Menu

محمد النبي واجترار الحيونة

وليد عبد الرحيم

لا أريد الذهاب في جوقة المديح أو طوابير الهجاء، إذ أن محمداً ذاك النبي الاستثنائي حرص في أوائل مقولاته وأواخرها على إخراج البشرية من سطحية القول إلى عمق التفكير. كما لستُ بممانعٍ لذهاب العقل إلى تقييم علمي علماني ليطال النبي الأحدث والأبرز في تاريخ البشرية، بل إن علمانية التقييم هنا وبدورها تفترض النظر بحداثوية وانفتاح عقلي، وتُنّحي جانباً خلط تاريخ وشخصية محمد بسواه، سواء بمن كانوا حوله أو بمن ورثوا عقيدته ومقولاته وأخلاقه، فهؤلاء هم ربما منهم من كان أول من شوَّه مُراده وفحواه وعقيدته.

أن نتناول شخصية تاريخية، سواء كانت لأديب أو مفكر، نبي أو فيلسوف فإننا يجب أن ندرك كُنهها من خلال تجربتها ومقولاتها وأحداثها التي حصلنا عليها من مختلف المصادر، وهنا لا أدعو أحداً، بل لا أهتم مطلقاً، بمسألة أن تؤمن أو لا تؤمن بهذه الشخصية أو تلك. يعني ذلك أن تقييم أية شخصية كانت هو الذهاب إلى عمقها الذاتي والاجتماعي والنتاجي، لا أن يذهب القول إلى التمسك بسطحية الفهم وآلية التناول الببغاوية الصمَّاء.

يمكن الآن ببساطة أخذ الثورة الفرنسية كمثال على ذلك، أي الذهاب إلى التساؤل إن كان كل فرنسي اليوم يصلح كنموذج لتقييم الثورة الفرنسية، أو كل روسي لثورة لينين ، أو أي فلسطيني لتقييم ثورات أو قضية فلسطين.

إننا بذلك ندخل في مجاهيل شعبوية سطحية، بل وفي قبلية التقييم، ونبدو كمتخلفين بدائيين نجلس في مقاهي حديثة في باريس أو لندن ونتحدث بغباء مفرط عن أن الفرنسي المتخلف الحقود - مثل ماكرون مثلاً- ذا الثقافة المتدنية يمثل جان بول سارتر وآرثر رامبو وبودلير وجان جاك روسو!.

لماذا إذن يقيَّد البعض فكره في اعتبار المسلم، أي مسلم هو السفير الشخصي لمحمد؟!

إن مسيرة الرجل وشخصية – النبي الإنسان، المناضل لم تُورث لأحد بعده، حتى صحابته وأصدقاؤه وأهل بيته اختلفوا فيه وعنه في مناحٍ ومسارات كثيرة، وها نحن رأيناهم يتقاتلون بعد وفاته على الكرسي، ويعود كل منهم إلى قبيلته وعائلته وعصبويته - للعلم كانت هذه أول نزعة حاربها محمد-.

أدعو فعلاً وبتَجَّرُد وموضوعية وعلمية لتناول هذه الشخصية أو أية شخصية أخرى، بروح حداثوية منفتحة، ولا أدعوك بالمقابل، بل لا أهتم إن كنت ستؤمن بها كحاملة لرسالة إلهية أم لا فهذا شأن فردي، أي أن تتناول بالنقد المُعمق هذا التاريخ وتلك الشخصية عبر تقييم نقدي علمي...

ولد محمد بن عبد الله في مجتمع كان فيه من التخلف والهمجية ما يصل به إلى أن يئد البنات فور ولادتهن، فقد كانت قريش وبخاصة أشرافها تخشى أن تلطخ الفتيات سمعة وشرف الأب والعائلة، وعلى ذا نشأ الوأد، حتى أن عمر بن الخطَّاب ذاته فعلها، ولم يندم على دفنه لابنته حية، إلا بعد أن تبنى وآمن بفكر محمد، فقد استكشف إنسانيته، ومن المصادر المتعددة تستشف عشرات الأخطاء والجرائم والموبقات التي نهى عنها محمد، بل وحاربها بقوة، وهذا يعني أن محمداً الداعية الشجاع قد أثر في تحويل بنية وآلية توجه العقل الجمعي في قومه، ثم في المحيط، ثم في ما هو أوسع بشكل ثوري حضاري إيجابي، أول ثورته كان ذا توجه ثقافي مختلف، ومعرفي راقٍ، وهذا لم يكن أمراً سهلاً مطلقاً!

رفض محمد الأصنام وعبادتها والتقرب بها، لما رآه من سخافة وتخلف في هذه العادة الوثنية، وكان قومه يفعلون ذلك يومياً، فماذا لو خرج أحد المفكرين اليوم مطالباً برفض القيم والإيمانات السائدة عالمياً، مهما كان نوعها؟ ليتخيل كل قارئ النتيجة، هذا بعد خمسة عشر قرناً من دعوات محمد، حيث نعيش الآن في أبنية إسمنتية ونمتلك وسائل اتصال ونتاجات وتراثات علمية وتقنية مذهلة.

تخيلوا كم كان محمد ثائراً شجاعاً تقدمياً آنذاك قبل 1500 عام! للملاحظة في وقتنا الآن قوانين حديثة تمنع وتحاسب أي دارس موضوعي للهولوكوست مثلاً وتصفه بمعاداة السامية، كما وأية حقيقة لا ترضى أو تنتقد منطقياً أي تعريف للرواية اليهودية الصهيونية التي تستثمر ذلك سياسياً، بل وتشرع لذاتها من خلاله قتل الفلسطينيين واحتلال وطنهم الذي يعرفه ويعترف به العالم بأسره كأول بلد وحضارة بنيت على وجه الأرض، لا بل إن أنظمة "الديمقراطية والحرية" تساعد في ذلك وتدعمه.

