر ضعفًا وتهميشُا، وإذا كان استمرار هذه البنى في لعب أدوار من هذا النوع هو علامة سلبية مزعجة في أي من المجتمعات، فإن تمدد وتوسع وتعميق أدوارها بالتأكيد قد يكون علامة مفزعة.
ليس القرابة العائلية والحفاظ على الصلات الاجتماعية بين الأقارب جوانب سلبية، ولكن حلول هذه الصلات محل الصلات الوطنية ووضعها في مواجهة هويات أخرى، أي الانتماء لعموم هذا المجتمع ولقضيته وهويته، وخصوصًا في هذا الظرف الوطني والمجتمعي الحالي، فالمؤكد أننا بحاجة لتأكيد هويتنا الوطنية الواحدة، كما وحدة أهدافنا وهمومنا، وتذويب الحواجز وأدوات الفصل التي يسعى الاحتلال لتكريسها، لا استحضارها وتقويتها ودعمها؛ الأمر الذي لا يقل خطورة كما يتضح في عديد من القضايا: تقدم العشائرية على حساب القانون وحكمه، ورجالها على حساب منظومات إنفاذ القانون ومنظومة القضاء، بل وخضوع الأخيرتين لما تفرزه الأحكام العشائرية.
الأعراف العشائرية والتقاضي بموجبها هي نتاج متقدم لمجتمعنا في زمن قديم، كرست توازنات القوى في ذلك الوقت داخل المجتمع، وحمت القيم السائدة أيضًا انذاك، لكن لا أحد يفضل التمسك بمنظومة بدائية للتشريع والقضاء، في مواجهة المنظومة القانونية التي يفترض أن تساوي بين الجميع.
إن المرأة والطفل والهوية الوطنية، وغير ذلك، هي ضحايا ثابتة لاستمرار العشائرية في تمددها على حساب القانون، هذا ما يتضح في العديد من حالات الإفراج عن مجرمين وقتلة بفعل أوراق الصلح العشائري، أو الدفاع عن ممارسات وسلوكيات خاطئة وخيانية في بعض الأحيان بداعي الولاء العائلي، ناهيك عن المحسوبية والزبائنية التي تكرسها هذه المنظومة.
من يدافع اليوم عن هذه المنظومات والانتماءات البديلة، يطالبنا بالتشبث بالماضي على حساب المستقبل، وبهيكل التسلط الاجتماعي، وتراتبيته المقيتة، وبكل ما حمله من ظلم، وليس بالقرابة ومحبة العائلة والأقارب، فهي منظومة لا لبناء التقارب، بل التنافر والتباعد والمشاحنة، وتعزيز أسباب وعوامل الاحتكاك والتفرق المجتمعي.
فلسطين التي ستطرد الاحتلال لن تفعل ذلك بفعل العشائر، أو بأعرافها التي تجاوز الزمن معظمها، ولكن بقوة مجتمعها الواحد الموحد، وتماسك بناه، ووضوح هويته، ووطنية هذه الهوية واستقلاليتها، هذا هو الطريق للغد والمستقبل الذي حلم به هذا الشعب وكل من ناضل لأجل حريته.