Menu

انتفاضة الحجارة المغدورة بمبادرة السلام ووثيقة ستوكهولم وباتفاقيات أوسلو

عليان عليان

خاص بوابة الهدف الاخبارية

من حق شعبنا الفلسطيني أن يتغنى ويفاخر بانتفاضة الحجارة (1987-1993) في الذكرى (33) لانطلاقتها، لعدة اعتبارات منها: أنها كشفت عن مخزون كفاحي هائل لدى الشعب الفلسطيني، وبرهنت أن هذا الشعب قادر في أصعب اللحظات التاريخية، على اشتقاق أساليب للمقاومة لم تخطر على بال المطبخ الأمني الصهيوني، أساليب وأشكال متنوعة شملت المظاهرات والاعتصامات والإغلاقات والعصيان المدني، والهجمات التي لم تتوقف على جنود الاحتلال والمستوطنين بالحجارة والمولوتوف.. الخ، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن هذا الشعب الذي أفرز قيادة موحدة للانتفاضة، ضمت كافة الفصائل والقوى الشعبية الفلسطينية، لم يكتفِ ببناء قيادي فوقي ونخبوي، بل شكل لجان شعبية للانتفاضة في كافة مدن ومخيمات وقرى الضفة والقطاع، مهمتها الابداع في تنفيذ برنامج القيادة الموحدة النضالي، واشتقاق المهمات التي تقتضيها المواجهات مع الاحتلال في سياق لا مركزي. ومن جهة ثالثة، فتتمثل في انخراط كل طبقات الشعب فيها، من عمال وفلاحين وبرجوازية متوسطة وطلاب وحرفيين وصناعيين، في صورة عكست طبيعة القوى الاجتماعية المنخرطة في كفاح التحرر الوطني.

شكلت الانتفاضة بشموليتها الجغرافية والديمغرافية والطبقية، في جوهرها امتداداً تاريخيا لإضراب وثورة 1936 التي كان بالإمكان أن تحول دون نجاح المشروع الصهيوني وقيام دولة الكيان الغاصب عام 1948، لولا الطبيعة الطبقية لقيادة تلك الثورة التي استجابت لنصائح الرجعيات العربية بوقف الثورة والاضراب، تحت زعم أنها حصلت على وعد من الصديقة بريطانيا بوقف الهجرة اليهودية والاستيطان. ولا يتسع المجال هنا لتعداد إنجازات انتفاضة الحجارة، إن على صعيد تحطيمها لمعنويات جيش الاحتلال، الذي تم جره من قبل أطفال الانتفاضة إلى حواري وأزقة المدن والقرى في معارك لا تتوقف بين كر وفر، وإن على صعيد  التضامن الشعبي العربي والعالمي غير المسبوق مع الشعب الفلسطيني من أجل نيل حقوقه الوطنية المشروعة، وإن على صعيد تحويل الكيان الصهيوني إلى كيان معزول دولياً، بعد أن شاهد العالم بالصوت والصورة مدى جرائمه وفاشيته، وهو يعتقل الأطفال ليدق أيديهم وأرجلهم ورؤوسهم بالحجارة في جبال جرزيم وعيبال وغيرها، وإن على صعيد وصول العدو إلى حالة من اليأس والإحباط، دفعت الجنرال اسحق رابين ليصرخ بأعلى صوت "فليبلع غزة البحر"، ناهيك أنه لو لم يجرِ استثمار هذه الانتفاضة بصورة سلبية من قبل القيادة، لأنجزت الكثير على النحو الذي أشار إليه حكيم الثورة د. جورج حبش بقوله: "بأنها نقلت الحقوق الوطنية الفلسطينية من دائرة الإمكانية التاريخية  إلى حيز الإمكانية الواقعية".. لكن شعب الانتفاضة العظيم، الذي أنقذ منظمة التحرير من مأزقها بعد الخروج من بيروت عام 1982، وبعد أن قدم على مدى ستة أعوام من عمر الانتفاضة، ما يزيد عن (1300) شهيد و(90) ألف جريح، و (60) ألف معتقل، هذا الشعب لم تكن قيادته على مستوى نضالاته وتضحياته، حين راحت هذه القيادة، تبحث عن استثمار بائس لدماء الشهداء وأنات الجرحى وعذابات الأسرى، عبر طرح مبادرة سياسية في الدورة (19) للمجلس الوطني الفلسطيني ( 12-15 تشرين ثاني ( نوفمبر) 1988، تقوم على أرضية القرار 242 مع محاولة إضافة عبارة "حق تقرير المصير" في تجاهل تام  لرفض هذا القرار من قبل جماهير شعبنا الذي يتضمن عملياً الاعتراف (بإسرائيل)، وهذه المبادرة على مخاطرها، كانت محطة للتنازل أكثر فأكثر، عما تضمنته من بنود في اجتماعات ستوكهولم في تشرين ثاني (نوفمبر) 1988، بناءً على مبادرة من وزير خارجية السويد "ستيف أندرسون" وبحضور وفد فلسطيني برئاسة خالد الحسن، ووفد من يهود الولايات المتحدة، اتفقوا فيه على نص مشترك لخطاب عرفات المرتقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يتضمن : "الدعوة لعقد مؤتمر دولي، "وأن المجلس الوطني الفلسطيني يقبل بوجود إسرائيل بما هي دولة في المنطقة، ويرفض الإرهاب ويندد به في جميع أشكاله".