 لا أتحدث هنا في السياسة، بل في الوحشية الإنسانية التي تشرع وتدافع عن الإرهاب والقتل على أساس غير منطقي وجنوني، وهو أن الرب يهوه شرع العنصرية والقتل والإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان لفئة ما، هذا الرب الوثن المصنوع بعقلية أسطورية خرافية يشبه تلك الأصنام التي حطمها محمد الثائر القرشي، الإنسان الحقيقي.

... عرضت قريش عبر أشرافها كل مغريات الحياة (المال، النساء، السلطة) على محمد، وفوَّضت عمه الذي يحب بذلك، لكنه أجابه بمقولته الصارخة العميقة "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر يا عمَّاه ما تركته". هل تصدر مقولة أو ممارسة كهذه من شخص تافه أو انتهازي أو غبي؟ إن مقولة كهذه لا يمكن أن تصدر إلا عن مُتيقن مؤمن عميق حر بقناعاته وفكره، لا تصدر إلا عن عظيم ثائر متقدم على محيطة بمسافات زمنية لا تُحدُّ!

لم ينفِ محمد رسالةً أو عقيدةً قبله، قيَّمها وأعطى رأيه بها نعم، والأهم أنه طرح البدائل العصرية المنطقية الحضارية، وفي وقت دعا فيه إلى الوحدة الإنسانية ونفي العنصرية سواء عبر اللون (أبيض البشرة وأسودها)، كما ساوى بين أبناء القبائل والأقوام بناءً على الميزة الفردية، وها نحن نجد اليوم بعد خمسة عشر قرناً من يقيّم الإنسان على أساس لون بشرته أو انتمائه القومي أو الديني. المضحك فعلاً أن ذلك يتفاقم عند دعاة الديمقراطية والحرية والليبرالية، أفراداً وجماعات وأنظمة، تتشدق كاذبة بأنها نموذج حضاري ديمقراطي حداثوي، في حين كرس محمد فكرة أن الأفضل هو الأنقى إنسانياً، وليس من يمتلك مالاً أو جاهاً أو سحنة لونية أو ينتمي لقبيلة قوية ما، فمن هو المتخلف ومن المتقدم؟ ألا ينسف ذلك المقولة والفلسفة العنصرية والبدائية وعقدة التفوق؟ ألا يتقدم محمد بذلك على دعاة الحرية اليوم، الذين يؤيدون مقولات عنصرية تصل إلى التسليم الغبي بالمقولة السخيفة المتخلفة، مثلاً - مرة أخرى - أن الرب الوثن يهوه أعطى فلسطين لليهود، وشرَّع قتل أبنائها وتشريدهم وقطع أشجارهم، من هو المتخلف إذن؟!

يخرج السطحيون مكررين كالببغاوات أن محمداً كان زير نساء، وكان همه الحصول عليهن، أي عاقل يصدق أن مثقفاً ومصلحاً فذاً مثله حقق كل هذه المقولات والأفكار والإنجازات وكان همه التفكير في مضاجعة هذه أو الاستيلاء على تلك؟!

لقد تزوج ثلاث عشرة امرأة، زواجاً مسجلاً، ولم يزن في حياته قط، أول هذه النساء خديجة، المؤمنة المسيحية التي كما يقول التاريخ أحبها حباً جماً وبكى لوفاتها كما لم يبك في حياته، ولم يطالبها بترك دينها أو يعايرها بعقيدتها، وهي للعلم الوحيدة التي أنجبت له الأبناء، وهذه المسألة بحاجة لدراسة أخرى. كما تزوج من يهودية، ومن قرشية ومصرية و و، كل ذلك كان زواجاً شرعياً بحسب معايير تلك الفترة، ولم يضع الجاريات والإماء، وحتى لو وضعهن كما يلفقون، فإن تلك قيم عصره وجغرافيته التي عاش بها!

كان الرومان يهيمنون على المنطقة كقوة احتلال جائرة، فبدأ محمد بوضع فلسفة وخطة للتحرير وتوحيد العرب والمضطهدين والعبيد والضعفاء، حالماً بعالم حر متسامح وأفضل، لا يهيمن فيه القوي على الضعيف، ولا الغني على الفقير، ولا المتسلط على العبد، لهذا يكرهه ويحاربه كل دعاة الجور والتسلط والهمجية والقتل وإرهاب الناس، وهم ما زالوا كذلك حتى اليوم. من الطبيعي أن كل من يدعم الإرهاب واللصوصية والتخلف والعنصرية واللصوصية أن يكره محمداً، وسيبقى هذا الأمر قائماً إلى أن ينتهي الجُبن والإرهاب والاستغلال وشتى سمات القذارة.

مرة أخرى أنا لا أطالبك بالإيمان بمحمد كنبي، بل كإنسان، كمصلح، كثائر، كشخصية تاريخية مؤثرة، وألا تنجرف لما يريده لصوص العالم الحديث، اقرأ وتابع وتفحص ولا تكن ببغاءً، كن إنساناً واعياً حقيقياً خالصاً. لا تؤمن بمحمد، آمن بإنسانيتك تصل إلى فحوى إنسانية وعمق محمد!

إنهم يريدونك أن تكون حيواناً مجتراً لمقولاتهم، لا إنساناً.. يريدونك أن تشبه حيوانات المستوطنين العنصريين النازيين الذين يحرقون أطفال فلسطين بالبنزين، ويسمون ذلك دفاعاً بأمر وثن عنصري مجرم!