حين صوّب مقاتلو الجبهة الشعبيّة أسلحتهم تجاه جحافل الأمن الصهيوني في مطار اللد، أو اقتادوا الطائرات تباعًا لتفجيرها في مطار الثورة، لم يكن ما يحدث هو محض عمليات عسكريّة استثنائية من حيث القدرة على التخطيط ومباغتة العدو والخصوم فحسب، بل بالأساس تغيير في تعريف ومعايير التمرّد على المنظومة الإمبرياليّة، وإعادة تعريف للفعل الثوري، وهو أمر لا يأتي من حسابات الميدان أو بقياس للقدرات العملياتيّة والتنفيذيّة، بل بالأساس من الرؤيّة التي حملتها الجبهة لكفاحها.
شموليّة المعركة مع العدو الصهيوني والمنظومة الامبرياليّة، اقتضت في عرف الجبهة وأدبياتها أيضًا وحدة معسكر الشعوب والقوى الرافضة للهيمنة الامبرياليّة؛ وحدة وضعت في قلبها الأمة العربيّة وكفاحها ضد المنظومة الاستعماريّة وعملائها من نظم الرجعيّة العربيّة، وعملت على تضافر جهود المناضلين من شعوب العالم ضد هذه المنظومة.
تجاوزت الجبهة في هذا المفهوم كل تلك الحدود التي فرضتها القوى الاستعماريّة وحتى العقليات التقليديّة في قوى التحرّر الوطني، فضمت في صفوفها المناضلين من جنسياتٍ شتى؛ قاد هؤلاء ونفذوا العمليات لحساب الشعب الفلسطيني ولأجل حريّته بقرارٍ سياسي من الجبهة الشعبيّة الفرع الفلسطيني المتشكّل من حركة القوميين العرب، لتجمع الحلقات الثلاثة للنضال بشكلٍ عملاني.
لم يقتصر الأمر على هذه العمليات أو فكرة تجنيد "المناضلين الأجانب" من المؤمنين بمبادئ الجبهة وبكفاح الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته، بل امتد للاتصال الوثيق والتنسيق العمليّاتي مع العديد من القوى الثوريّة حول العالم التي استلهمت من كفاح الجبهة الشعبيّة ورؤيتها وأساليبها النضاليّة؛ فبقراءة لتجربة مجموعة ثوريّة ألمانيّة مثل مجموعة "بايدر- ماينهوف" يمكن فهم قدرة الجبهة كنموذجٍ ملهم، على كسر المُحدد الاستعماري الذي جعل الغرب مركزًا لهذا العالم، يدور كل شيء حوله ويعمل على تلبية مصالحه والامتثال لإرادته ومعانقة تفسيراته ورؤاه وتنظيره العنصري الاستعلائي، ففي عالم الثورة باتت الجبهة ومناضلوها من فقراء فلسطين والعرب، هم المركز الذي تستلهم تجربته في ضوء الموقع المتقدّم الذي احتلته في مجابهة المنظومة الاستعماريّة ورأس حربتها المشروع الصهيوني.
ما هو الخط الأحمر؟
لسنواتٍ طوال قامت المنظومة الرأسماليّة بنوعٍ من التعريف لمحددات الحرب، كحقلٍ عملياتي تخوضه بجيوشها المدعومة بالقدرة الإنتاجيّة الرأسماليّة الفائقة؛ فتفتك بشعوب العالم وتشن الحملات والحروب وأعمال الغزو الوحشي، التي يُقتل ضمنها ملايين من البشر حول العالم، فيما المركز الامبريالي يواصل امتصاص ثروات وموارد هذا العالم وتكديسه، وتجنّب مصالحها ومنظوماتها الحاكمة دفع أي تبعات له، ففي سياقٍ أرساه المُستعمر الرأسمالي للحرب؛ حظيت الياقات والمعاطف الأنيقة والمناصب بحصانة مصدرها الأساسي، وباعتبار هذا التعريف كان على فقراء العالم والشعوب المستضعفة وحدها دفع ثمن الحرب، فيما أعادت الجبهة تقديم تعريف جديد للحرب والصراع، حين أوصلت النار لقلب المنظومة الإمبرياليّة بعملياتها، وداهمت مصالحها وخطوط إمدادها بالطاقة المنهوبة من العالم العربي. حمل السياق الذي قدمته الجبهة للحرب مع العدو الصهيوني والمنظومة الاستعماريّة رؤية جديدة، يدفع بموجبها داعمي العدو الصهيوني ثمن دعمهم له، وتخسر نخبة المنظومة الاستعماريّة وذيولها وأدواتها من نخب العرب حصانتهم، لقد صوبت الجبهة السلاح للقلب والرأس، في هذه المنظومة.
لا يمكن حصر المفاعيل المباشرة وغير المباشرة لهذا النمط من الفعل الثوري، ولكن المؤكّد أنه أكسب الجبهة وفلسطين كقضيةٍ وشعب، مكانة خاصة ومركزيّة في معسكر الثورة ولدى القوى المنحازة لحقوق الشعوب، ففي بلدان المركز الغربي، تخلق تعريف جديد للتمرّد على المنظومة الاستعماريّة وارثها ومعاييرها والبراءة من جرائمها، هو الانحياز لقضايا الشعوب المسحوقة وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني، وممارسة العنف الثوري بأوضح تجلياته ضد المنظومة الاستعماريّة، آنذاك لم يكن التواجد في معسكر الثورة الممتد يعني تقديم ملاحظات نقديّة حول تناقضات ممارسات المنظومة الاستعماريّة مع دعايتها، بل كان المعيار هو السير على خط الدم والتضحية في سبيل هزيمة المشروع الصهيوني؛ هو السبيل الأساس الذي يعمد أصحابه باسم الثورة المعبر عن آلام ومعاناة وكفاح الملايين من أبناء الشعوب المقهورة.