وعندما عاد الوفد اليهودي إلى الفندق، وأمعنوا النظر في النص المشترك، لم يصدقوا ما كانوا يرونه، "وكان انطباعهم أن منظمة التحرير لم تذهب قط إلى هذا الحد الذي ذهبت إليه في اعترافها بإسرائيل ". ثم عقد لقاء "ستوكهولم الثاني بتاريخ 5 كانون أول "ديسمبر 1988، بحضور الوفد السويدي، والوفد اليهودي، والوفد الفلسطيني بقيادة أبو عمار وعضوية كل من بسام أبو شريف، ومحمود درويش، وأكد أبو عمار خلال الاجتماع، بأن كل شيء قد قيل في المجلس الوطني في الجزائر، وطلب الوفد اليهودي أن تقبل منظمة التحرير إسرائيل كما هي، بينما ربط عرفات تنازلاته بوجوب حصوله على شيء خشية اتهامه بأنه استسلم بدون مقابل.

وعندما تعثرت المفاوضات بين الطرفين، اقترح أبو عمار إدخال توطئة تذكر بقرارات الجزائر، وأكد أن الاعتراف بإسرائيل، الذي أعلن في الجزائر من قبل البرلمان الفلسطيني يلغي ويبطل الميثاق الوطني، ولكن أحد اليهود أصر على أن يكرر عرفات عبارة "تلغي وتبطل" فوافق  أبو عمار على ذلك؛ وفي ختام المحادثات عقدت ندوة صحفية مشتركة، تم الاعلان فيها عن وثيقة إستكهولم  1988، وجه جورج شولتز بعدها رسالة إلى ستين أندرسون تتضمن الشروط الأمريكية لفتح الحوار مع المنظمة، وقام وزير خارجية السويد ، بعرض شروط "جورج شولتز"  على " ياسر عرفات "  أثناء وجود الزعيم الفلسطيني في ستوكهولم، فوافق عليها جميعاً  وحصل منه على خطاب رسمي بقبولها، حيث تضمنت: إن منظمة التحرير على استعداد للتفاوض مع إسرائيل، في إطار مؤتمر دولي لتسوية شاملة للصراع العربي- الإسرائيلي على أساس قراري الأمم المتحدة 242 ، و338 / إنها تتعهد أن تعيش في سلام مع إسرائيل ومع كل جيرانها، وأن تحترم حقهم في العيش بسلام وضمن حدود آمنة ومعترف بها، وبذلك سوف تكون الحكومة الديمقراطية الفلسطينية التي ننشد إقامتها في الأراضي المحتلة منذ  سنة 1967 / إنها تدين أعمال العنف الفردي والجماعي وإرهاب الدولة في كل صورها ، ولن تلجأ إلى شيء من ذلك.

وكان ثمن كل هذه التنازلات، أن توافق الإدارة الأمريكية فقط على بدء حوار مع قيادة منظمة التحرير، ولم تكتفِ الإدارة الأمريكية آنذاك، بما تقدم من تنازلات في اجتماعات هلسنكي، "التي جرى تضمينها في خطاب رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة في جنيف في 13 كانون أول ديسمبر (1988)، بل طالبت بتظهير هذه التنازلات أكثر فأكثر في المؤتمر الصحفي لأبو عمار الذي أعقب الخطاب.

 ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل وصلت الأمور إلى عنق الميثاق الوطني الفلسطيني مرة أخرى، حين زار رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة باريس، وحظي باستقبال الرئيس الفرنسي ميتران له، حيث دفع رئيس المنظمة، ثمن هذا الاستقبال بقبول نصيحة وزير خارجية فرنسا رولان دوما، بأن يكافئ  ميتران على استقباله له بإلغاء الميثاق، فكان أن دخلت مفردة "Caduc كادوك" القاموس السياسي الفلسطيني.

ولم يتم الغدر بالانتفاضة ومفاعيلها، بما جرى فقط في هلسنكي وجنيف وباريس، بل عملت هذه القيادة على قبر الانتفاضة في اتفاقات أوسلو عام 1993، بعد أن أدارت ظهرها لما كان يدور في مفاوضات "الكوريدور" في واشنطن – بوصفها أحد مخرجات مؤتمر مدريد 1991، التي كان يقودها الدكتور حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني وحنان عشرواي وغيرهم، حين أصر هذا الفريق على بدء التفاوض في قضايا الصراع الرئيسية " القدس ، اللاجئين، المستوطنات، الحدود، المياه"، قبل الحديث عن موضوع الكيان الفلسطيني. وجاءت قيادة المنظمة للتفاوض من وراء ظهر هذا الفريق لتقلب الهرم، ولتبدأ بالتفاوض حول الحكم الذاتي، ولتؤجل قضايا الصراع الأساسية "القدس والمستوطنات واللاجئين وغيرها" إلى مفاوضات الحل النهائي، دون إسنادها بقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ذات الصلة، ولتعترف بحق إسرائيل في الوجود ولتعلن نبذ الإرهاب، الذي جرى ترجمته لاحقاً وحتى اللحظة بالتنسيق الأمني مع الاحتلال.