Menu

حقائق وحقائق مضادة

ترجمة: عبد الكريم وشاشا

أود أن أعرض بعد الأفكار حول مفهوم الحقيقة في أعمال ميشيل فوكو (Michel Foucault)، وسأحاول أن تكون مفصلة ومبسطة للغاية، رغم أن مسألة الحقيقة عند فوكو معقدة، وفي نفس الوقت هي مسألة مركزية في فلسفته. وكانت هذه المسألة بشكل خاص حاضرة في آخر الدروس التي قدمها في كوليج دو فرانس، فقد كانت حاضرة، على سبيل المثال، عبر تحليل موت سقراط أو حول دراسته ل"لمدرسة" الكلبية (Les Cyniques) والسؤال الذي يمكن أن نطرحه عبر إعادة القراءة هذه، هو سؤال العلاقة بين الحقيقة والخضوع، وبين الحقيقة والعصيان.

نجد لدى فوكو، أن الحقيقة هي هيأة، وتعبير شهادة للعصيان؛ الحقيقة هي بجانب الثورة والتمرد والمقاومة؛ هي بجانب "الانتفاضة الذاتية". إن هذا يتعلق بأمرين: أولًا، الحقيقة هي سلاح معركة، أداة صراع، والأمر الثاني هو أن الحقيقة تعبير موضوعي للحركة المنتفضة ضد السلطة.. ولكن سوف نجد في أعمال فوكو أيضًا كل ما هو معاكس لما سبق: الحقيقة هي كل ما تنتجه الطاعة.. الحقيقة طريقة من الطرق لانصياعنا؛ "الخطاب الحقيقي" أداة من أدوات الإخضاع.

هناك غموض وإبهام، وتوتر وربما حتى تناقض داخل فكرة الحقيقة التي نجدها عند فوكو: الحقيقة هي ما يجعلنا نطيع، وهي أيضًا تشير إلى تمردنا.. والسؤال الذي يجب طرحه في آخر المطاف هو: هل يجوز أن نتحدث عن الحقيقة هنا وهناك؟ ما هو إذن المشترك في مفهوم الحقيقة، مما يجعلها مقبولة وممكنة لكلا الاتجاهين وذات معنى؟ ومن المهم بمكان التمييز بين هذين الاتجاهين، النمطين.. النظامين للحقيقة: حقيقة الطاعة وحقيقة العصيان.

قبل الوصول إلى الدراسات الأخيرة لفوكو، إلى ما قد نطلق عليه: "نقطة التحول اليونانية"؛ يمكننا العودة بسرعة إلى ما يمكن أن نعتبره الانشغال الأول لميشيل فوكو في الستينيات والسبعينيات، وهو أركيولوجيا وجينالوجيا المعرفة، وخاصة العلوم الإنسانية؛ فالنقد الذي وجهه فوكو للعلوم الإنسانية يفترض مسبقًا تقسيم أولي بين حقائق "معيارية" من جهة، ومن جهة أخرى حقائق "متأصلة"، ففي سنوات السبعينيات أنشأ فوكو مفهوم المعيار، الذي هو نمط معين من السلوك، نجده في عدد من المؤسسات، مثل: المدرسة والمصنع والجيش، مفروض كشكل من أشكال الانضباط تحت طائلة العقوبة.. فالعلوم الإنسانية بالنسبة لميشيل فوكو من علم النفس إلى علم الجريمة، تعمل على بناء هذه المعايير وإضفاء الشرعية عليها داخل خطاب الحقيقة؛ ضامنة محتواها المعرفي.. الانضباط ينتج العادة كواقعية، وقاعدة شائعة للسلوك الفردي. العلوم الإنسانية تحدد المعيارية كأنها حقيقة السلوك.. بهذا، فالعلوم الإنسانية بالنسبة لفوكو ليست علوم مضللة ولا إيديولوجيات، ولكنها تضع خطاطة الحقيقة لواقع أنتجته للسلطة، وكل ما تصفه لا يندرج أساسا من الأنتربولوجيا، ولكن من الأنطولوجيا السياسية. ومع ذلك يمكن لهذا المشروع التأديبي التنميطي للحياة أن يثير المقاومة، فالواقع المتأصل الذاتي يثور وينتج في تمرده "حقائق مضادة"، والتي هي ليست أراجيف وأكاذيب وخدع وقحة؛ تثير اللغط، لكنها شهادات حول استحالة تنميط الحياة وتبخيسها في المعيارية...

 فخلال هذا العمل الطويل والأول في السبعينيات قام ميشيل فوكو بالوصف التاريخي لتشكيل الحقائق التأديبية السلوكية في الغرب الحديث، وطرح أسئلة خاصة حول وظائفها السياسية والاقتصادية، والرهان هو في الواقع أن نفهم انطلاقًا من هذه الأبحاث الدقيقة إلى أي مدى هذه الحقائق التأديبية هي في خدمة الدولة التي تقوم بمراقبة الشعب وتضمن النظام العام، وأيضًا إخضاعها لاقتصاد رأسمالي يشترط استخراج واستخلاص أقصى فائدة من كل جسم؟

ابتداءً من الثمانينيات في قراءة فوكو للفلسفة القديمة، سيتم التركيز على حقائق المقاومة؛ ففي الدروس التي قدمها سنة 1984 – وهي سنة وفاته- اقترح ثلاثة من أشكال للمعارضة.. أولها، قد تم النظر فيها سنة 82، وهي المعارضة التي يمكن أن نسميها "الحقائق الثقافية" و"الحقائق الأخلاقية"، وما أسميه هنا الحقيقة الثقافية هو عنصر معرفة؛ محتوى معرفي؛ حقيقة علمية التي تزيد فقط من رأس مال معرفي، ومن هوة التمييز بين الأقلية المتعلمة وبين جماهير جاهلة.. اكتساب هذه الحقيقة لا يحتم تحول أخلاقي.. لا ينتج تعديلًا للعلاقة مع الذات والعلاقة مع الذات.. يمنح المزيد من القوة الاجتماعية، لكنه لا يعطي المزيد من الاتساق.. الحقائق الثقافية هي المعرفة المكتسبة، حقائق متخصصة ومعترف بها أكاديميًا؛ تسمح أن يتقاسمها الكهنة والعلمانيين، بين أصحاب الشواهد، وبين الذين لا يتوفرون عليها، بين النخبة المثقفة والشعب الجاهل.. إنها تجعل من الممكن إرساء الهرمية داخل المجتمع والاختلافات التنظيمية، لزيادة السيطرة على الآخرين وإنتاج التبعية.... (....).